سماحة السيد المرجع دام ظله مخاطباً جمعاً من الحجّاج العراقيين:

                                                                      

                                                                      يجدر بالمؤمن أن يعمل ما يجعله أهلاً لنيل رحمة الله تعالى ورعاية أهل البيت

 

 

أنتم أيها المؤمنون، وأنتنّ أيتها المؤمنات في سفرة عبادة وطاعة وفضيلة وهي حجّ بيت الله الحرام، وزيارة مراقد أهل البيت الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين، اغتنموا هذه السفرة فهي فرصة الحياة. فالملايين مثلكم يحجّون ويعتمرون ويزورون، ثم يعود قسم منهم بالثواب العظيم وبمغفرة الذنوب وبضمان مستقبل سعيد في الدنيا وفي الآخرة، وقسم يرجع بخفي حنين ـ كما يقول المثل ـ. فحاولوا أن تكونوا من القسم الأول. إن أبواب الرحمة والمغفرة والتوبة مفتوحة لكم، وهكذا باب السعادة، ورعاية أهل البيت سلام الله عليهم متوافرة، فيجدر بالمرء أن يجعل من نفسه أهلاً لنيل رحمة الله، ولائقاً لنيل فضله جلّ شأنه، وجديراً برعاية آل البيت صلوات الله عليهم أجمعين.

هذا ما أشار إليه المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله في إرشاداته القيمة التي ألقاها في بيته المكرّم بمدينة قم المقدسة يوم الخميس الموافق للخامس والعشرين من شهر ذي القعدة الحرام 1428 للهجرة بجمع من الأخوات والإخوة العراقيين أعضاء حملة (المعراج) القادمين من السويد والنرويج وهولندا للذهاب إلى حجّ بيت الله الحرام.

وقال سماحته أيضاً: هناك أحاديث مستفيضة وعديدة عن المعصومين صلوات الله عليهم ذكرت صفات للمؤمن بدونها لا يستحقّ الشخص أن يوصف بالإيمان بجدارة. ومن هذه الأحاديث قول مولانا الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه: «المؤمن... نفسه منه في عناء والناس منه في راحة»(1).

وأوضح سماحته: فالمؤمن الجيد هو الذي يحمّل العناء على نفسه كلما تعارض عناء نفسه وعناء غيره. والمقصود من قول الإمام سلام الله عليه (الناس منه في راحة) أنه لا يؤذي أحداً بكلامه وأقواله، وليس المراد أن الناس لا يخافون أن يقتلهم أو أن يخونهم في الأمانة وإن كانت هاتان وأمثالهما من الأفعال والتصرفات مشمولة، لكن المقصود الغالب هو ما يصدر من لسان الإنسان. فجراحات اللسان أحياناً تكون أشد أذى وفتكاً من السيف والرصاص. وبنسبة اتصاف المؤمن بهاتين الخصلتين يكون درجة إيمانه.

وأضاف سماحته: بعض الأشخاص مثقفين كانوا أو أُمّيين، وشيوخاً أو شباباً، عندما يجالسهم المرء يتجنّب الكلام معهم بدقّة أو أن يفصح عن كلّ ما في قلبه مخافة أن يستغلّوها في الطعن به أو التشهير به ومثل هؤلاء الأشخاص يحتاط منهم أكثر الناس ويتجنبون الحضور في مجالسهم أو في مجالس يحضرون فيها.

قال مولانا الإمام الصادق صلوات الله عليه: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله بَيْنَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ عِنْدَ عَائِشَةَ إِذَ اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله: بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ . فَقَامَتْ عَائِشَةُ فَدَخَلَتِ الْبَيْتَ وَ أَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله لِلرَّجُلِ . فَلَمَّا دَخَلَ أَقْبَلَ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ وَبِشْرُهُ إِلَيْهِ يُحَدِّثُهُ حَتَّى إِذَا فَرَغَ وَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَيْنَا أَنْتَ تَذْكُرُ هَذَا الرَّجُلَ بِمَا ذَكَرْتَهُ بِهِ إِذْ أَقْبَلْتَ عَلَيْهِ بِوَجْهِكَ وَبِشْرِكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله عِنْدَ ذَلِكَ: إِنَّ مِنْ شَرِّ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ تُكْرَهُ مُجَالَسَتُهُ لِفُحْشِه(2).

وفي سياق كلامه قال سماحة السيد الشيرازي حفظه الله: أنقل لكم قصة عن أخوين كانت لي معرفة بأحدهما لتنتفعوا منها وتعتبروا فالقرآن الكريم يقول: «لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأوْلِي الأَلْبَابِ»(3).

كان هذا الأخوان في السابق في العراق. وكان أكبرهما تاجراً ثرياً، أما الأصغر فكان يعمل عنده لأن وضعه المالي كان ضعيفاً، وكان الأخ الأكبر بمثابة الأب لأخيه فكان يدير وضعه ويرعاه. وقد عمل هذان الأخوان مع بعضهما لسنين وكأنهما شريكان، ولم يكن بينهما أي حساب. فالأخ الأصغر عاش وتزوّج وكوّن عائلة بمال أخيه الأكبر، الذي سمح لأخيه أن يأخذ من ماله كلما احتاج وبدون أن يستأذنه، ولم يعلم أحد بذلك حتى أبناؤهما، وبعد سنوات مات الأخ الأكبر. وحينما كان الأخ الأصغر مشغولاً بمراسم دفن أخيه كانت عائلة الأخير قلقة ومضطربة حيث كانوا يظنون أن العم سيضع يده على كل الأموال والممتلكات، لأنهم لم يكونوا يملكون مستمسكاً أو موثقاً يدلّ على ملك أبيهم للأموال والممتلكات، أو ما يدلّ على أن أباهم كان شريكاً لأخيه الأصغر ولكن بعد أيام زارهم العمّ وعزّاهم بوفاة والدهم وفاجأهم بقوله:

الناس يتصورون بأنّني وأخي المرحوم كنا شريكين ولعلّكم تتصوّرون ذلك أيضاً، لكن الحقيقة هي أنّ هذه الأموال كلّها لأخي المرحوم، وأنا لا سهم لي فيها، لأني منذ البداية عملت معه بصفتي عاملاً له لا غير. وهذه مفاتيح المحلاّت والمتاجر وكل ممتلكات أبيكم أضعها بين أيديكم. فإن كنتم راغبين في أن أستمرّ على عملي هذا بصفتي عاملاً لأبيكم فسأبقى، أما إذا كنتم غير راغبين فسأجمع كل السجلاّت والأملاك وأُسلّمها إليكم غداً.

عائلة المرحوم الذين لم يكن بحسبانهم هذه المفاجأة وتقوى الله وحفظ الأمانة من عمّهم، شرعوا بالبكاء وأجابوا عمّهم: من هو أفضل منك؟ ابق واستمرّ.

وعقّب سماحته: إن وجود أشخاص كالأخ الأصغر في هذه القصة لقليل في مجتمعاتنا. ولكن كل إنسان (رجلاً أو امرأة) يمكنه أن يكون هكذا في كل مجال، وليس في مجال الأموال والشراكة فقط. فالزوج يمكنه أن يكون هو المتحمّل للعناء أكثر من زوجته وأن تكون زوجته منه في راحة، وهكذا يمكن بالنسبة للزوجة تجاه زوجها، والوالدين تجاه أبنائهما، والإخوة والأصدقاء والزملاء بعضهم تجاه بعض.

وخاطب دام ظله الحاضرين مؤكداً: مناسبة الحج هي تجربة لكم فحاولوا أن تنجحوا في هذه التجربة بأن تكونوا مصداقاً لحديث مولانا الإمام أمير المؤمنين الذي مرّ ذكره آنفاً بأن تعزموا على أن تتحملوا أنتم العناء ويكون غيركم في راحة، في الذهاب والرجوع، وفي الأكل والشرب، والنوم والاستراحة، وتحت كل الظروف. فمن يتحمل العناء أكثر من غيره ويكون الناس منه في راحة يسعد في دنياه ويسعد في آخرته. وهذا بحاجة إلى عزم، ومن يعزم ينل التوفيق من الله جلّ وعلا.

........................................

(1) نهج البلاغة - باب الخطب - ص 303- خ 193 يصف سلام الله عليه فيها المتّقين.

(2) أصول الكافي - ج2- باب من يتّقي شرّه - ص 326- ح1.

(3) سورة يوسف: الآية 111.