العرب بين الفقر والإفقار

 

د. طيب تيزيني

 

 

تنتج الشعوب في تواريخها المديدة منظوماتها المتعلقة بالعادات والتقاليد والمواقف الحكيمة الحصيفة والأخرى الحمقاء الرعناء، وما بينهما، وكلتا الحالتين جديرة بالتمعن، بل بالبحث والتقويم، وهذا يندرج في حدود التراث الشعبي، وتجارب الشعوب، والمعرفة العامة وأهمية ذلك تتأتى من أنه مثل بدايات المعرفة الإنسانية، ومدخلاً إلى المعرفة العلمية المنظمة، وغالباً ما نواجه المعرفة الأولى (العامة) وقد انحلت في الثانية، وأصبحت جزءاً من نسيجها، وهذا شكّل أحد عوامل التعقيد في تاريخ المعرفة عموماً. ومن منجزات هذا التاريخ ما أتى في الحقل الإنجليزي (وحقول أخرى) تحت العبارة التالية: لا شيء يأتي بلا جهد إلا الفقر.

حقاً، الفقر يتلازم مع انعدام الجهد، ومع أن هذا الأخير سبب لحصول الفقر، إلا أن هناك أسباباً أخرى له، لن نتعرض لها الآن، ما نقصده الآن إذن الإشارة إلى أن حكومات عربية معينة تعلن لشعوبها أنها بذلت جهوداً كثيرة على طريق الإصلاح والتطوير والتحديث في بلدانها، وهي ما تزال تقوم بهذا "الجهد" لكن هذه الشعوب تتساءل على النحو المرير التالي: أين يُصرف ذلك "الإعلان الرسمي" عن ذاك الجهد المركب، في الوقت الذي نعيش فيه حالة متعاظمة من الفقر والإفقار على أيدي الحكومات المذكورة تكاد تقارب السلسلة الهندسية، فالحاجات الأساسية التي تحافظ على آدمية الإنسان، تقفز قفزات هائلة في أسعارها تحت وطأة اقتصاد يجري تقاسم عوائده بين من بيدهم القرار الأمني قبل الاقتصادي والسياسي. ووتائر الفساد والإفساد راحت تفصح عن نفسها عبر البنية المباشرة المعلنة للمجتمعات العربية المعْنية.

ومن طرف آخر متلازم مع ذلك الطرف الأول، يسجّل الباحث المراقب أنماطاً مستحدثة من اللف على حقوق الإنسان العربي في كل الحقول المجتمعية، وفي مقدمتها حق المواطنة والمشاركة الحرة. وإذا ما انتفض الناس دفاعاً عن كرامتهم وكفايتهم المادية وحريتهم، ووجهوا بما تتحدث عنه البيانات الخاصة بحقوق الإنسان الصادرة عن بعض المنظمات الدولية من اعتقال وتعذيب وحرمان من الحقوق المدنية إلخ. ومن شأن هذا أن يعني أن ما يُعرف بسياسة التلويح بالجزرة، هو نفسه لم يعد وارداً، لقد تحول الأمر إلى الخيار التالي: إما أن تقبلوا ما تقدمه النظم والحكومات الأمنية بطواعية وسلاسة بمثابته قدراً، وإما أن تقبلوا به قسراً!

إن حالة الفقر والإفقار المستندة في تحقيقها الى آليات تلك النظم، هي التي تقود مجمل الشعوب العربية إلى الفقر المعني، الذي يتحدث عنه المثل الإنجليزي، أما ما يراه بعض الباحثين والمفكرين والسياسيين العرب (ويشاطرهم فيه مستشرقون غربيون) من أن الشعوب العربية إنما هي مجموعات بشرية تكونت، من حيث الأساس، في الحقل التاريخي ما قبل العقلاني والإبداعي، وبصفتهم نماذج بشرية كارهة للعمل والإنتاج، وغير قابلة لتحمل المسؤوليات الكبرى والصغرى، وكذلك جبانة أنانية تدغدغ عواطفها رغبات المجون والجنس والخداع والخيانة إلخ، إن هذا الذي يراه أولئك يتحدر من رؤية لا تاريخية بالاعتبار المعرفي أولاً، وعرقية فاسدة بالاعتبار العلمي والأخلاقي.

والأطروحة التي يقدمها أولئك أو بعضهم في هذا المجال، مع الحفاظ على التضامن الشكلي مع الشعوب المذكورة، تتمثل في الاعتقاد بأن الفساد والإفساد اللذين اخترقاها، أطاحا بمنظوماتها القيمية الأخلاقية والمسلكية، بحيث يحتاج الأمر إلى نصف قرن لإعادة تقويمها. وهذا أمر - كما يقولون-غير واقعي وغير محتمل تحت وطأة الاستحالات والتحديات، التي تواجهها، إذن ثمة ثلاثة احتمالات أو أربعة لتدبير الموقف: إما القبول باليأس والخروج من التاريخ، وإما الاندماج طوعاً بالنظم العربية الأمنية؛ وإما البحث خارج الحدود، إذا سمح هذا الخارج بذلك؛ وأخيراً إما هذا جميعاً والدخول في عالم التفكك والفوضى القاتلة مع أوهام تتوهج وتنطفئ. هذا هو- على الأقل الآن- واقع الحال.

وكل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا ودون تعليق.

المصدر:alitihad-25-12-2007