الإصلاح الخاطف... انقطاع عن الجذور "الجمهورية"!

 

ديفيد بروكس 

 

 

تعود الجذور السياسية لحركة المحافظين الأميركيين الجدد، إلى إدموند بيرك الذي لم يكن ليدعو إلى عقيدة أيديولوجية أو إلى مذهب سياسي، وإنما دعا إلى فكرة الحفاظ على التقاليد وإثارة الشكوك في نوايا التغيير الراديكالي.

لكن ما إن بلغت هذه الحركة المحافظة حدود وسواحل الولايات المتحدة الأميركية حتى تحولت إلى عقيدة أو مذهب سياسي، حيث بنى المحافظون من دعاة السوق الحرة، عقيدة كاملة حول الحرية والرأسمالية. وفي الوقت نفسه بنى المحافظون الدينيون عقيدة دينية متكاملة حول مفهومهم عن النظام المتسامي وما وراء المادي أما في الجانب السياسي فقد بنى المحافظون الجدد وغيرهم عقيدة متكاملة أيضاً حول عبارات أبراهام لنكولن وغيره من المؤسسين الأوائل للديمقراطية الأميركية.

ومع مضي السنين والحقب، فقد طمرت حكمة إدموند بيرك تحت مياه هذه الطبقات المتراكمة من العقائد والمذاهب المختلفة. بل يصح القول إن صوت المحافظين الأيديولوجيين وحدهم هو الذي علا، في حين ضاع أو أهمل تماماً صوت حكمة بيرك المحافظة خلال العقود الأخيرة الماضية.

وكما نعلم فقد انتدب الحزب الجمهوري نفسه لتحمل عبء نشر قيم الحرية والديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط خلال السنوات الست الماضية. بيد أن حكمة بيرك المحافظة تقف بحكم طبيعتها التأملية، في شك عظيم من أي نوايا تهدف إلى إجراء إصلاح سياسي سريع وكما جاء على لسان بيرك نفسه، فإنه "ربما تفضي الجهود الرامية إلى إجراء إصلاح سريع، إلى بعض البدايات المرْضية السريعة أيضاً، إلا أن نهاياتها عادة ما تكون مُرَّة المذاق ومأسوفاً عليها".

وفي اعتقاد أنصار بيرك ومشايعيه أن العالم أشد تعقيداً من أن نتعجله بنوايا الإصلاح الخاطف السريع. ومن رأيهم أيضاً أن ترتيبات الواقع العيني عادة ما تنطوي على وظائف كامنة فيها، تتعذر رؤيتها أو استبدالها من قبل من يقدم على حركة الإصلاح. وهذا ما يفسر نزوع المحافظ المتأمل - من طراز بيرك - إلى تثمين التواضع المعرفي، أي تثمين الوعي بحدود طاقتنا على الفعل أو القصور عنه، وبما نستطيع أن نخطط له وما لا نستطيع.

وبالمقارنة، فقد عمدت إدارة بوش خلال السنوات الست الماضية إلى العمل بناءً على الافتراض القائل إنه وفي حال تغييرها للمؤسسات السياسية القائمة في العراق، فإن من الحتمي والطبيعي أن يتبع ذلك تغيير المجتمع أيضاً.

لكن وخلافاً لذلك، فإن مشايعي بيرك يعتقدون أن المجتمع - أي مجتمع - هو عبارة عن كائن عضوي تحركه في المقام الأول عوامل العادات والتقاليد والأعراف والسلوك، وأن مؤسسات الحكم الناجحة إنما تنشأ تدريجياً من منظومة الشبكة الفريدة الخاصة بأي مجتمع من المجتمعات، بمكوناتها وكوابحها الأخلاقية والاجتماعية معاً.

وعلى امتداد السنوات الأخيرة الماضية، انكب نائب الرئيس ديك تشيني والمدعي العام الأميركي جونزاليس على توسيع صلاحيات ونفوذ السلطة التنفيذية-على نحو غير مسبوق في التاريخ الأميركي القديم والحديث- باسم حماية أميركا والأميركيين من مهددات الإرهاب.

بيد أن النزعة الدستورية المحافظة التي بشّر بها بيرك وأنصاره، ظلت تعتقد دائماً أنه يجب لف السلطة وتقييدها دائماً بدثار من الدستور والقانون. أما المحافظ الجديد الأيديولوجي المتسرع، فعادة ما تهمه الوسائل وليس الغايات  ومن هنا فإنه يتعجل إلى معرفة الكيفية التي يتم بها توزيع السلطة، قبل أن يثير السؤال الجوهري والأهم: ما الغاية التي تستخدم من أجلها السلطة أصلاً؟

وخلال العقد الماضي، دعا المحافظون الجدد الدينيون في صفوف الحزب الجمهوري، إلى ضرورة إقامة السياسات العامة للبلاد على رشاد الحقائق الكونية الأزلية التي تشكل القانون الطبيعي.

ومن هنا فقد كان من رأيهم أن الأسئلة العلمية التي تثار من حين لآخر حول أبحاث الخلايا الجذعية وغيرها، إنما يجب أن تعكس حقيقة القدسية الثابتة للحياة الإنسانية. بيد أن لدى المحافظين التأمليين شكاً بالغاً إزاء إقامة القضايا على مطلقات الحقائق وتجريداتها النظرية.

ومن رأيهم أيضاً أن القوانين الأخلاقية إنما تنشأ من خلال التداول والحوار، ومن واقع التجربة والممارسة العملية. وفيما لو كان سيصدر تشريع قانوني من شأنه أن يعيق تقدم الطب والعلم، فإنه يجب ألا يصدر بناءً على اللاهوت المجرد والأرثوذكسية الجامدة.

وكما تلاحظ، فقد وضع محافظو السوق الحرة في أوساط الحزب الجمهوري، خلال العقود الأربعة الماضية، فكرة الحرية في قلب فلسفتهم السياسية وجعلوها محوراً لها وفي مقابل ذلك فإن السلطة التشريعية هي التي تشكل محوراً رئيسياً للفلسفة السياسية لإدموند بيرك ومشايعيه من المحافظين الدستوريين.

وبهذا المعنى فإن الأيديولوجية المحافظة الجديدة تنظر إلى نظام الحكم وجهازه التنفيذي باعتبارهما مهدداً للحرية، في حين ينظر إليهما المحافظ الدستوري باعتبارهما ظاهرة أشبه بالنار... فهي مفيدة متى ما اتسمت بالشرعية، وحارقة وعلى درجة من الخطر ما إن يساء استغلالها.

وفي غضون العقود الأخيرة الماضية، كان الحزب الجمهوري قد تصدّر سباق الإصلاحات الرامية إلى تعزيز سلطة الفرد على حساب سلطة المجتمع، عبر سلسلة من التخفيضات الضريبية والنظام التقاعدي الخاص، والحسابات الفردية الخاصة بالضمان الصحي.

وفي ذلك تناقض صريح مع الفلسفة المحافظة الأم، والتي توازن ما بين حرية الفرد وسلطته، وتماسك النسيج الاجتماعي وسلطته. فلا حرية للفرد تعلو على حرية المجتمع مهما كان شأن الفرد ومكانته في المجتمع. وهكذا فقد تناقضت فلسفة الحزب الجمهوري مع جذورها الفلسفية الأم في كل شيء تقريباً.

غير أنه يلزم القول إن الفلسفة الأميركية المحافظة لن يكتب لها النجاح إلا حين تحتكم نزعتها المذهبية المعاصرة إلى جذورها الأم، وتعود إلى سيرتها الأولى في حكمة ودستورية مؤسسها إدموند بيركلي.

*كاتب ومحلل سياسي أميركي

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق.

المصدر: الإتحاد الإماراتية- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"-6-10-2007