"حمقى الاختصاص" رغماً عنهم!

 

د. طيب تيزيني 

 

 

نستعير الشطر الثاني من عنوان هذه المقالة من عنوان مسرحية قدمها الشاعر المسرحي الفرنسي "موليير" بعنوان "المريض المغرور"، ولكنها تُرجمت إلى العربية بعنوان آخر هو "الطيب، رغماً عنه". وعاش الشاعر الكاتب ما بين عامي 1622 و1673، مع الإشارة إلى أن صيغة العنوان العربية يمكن أن يحتملها نص المسرحية.

كيف يمكن أن يكون المرء غير ما هو عليه، وكيف يمكن أن يسمّى بغير اسمه؟ هذا ما أجاب عليه "موليير" بطريقته المسرحية الساخرة، وعلينا نحن أن نجيب عليه انطلاقاً من الحقلين العلمي التخصصي، والسوسيوثقافي العمومي. فليس من حق أحدٍ أن يشكك في أن الفيزيائي يحمل اختصاصه في الفيزياء، والكيميائي في الكيمياء، والمعلوماتي في المعلوماتية... إلخ.

ذلك أصبح جزءاً صميماً من العلم وتطوره، بعد الانتهاء من عصر الموسوعية، أي أن يتخصص الشخص بكل العلوم والأنساق المعرفية المرتبطة بها، بقدْر أو بآخر، وإذا كان ذلك العصر قد ظهر متوافقاً مع الوتائر المتباطئة نسبياً لتطور العلوم أولاً، ومع غياب مطلب الإلحاح على قضية تصنيف العلوم ضمن دوائر معينة متقدمة ثانياً، فقد كان العلم ينمو- في مساره البطيء والمعقد - وفق الآلية التي سلكتها وتسلكها الحكمة. فالحكيم كان مدعواً إلى أن يجيب على الأسئلة كلها، وأن يبحث في كل المشكلات، ويجد حلولاً لها، وفي ذلك كان معذوراً، وإن كانت أجوبته عمومية وربما خاطئة أو غير دقيقة أو ذات طابع أسطوري، ذلك كان طابع العصر، ما قبل التخصص العلمي المتقدم، وكذلك حيث تسهم العلوم الطبيعية في إغناء العلوم الأخرى في قضايا المنهج وغيره.

إن الدعوة إلى الإنغلاق على الاختصاص اتضح أنها تحرم الفئتين من العلوم من عملية يمكن أن تكون عميقة وضرورية للإجابة على بعض المشكلات العالقة لديهما من طرف، وتشكك في دور العلوم الاجتماعية والإنسانية في طرح أجوبة أو مشاريع في المجتمع (العربي هنا) لإخراجه من أزمته العميقة من طرف آخر. ويلاحظ أن النظم الأمنية في هذا المجتمع تسعى، بجدية ومثابرة، إلى اختراق الوسط العلمي وإقصائه عن وظائفه الرئيسية فيه، فكليات العلوم الاجتماعية والإنسانية تعيش حاله من الهُزال والاضطراب، بل حالة من الحُطام والهزيمة. فقلما تجد عالماً أو باحثاً أو أستاذاً يمتلك الحرية في عمله الجامعي والعلمي العمومي، خصوصاً في حقول الدراسات السياسية والسوسيولوجية الميدانية والقيمية. ها هنا يجد كلٌ من هؤلاء نفسه أمام جدار عازل عن علمه وطلبته ومهماته العمومية في المجتمع، ناهيك عن الأعداد المتزايدة لأساتذة تحولوا إلى سيف للسلطة.

إن ذلك كله يضعنا أمام نتيجة طريفة وخطيرة، تتمثل في أن الدعوة للبقاء في عوازل "اختصاصية" إنما هي دعوة فاسدة لمن يعنيهم الأمر للبقاء خارج "ما يُتعبهم ويخرجهم عن حدودهم الاختصاصية"، إنها باسم العلم دعوة زائفة لتحنيط اختصاصاتهم. وقد قاد ذلك، في حالات معينة، إلى اعتبار "علم تنظيم العلم" والمؤسسة العلمية إنما هو حالة خصوصيتها تتصل برفض تجارب الآخرين في هذا الحقل، إنها، إذن، دعوة قسرية للزوم "الحدود" ولتحويل الباحث والأستاذ إلى "اختصاصي مغلق" رغماً عنه، وبحكم امتداد النظام الأمني في الجامعات.

ومع التطور الزراعي والصناعي ونمو الحاجات الإنسانية والمهارات العقلية يداً بيد مع تقدم مطرد لتقسيم العمل، أخذت لوحة معرفية جديدة في الظهور تقوم على تعددية العلوم وفق تعددية الحقول الطبيعية والمجتمعية، وهكذا تخلقّت العلوم المفردة بدءاً بعلم الميكانيك ووصولاً إلى علم النفس، وذلك في سياق نشوء مؤسسات علمية رسمية ومدنية راحت تهتم بها وتقدم لها حوافز. فكان ذلك - مع تطور اقتصادي رأسمالي مطرد- بمثابة تهيئة للثورة العلمية التكنولوجية الحديثة والمعاصرة، وكذلك بمثابة نتيجة لهذه الثورة، في آن واحد.

إن إحدى النقاط، التي تهمنا الآن من ذلك، تتمثل في أن النزوع إلى التخصص بكيفية عاصفة أدى إلى شرخ، أخذ في التعمُّق بين العلوم، وراح يجتاح وحدتها ويهدد التعاون بينها. وشيئاً فشيئاً ظهر أن ذلك أنتج حالة من التبعثر في علاقات العلوم بعضها ببعض، بحيث أصبح الأمر بمثابة جزر منفصلة عن بعضها. وازداد الأمر اضطراباً، حين راح علماء يشددون على ضرورة إقصاء العلوم الاجتماعية والإنسانية عن الأخرى الطبيعية، بحجة أن الأولى لا ترقى إلى مستوى "العلم"، وأنها أقرب إلى الأيديولوجيا منها إلى هذا الأخير. وبالرغم من ذلك، فنّد علماء كبار مثل بلانك وآينشتاين ذلك الرأي، حين نظروا إليه بمثابة تصديع لوحدة العلوم أولاً، ومن حيث هو إبعاد لعلماء الطبيعة عن المساهمات التي يمكن أن تقدمها العلوم الاجتماعية والإنسانية للعلوم الطبيعية ثانياً، خصوصاً فيما يتصل بوظائف العلوم عموماً في الحقول السياسية والأيديولوجية والإنسانية.

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق.

المصدر:الإتحاد الإماراتية-2-10-2007