لا تغير في جوهر السياسة الخارجية البريطانية

 

 

عادل درويش

 

 

لم يكد دافيد ميلليباند، ينهي اول خطاب له كوزير خارجية، لتحديد سياسة بريطانيا الدولية، الثلاثاء، في المؤتمر السنوي لحزب العمال الحاكم في بورنموث على القنال الانجليزي، وتليفوني الموبايل (المحمول) لم يتوقف عن الرنين لأربع وعشرين ساعة، فمحطات التلفزيون والإذاعات، والوكالات، في جولة استفساراتهم المعتادة من المعلقين السياسيين، عن اي تغيير «جوهري» اشتموه في السياسة الخارجية للبلاد.

ميلليباند، 41 عاما، اصغر وزير خارجية عمالي، منذ 30 عاما، لم يختبر المراقبون بعد المفاتيح اللغوية في تعبيراته، فالتزمت الشبكات العالمية الحذر في تفسير المقصود. اتجه المعلقون، وأنا لست استثناء في ذلك، الى وضع نظارات السياسة المحلية، وليست العالمية، لقراءة الخطاب، بافتراض ان رئيس الوزراء غوردون براون سيفاجئنا بالدعوة لانتخابات خاطفة، في خلال ستة اسابيع.

لم اجد في بورنموث ما يشير لتغيير جوهري في استراتيجية السياسة الخارجية للبلاد (والثابتة لأربعة قرون، رغم استقلال المستعمرات وتحول بعضها الى قوى عظمى سياسيا او اقتصاديا او كليهما).

وعلى النقيض، فإن عددا من الصحفيين المصريين والعرب، اعتبروا كلمة ميلليباند، تحولا ثوريا ومخاصمة للاستراتيجية الامريكية وطعنات لظهر الرئيس جورج بوش، ورئيس الوزراء السابق توني بلير، وهما العدوان اللدودان للتحالف الثلاثي، القومجيين، والاسلاموجيين، والماركسيين، التحالف بحضوره المؤثر الدائم في الصحافة المصرية والفضائيات العربية.

الواقع ان كلمات الاغنية والأدوات الموسيقية والأنغام لم تتغير، وإنما تغير المغني وأعيد توزيع الالحان، لهدفين. اولهما، اخذ المستمعين العرب والمسلمين على قد عقلهم، حفاظا على المصالح الاقتصادية والاستراتيجية في الشرق الاوسط ؛ والثاني استمالة الصوت الانتخابي المسلم هنا بتركيز ميلليباند على تعلم «الدرس» بعد سوء تفاهم اعتقد معه المسلمون خطئا «اننا (كحكومة بريطانية) نحاول السيطرة عليهم بدلا من حقيقة جهودنا لتقوية حضورهم ومشاركتهم السياسية». بجانب الاحتفاظ لدى الرأي العام على تقدم العمال بـ 11% على حزب المحافظين المعارض، اذا ما قرر براون اجراء انتخابات مفاجأة في نوفمبر.

ركز براون، منذ دخوله 10 داوننغ ستريت هذا الصيف على كلمة «التغيير»، لتوحيد الصفوف العمالية بعد الانقسام الذي سببته سياسة بلير، بمحاكاته سياسة المحافظين اقتصاديا، وفي حرب العراق بتحالفه مع امريكا التي يعاديها اليساران العمالي والإعلامي، بحرب العراق او بدونها.

براون، كسياسي ماكر، يغير اسلوب التعامل مع الصحافة ولغة التواصل مع الناخبين، وليس جوهر السياسة البليرية، داخليا او خارجيا. فلماذا يبدل سياسة قبلها الناخب، عبر صناديق الاقتراع، ثلاث مرات متتالية؟.

كرر براون، في خطابه للمؤتمر الاثنين، كلمتي «بريطانيا» و«بريطاني» 59 مرة ومشتقاتها كالشعور الوطني البريطاني، والأمة البريطانية 22 مرة. والسياسي هنا، ليس كديماغوغي زعماء الانقلابات العسكرية، لا يستخدم هذه اللغة الا مرة واحدة كل بضع سنوات استعدادا لخوض الانتخابات العامة.

ميلليباند كرر كلمات «الدرس» و«الدروس المستفادة»، وترجمتها الاعتراف بوقوع اخطاء. وذكرني هذا بعبارة «جئت هنا لدفن قيصر وليس للاطراء عليه»، لمارك انطوني ( 83 ق.م ـ 30 م.) في وداع يوليوس قيصر، بعد اغتياله في 44 ق.م بعكس انطونيو الذي كشف للرومان جروح قيصر منددا بأسماء موجهي الطعنات، فإن ميلليباند الذي جاء لبورنموث ليظهر للعامة انه يدفن سياسة بلير الخارجية، دعى لتغطية «آثار جروح عشر سنوات في الحكم»، رغم انه، ميلليباند، كان رئيس لجنة رسم السياسات للزعيم السابق بلير. الولاء هو اقل العملات احتفاظا بالقيمة في سوق السياسة، التي لم تتغير في دهائها وقسوتها منذ مشهد طعن بروتس رفيقه يوليوس قيصر في ظهره في 14 مارس 44ق.م. في روما وحتى مشهد تغيير ميلليباند لبطانة المعطف القديم مع الاستمرار في ارتدائه في 25 سبتمبر 2007 في بورنموث.

ودرس ميلليباند ان «النيات الطيبة......» ، باسقاط الطغاة والأشرار كصدام حسين، وسلوبودان ميلوسوفيتش، «.... وحدها لا تكفي» كان لحنا جنائزيا آخر. فلو كان الامريكيون نجحوا في تطبيق خطط عملية لعراق ما بعد صدام، لما كان الانقسام تعمق في حزب العمال وازداد الغضب على حليفهم بلير، الذي جهز براون وميلليباند جنازة سياسته الخارجية في بورنموث.

عبارة ميلليباند المكررة، الجيوش تحقق «انتصارات عسكرية .. لكنها لا تقدم حلولا (سياسية)»، معزوفة عذبة في آذان اليسار ومدفعية اعلامه الثقيلة، كالبي بي سي، والقناة الرابعة والغارديان، والاندبندنت، والديلي ميرور، التي تستحوذ على انتباه اكثر من نصف الناخبين ( 58% ) بينما تقف امبراطورية روبرت ميردوخ، التايمز، والصن، وشبكة سكاي، المؤثرة في اكثر من ربع عدد الناخبين ( 29%) وراء حكومة براون، وتدفن جثة الانقسامات في السياسة الخارجية، بدون تغيير جوهرها.

براون مستمر في خط بلير برفض اجراء استفتاء على المعاهدة الاوروبية، وهي لافتة جديدة لصقها بيروقراطيو بروكسيل على الدستور الاوروبي الموحد. بريطانيا ستحتفظ بالتحالف الاستراتيجي مع امريكا، وفي الشراكة مع اوروبا. «(بريطانيا) الجسر الموصل بين امريكا وأوروبا»، اضافة الى «....قيادة الكومنولث كمفاتيح التقدم في المستقبل المنظور» تعبيرات بليرية صرفة كررها ميلليباند وبراون، مع الاستمرار في دعم انضمام تركيا الى الاتحاد الاوروبي، كسياسة بليرية امريكية تعارضها فرنسا والمانيا.

الاستفتاء على اوروبا نقطة الخلاف الوحيدة بين صحف ميردوخ والإعلام اليساري المنحاز لأوروبا، لكنها لن تكفي لوقوف ميردوخ ضد براون في الحملة الانتخابية القصيرة.

وعن العراق، قال ميلليباند: «بصرف النظر عن الصواب والخطأ في (دخول) الحرب... فالمطلوب حاليا التركيز على المستقبل والتحرك للامام»؛ تكرار حرفي لاجابات بلير لمنتقدي سياسته تجاه العراق.

الانسحاب العسكري من العراق، هو عرقنة الحل السياسي، كاستراتيجية طويلة الامد اعلنتها حكومة بلير ( واعد لها عسكريا مع الامريكيين والعراقيين منذ عام)، لكن جهاز بروباغندا براون، والإعلام اليساري المخاصم لبلير، يروجها كإنجاز براوني لأغراض انتخابية.

ثم التركيز على افغانستان، كالتزام من براون بسياسة بلير ( اكبر سفارة في الخارج، هي كابول) ويركز ميلليباند على تحقيق مطلب العسكريين اثناء فترة بلير، بدفع حلفاء الناتو لتقديم المزيد. اما دعوة ديز براون، وزير الدفاع الذي لم يغيره براون، الى «....التفاوض مع تيار طالباني معتدل» فسياسة بليرية تمخضت عن هدنة بضعة اشهر بين البريطانيين والطالبان، رغم معارضة الامريكيين عام 2006.

براون مستمر في مبدأ بلير بعزل الديكتاتوريات، كإدانة العسكريين في بورما، وتهديده بمقاطعة مؤتمر لشبونة للحوار الاوروبي الافريقي اذا حضر روبرت موغابي؛ وتحذيره للعسكريين في الخرطوم دعما للاجئي دارفور؛ والضغط على ايران اقتصاديا وسياسيا للتخلي عن البرنامج النووي.

التزام براون بحل الدولتين في فلسطين، وتقوية الدور البريطاني ـ في الرباعية ـ استمرار لسياسة بلير، الذي تلقي الثناء، لثلاث مرات ، في خطاب براون المتفائل بنجاحه في مهمته في القدس كنجاحه في السلام في ايرلندا الشمالية. حل الدولتين في اطار قرارات الامم المتحدة سياسة بريطانية ثابتة منذ التقسيم عام 1947، والقرار 242 الذي صاغته بريطانيا عام 1967(  اللورد كارادون ـ 1907ـ1990، منسقا مع وزير الخارجية المصري الراحل محمود رياض ـ 1917ـ 1992) والنصيحة للفضائيات العربية فحص الجوهر، قبل السرحان انسياقا مع صوت المغني الجديد.

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق.

المصدر:الشرق الأوسط اللندنية-29-9-2007