العراق و الطريق إلى النزاهة

 

سلمان النقاش

 

 

بعد الانهيار الدراماتيكي الشامل للدولة العراقية بجميع منظوماتها السياسية والادارية والاقتصادية والاجتماعية في نيسان عام 2003 تسارعت محاولات الامساك بالمرتكزات الاساسية التي من المفروض ان ترسي قواعد الانطلاق لبناء شكل ومضمون الدولة الحديثة ولقد ساهمت قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة الاميركية باسقاط النظام  السياسي والعسكري في التاريخ اعلاه  وفق قرار مجلس الامن 1441 الذي اباح لها استخدام القوة من دون الرجوع ثانية الى مجلس الامن في حالة عدم تعاون السلطات العراقية مع فرق التفتيش التي كانت تبحث عن اسلحة الدمار الشامل  انذاك ، فانهار النظام وانهارت الدولة وبدأت رحلة البحث عن السلطة التي ينبغي ان تدير دفة الحكم لشعب ووطن افلت من قبضة فولاذية ادمت معصميه لاربعين سنة خلت فاصدر مجلس الامن قراره المرقم 1483 الذي شكلت بموجبه قوات التحالف الدولية سلطة ائتلاف مدنية بالتعاون مع  القوى السياسية العراقية التي كانت تعارض النظام في حينه لتكوين صيغة ادارة مؤقتة  ريثما يتم تحقيق سيادة حكم وطني عراقي،وعلى الفور اتجهت النية الى التفكيك واعادة التركيب والاستحداث لمجمل الصورة العراقية وفق برامج تحاكي مجتمعات مستقرة ومؤهلة للبدء بعملية اعادة بناء منسق على اساس فني واداري وسياسي واقتصادي  ضامن لنتائجه وقادر على السيطرة لاحتواء المتغيرات المتوقعة اذ قال احد القادة السياسيين انذاك في مؤتمر صحفي (( ان ايام التخطيط المركزي وسيطرة الدولة على الاقتصاد العراقي قد انتهت وان دور الحكومة يجب ان يكون بوضع السياسة والتنظيم والاشراف على الاقتصاد الوطني وليس باستلام وتشغيل  منشآت تجارية))  وبالتزامن مع هذا الحراك بدأت وتيرة التصاعد باسعار النفط الخام في الارتفاع وراحت الجهود تتواصل لاطفاء الديون او تخفيفها والتحرك نحو الارصدة المجمدة واستحقاقات العراق في اصوله وممتلكاته خارج العراق والتفاوض مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ونادي باريس للتعاون والاستشارة في اطلاق حملة اعادة البناء والاعمار ولقد تم الاتفاق على تاسيس صندوق تنمية العراق الذي سوف يحوي جميع الواردات ( وصلت موجوداته الى 20.7 مليار دولار ) ومنه سوف تتم عمليات التمويل لبرامج التنمية واعادة الاعمار ، ونظرا للفوضى التي ضربت اطنابها بجميع مرافق الدولة وعدم اكتمال وجدية العمل السياسي والاداري توقعت منظمة الشفافية العالمية بأن العراق سوف يشهد اكبر معدلات للفساد الاداري والمالي في العالم في حالة البدء باعماره .. كما ان للفساد جذوره في العراق التي نبتت وترعرعت واسست لتوطنه وتثبيت اركانه وثقافته ابان النظام المنهار فلقد كان مايرد للعراق من اموال هو ملك لصدام وعائلته وما يتفضل به فهو مكرمة واصبحت الرشوة والاختلاس حالات شائعة وهي طريقة اختص بها صغار الموظفين حتى غدت سلوكية متعارفا عليها وجزءا من النظام الاداري اما السرقات الكبيرة فاختص بها كبار رجال الدولة واقارب العائلة الحاكمة فالمقاولات وعقود الاستيراد فهي لاشخاص معدودين مرتبطين بالنظام  بهذه الدرجة او تلك حتى تكونت حاضنة دبقة للفساد تجتذب الكثير ممن يضعف لديهم الواعز الوطني والاخلاقي ، ولاجل قطع الطريق امام هذه الآفة المتربصة والمتوقع نشاطها ارتأت الادارة المؤقتة بعد سقوط النظام  اصدار قوانين لاستحداث انظمة رقابية جديدة وعصرية تتماشى مع التوقعات المحتملة بتغيير النمط الانتاجي وما يتمخض عنه من علاقات انتاج تفترض تطورا اجتماعيا معينا يستوعب حالة التغيير هذه وانطلاقا ((من الاقرار بان الفساد آفة تصيب الحكومة الصالحة بالهلاك وتبتلي حالة الرخاء والازدهار واعترافا بان الشعب العراقي يستحق قادة يتسمون بالنزاهة ويكرسون انفسهم لشفافية الحكم في العراق ،وتاكيدا على ثقة الشعب العراقي بحكامه وان الفساد يزعزع تلك الثقة واعترافا بان المعركة ضد الفساد هي نضال طويل الامد ، يتطلب تعهدا دائما بتغيير السلوك على جميع اصعدة الحكومة ))  تم اصدار الامر ((55)) الذي ينص على تكوين جهاز- هيئة النزاهة-  مستقل مسؤول عن تنفيذ وتطبيق قوانين مكافحة الفساد ومعايير الخدمة العامة وتقوم الهيئة باقتراح تشريعات اضافية عند الضرورة وتنفيذ مبادرات لتوعية وتثقيف الشعب العراقي بغية تقوية مطالبه بايجاد قيادة نزيهة وشفافة تتسم بالمسؤولية وتخضع للمحاسبة .

وعند الامعان في هذه الديباجة التي تقدمت القانون يتضح جليا ان الامر يرتبط بشكل وثيق الصلة بطريقة الحكم السياسي والتي افترضت الحالة الديمقراطية في الحكم كما المح اليها  قرار مجلس الامن المرقم 1546 والذي تم بموجبه السير على خطى قانون ادارة الدولة للفترة الانتقالية الذي رسم خارطة طريق للوصول الى مؤسسات الحكم الديمقراطي وسلطاتها التي سرعان ما تشكلت حسب الجدول الزمني المحدد لها في القانون المذكور واعتماد دستور تم الاستفتاء عليه من قبل المواطن الذي صوت عليه واقره

وهذه التشكيلات تستوجب جهازا وظيفيا ومدنيا كبيرا لتطبيق الدستور وما يترتب عليه من قوانين ستسير عجلة المجتمع وتؤسس لدولة القانون وسيادته فالمواطن يتحسس عملية التغيير التي تصب في مصلحته وانسيابية حركة حياته من خلال الملاكات الدنيا والمتوسطة في جهاز الدولة وليس مع الرموز السياسية او القادة اي ان التغيير الذي حصل هو مجموعة من الاشكال والقوالب جعلت المواطن يشعر باغتراب اتجاهها على الرغم من كونه جزءا فاعلا في تكوينها ووجودها ذلك لان المحتوى الاجتماعي والثقافي يتطلب لتغييره كما ونوعا من الحراك الانتاجي لمجمل امكانيات المجتمع وتحفيز قدراته التي سوف تؤسس لحالة من التلاقح المنتج والفعال بين هذه المؤسسات السياسية والادارية الجديدة وبين حاجاته المتنامية التي يفترض ان تلبيها الحركة الايجابية لبرامج التنمية الحقيقية.

 لكن الذي حدث هو ان حياة المواطن وحاجياته وبالاخص الاجتماعية والثقافية تخلفت كثيرا عن مرمى السياسيين لشدة تعقد الملف السياسي وحاجة لاعبيه الى التركيز على المنافسة في مساحات الوجود على الساحة السياسية .. وتأسيسا على هذا تحركت افة الفساد المتربصة دائما لتكون هي الوجه الاكثر تكرارا لا بل قد تكون متكئا ممكن الركون اليه في الخلافات بين الفرقاء سواء اكانوا داخل العملية السياسية اذ سيستخدم كورقة ضغط لعرقلة برامج الحكومة  ومحاولة اسقاطها ضمن ادوات العملية السياسية نفسها او ان يكون الفساد سلاحا لدى جماعات الرفض المسلحة لتمويل عملياتهم  سواء اكانت الارهابية منها او ما يسمى بالخيار المسلح لتحقيق السيادة ، ناهيك عن بطء القيام بتشريع القوانين التي تنظم حياة المواطن ما جعله يتعامل مع مؤسسات الدولة وكأنها دكاكين يشتري الخدمة منها بما استطاع اليه سبيلا ، ما العمل اذن سؤال طرحه السيد موسى فرج رئيس هيئة النزاهة الجديد ضمن مؤتمر صحفي في 16 /9/ 2007 اذ عرض الكثير من مشاكل خطة مكافحة الفساد الاداري والمالي في الجانب التشريعي منها والجانب التحقيقي والجانب الوقائي منوها الى ان اسباب النتائج السلبية في مكافحة الفساد تعود الى سببين رئيسين الاول ذاتي ويتعلق بآلية العمل التي كانت سائدة منذ استحداث الهيئة باعتبارالهيئة تمثل مخبرا وهذا حسب رأيه انتقاص لمسؤوليتها وحجم المهمة الملقاة على عاتقها والثاني موضوعي يتعلق بمجمل حركة قطاعات الدولة وتاخر الجهاز الاداري الرسمي عن الاصلاح، واجابة على السؤال الذي طرحه ((ما العمل)) :- بدءا علينا الاقتراب من الجوانب المتعلقة بحاجات المواطن الرئيسية والتي اصبحت تمثل اليوم المطلب الملح مثل النفط- الكهرباء - الصحة - التعليم - البلديات- التجارة واشار ايضا الى ضرورة عدم ارباك الجهاز الحكومي بتوجيه التهم جزافا من دون التاكد من الادلة الثبوتية التي تدين من يرتكب حالات الفساد ومن ثم استكمال الإجراءات التحقيقية بما يضمن حق الدولة والمجتمع باي فعل فساد  ليضمن بعد الادانة استرداد الاموال المنهوبة واعادتها الى ميزانية الدولة لتكون عملية مكافحة الفساد منتجة وفعالة تجاه اي برنامج تنموي فاعل كما اشار الى وجود خطة ستراتيجية جديدة لمكافحة الفساد سوف يتم العمل بها من الان فصاعدا . اذن فالطريق الموصل الى النزاهة يستدعي بالدرجة الاساس استقرار الحالة السياسية باتفاق الاطراف المختلفة على احترام الخيار الديمقراطي وجدية تنفيذ البرنامج السياسي للسلطة التنفيذية وتقليص المسافة بين المواطن والسلطات الرسمية وتمتع القضاء بالاستقلال والكفاءة  والوعي المسؤول، كما ان هناك ضرورة ملحة على ان يكون مكتب المفتش العام في الوزارات والهيئات العراقية يتمتع باستقلال جاد من الناحية الادارية والمالية واتخاذ القرار وان تكون قنوات الاتصال مع هيئة النزاهة اكثر فعالية  واكثر شفافية .. بقي ان نقول بان معركة الفساد الاداري والمالي تشكل جبهة خطيرة يجب ان تعزز دفاعاتنا للتصدي لها من خلال التعاون الحقيقي من كل الخيرين الوطنيين ومنظمات المجتمع المدني والاحزاب السياسية  ورجال الدين والمثقفين والمبدعين.

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق.

المصدر:جريدة الصباح-25-9-2007