أميركا... هل مالت نحو "اليسار"؟

 

 

أندرو كوهوت

كارول دوهرتي

 

 

كان "كارل روف" يطمح إلى خلق "أغلبية جمهورية دائمة"؛ والحال أنه بينما يستعد مستشار الرئيس بوش لمغادرة واشنطن، فإن المشهد السياسي الذي ساهم في تشكيله بدأ منذ بعض الوقت في التغير من تحت قدميه: فقد باتت حقبة القيم المحافظة - مثل المقاربة المتقشفة تجاه المساعدات الحكومية للفقراء، والمواقف التقليدية من المواضيع الاجتماعية والإيمان بسياسة خارجية قوية- تشارف على نهايتها.

فقد أخذ الجمهور المحبَط من إخفاقات إدارة بوش ينأى عن هذه السياسات والقيم والأيديولوجيا، وهو ما يمثل محاكاة لفترة أواخر الستينات، حينما أدى الاستياء الشعبي من حرب فيتنام والانقسام الداخلي إلى رد فعل سلبي ضد برامج "المجتمع العظيم" التي جاء بها "ليندون جونسون"؛ وأواخر السبعينات، حينما فتح الاستياء المتزايد من الأداء المتعثر لإدارة جيمي كارتر الباب أمام ثورة ريجان. ولكن يبدو أن دور جني الثمار هذه المرة لـ"الديمقراطيين".

في وقت سابق من هذا العام، نشر "مركز بيو للبحوث" نتائج دراسة مستفيضة لاتجاهات الجمهور السياسية والاجتماعية، وتعد الأحدث من بين سلسلة من الدراسات التي بدأت منذ 1987. فوجدنا أن العديد من النزعات التي استفاد منها "الجمهوريون" في تحقيق الهيمنة السياسية على امتداد العقد المنصرم قد خبت وتراجعت، بل وانقلبت في بعض الحالات.

ولنتأمل التالي: في 2002 كان البلد منقسماً بشكل متساو بين الحزبين، حيث كان 43 في المئة من الجمهور يُعرفون أنفسهم باعتبارهم من الحزب "الجمهوري" أو يميلون إليه، في حين كانت نسبة مماثلة من الأميركيين تقول: إنها "ديمقراطية" وقد شكل هذا التغير من حيث الانتماء تحولاً تاريخياً عن معظم القرن العشرين الذي شهد تفوقاً نسبياً لـ"الديمقراطيين" على "الجمهوريين".

ولكن، إذا كان "روف" يطمح إلى أغلبية دائمة، فإن آماله ربما تكون قد تحطمت؛ ذلك أن نصف الجمهور -50 في المئة - اليوم يصطف مع الحزب "الديمقراطي"، مقارنة مع 35 في المئة منه تصطف مع الحزب "الجمهوري".

ولعل أكثر النتائج إثارة للاهتمام هو موقف الجمهور من القوة العسكرية، التي تعد مجالاً تقليدياً من مجالات اهتمام الحزب "الجمهوري"؛ إذ يعتقد 49 في المئة اليوم أن القوة العسكرية هي أفضل وسيلة لضمان السلام، مما يمثل أدنى مستوى يسجَّل على مدى العقدين المنصرمين، منذ أن شرع مركز "بيو" في دراسة التوجهات السياسية.

وإليكم موضوعاً آخر يمكن أن يثلج صدور "الديمقراطيين": عودة الدعم الشعبي لزيادة المساعدات الحكومية للفقراء والمعوزين. فقد ارتفعت نسبة الأميركيين الذين يرون أن "من واجب الحكومة أن تعتني بالأشخاص الذين لا يستطيعون الاعتناء بأنفسهم" باثنتي عشرة نقطة منذ 1994، وهي السنة التي سيطر فيها "الجمهوريون" على الكونجرس. واللافت أن تأييد الجمهور لانخراط حكومي أكبر في التعاطي مع المشكلات الاجتماعية في ارتفاع عموماً.

بموازاة مع ذلك، يلاحَظ تراجع العديد من النزعات الاجتماعية الرئيسية التي ساهمت في صعود "الجمهوريين" في منتصف التسعينات؛ حيث مافتئت نسبة تأييد القيم التقليدية بخصوص مواضيع اجتماعية من قبيل الشذوذ الجنسي أو دور المرأة تتراجع منذ 1994. كما سُجل انخفاض في نسبة من يؤيدون "القيم القديمة المحافظة بخصوص الأسرة والزواج" من نسب مئوية مرتفعة (80 في المئة أو نحو ذلك) في الماضي إلى 76 في المئة اليوم.

من المؤشرات السلبية بالنسبة للحزب "الجمهوري" كذلك، والذي يعد حزب القيم الدينية القوية، التراجع في عدد من يعبِّرون عن معتقدات دينية قوية منذ منتصف التسعينات، وإنْ كان معظم الأميركيين مازالوا متدينين عموماً.

فإذا كانت نسبة من يقولون: إنهم "يتفقون كلياً" على أن "الصلاة جزء مهم من حياتنا" قد قفزت من 41 في المئة إلى 55 في المئة في 1999، فإنها اليوم انخفضت إلى 45 في المئة. وإضافة إلى ذلك، فقد لوحظ نمو طفيف ومحسوس في آن واحد على مدى العقدين الماضيين في عدد من يُعرفون أنفسهم باعتبارهم علمانيين، وذلك من 8 في المئة في 1987 إلى 12 في المئة اليوم؛ ويشمل هذا النمو فئة الشباب بصفة خاصة.

خلال ولاية بوش الرئاسية الأولى، تأثرت قيم الأميركيين على صعيد السياسة الخارجية برد الفعل على هجمات الحادي عشر من سبتمبر ولكنها اليوم، وبعد ست سنوات على ذلك، باتت تعكس استياء متزايداً من الحرب في العراق؛ إذ سُجل منذ 2003 تراجع في الدعم القوي لسياسة خارجية نشطة للولايات المتحدة، وهو ما ينسجم في الواقع مع نتائج استطلاعات رأي أخرى أجراها مركز "بيو" خلال السنوات الماضية، وأظهرت تزايد عدد الأميركيين الذين يرغبون في انعزال بلدهم. وعلاوة على ذلك، فثمة حذر كبير فيما يتعلق باستعمال القوة العسكرية الأميركية، ليس في العراق فحسب، وإنما في أفغانستان أيضاً؛ إذ يرغب 42 في المئة من الأميركيين في انسحاب القوات الأميركية و"الناتو" من أفغانستان في أقرب وقت ممكن.

يتزعم هذا المد "اليساري" الذي يشمل كافة الولايات المتحدة المستقلون الذي كانوا دائماً ومازالوا الكتلة الانتخابية الحاسمة والواقع أن "روف" قلل من شأن دور هؤلاء الناخبين، في وقت ركز فيه على الاعتناء بقاعدة "الجمهوريين" ورعايتها؛ ولكن ذلك لم ينجح. فاليوم، يلاحَظ أن المستقلين في تناغم أكبر مع "الديمقراطيين" منهم مع "الجمهوريين" سواء بخصوص المواضيع الداخلية أو الخارجية.

ولعل أفضل مثال على ذلك الزيادة الكبيرة في دعم المستقلين لزيادة المساعدات الحكومية للفقراء، حتى وإن كان ذلك يعني تكريس مديونية الحكومة؛ إذ يؤيد 57 في المئة من المستقلين هذه الفكرة اليوم، بينما لم تكن نسبتهم في 1994 تتجاوز 39 في المئة.

وغني عن البيان القول: إن سمعة إدارة بوش بخصوص حسن التدبير تعرضت لانتكاسة كبيرة خلال السنتين الماضيتين؛ ومرد ذلك لا يقتصر على الحرب في العراق، وإنما يتعداه ليشمل الإخفاقات الداخلية مثل الفضائح التي لاحقت "الجمهوريين"، وإدارة الأزمة الناجمة عن إعصار "كاترينا"، إضافة إلى الحسابات السياسية الخاطئة بخصوص مواضيع مثل الأمن الاجتماعي وإصلاح قانون الهجرة.

ولكن رغم أن الحزب "الجمهوري" في ورطة، فإن مكتسبات "الديمقراطيين" ليست نتيجة إنجازات ونجاحات لامعة من جانبهم بالضرورة؛ ذلك أن صورة الحزب "الديمقراطي" اليوم ليست أفضل حالاً مما كانت عليه بُعيْد إعادة انتخاب بوش؛ إذ ينظر 51 في المئة من الأميركيين اليوم إلى "الديمقراطيين" بعين الرضا، مقارنة مع 53 في المئة في ديسمبر 2004، و50 في المئة قبل عشر سنوات من اليوم. وبالمقابل، فإن صورة الحزب "الجمهوري" قد تضررت وانخفض التأييد الشعبي لـ"الجمهوريين" من 67 في المئة في ديسمبر 1994 إلى 39 في المئة الشهر الماضي.

ولكن، يجوز لسائل أن يسأل: ماذا يمكن أن يتمخض عن نهاية الحقبة المحافِظة؟ الواقع أن الجواب يتوقف على أمرين:

أولاً، من سيفوز بالبيت الأبيض في 2008. صحيح أن حظوظ "الديمقراطيين" تبدو أوفر من حظوظ "الجمهوريين"، إلا أن ذلك لا يمثل ضمانة للانتصار.

ثانياً، إذا فاز "الديمقراطيون"، فعليهم أن يثبتوا نجاحهم في معالجة أسباب استياء الناخبين بخصوص جبهات عدة مثل العراق، وعدم المساواة من حيث الدخل، ومواضيع داخلية أخرى.

الواقع أن الماضي القريب حافل بالأمثلة على مبالغة وغلو رؤساء وأحزاب سياسية في رد فعلها على التغير في قيم الجمهور السياسية. فرغم أن الجمهور كان يمضي في اتجاه أكثر محافظة في أوائل التسعينات مثلاً، فإنه لم تكن لديه رغبة قوية في المقترحات الراديكالية التي روج لها الحزب "الجمهوري" بعد وصوله إلى السلطة، مثل إغلاق وزارة التعليم ثم إن رئيس مجلس النواب "نيوت جينجريتش" تسبب في إبطاء الزخم "الجمهوري" في 1995 حينما سعى إلى الدفع بأجندته بقوة وسرعة مفرطتين.

وهذا درس ينبغي أن يستوعبه "الديمقراطيون" ويأخذوه على محمل الجد. فالتغيير ذاهب في اتجاههم، غير أن حقبة "ديمقراطية" جديدة لن تحدث إلا إذا أظهرت إدارةٌ ديمقراطية (في حال فوزها) زعامةً ناجحة وإنجازات حقيقية.

*رئيس "مركز بيو للبحوث"

**مديرة وحدة استطلاع آراء الناس والصحافة بالمركز

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق.

المصدر: الإتحاد الإماراتية- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"