مصر: الأرض المحروقة و الأمة المسروقة

 

 

د. محمود الحوت

 

 

في تاريخ الصراعات الإنسانية يبرز تعبير "الأرض المحروقة " كوصف  لحالة الدمار وتخريب المرافق والبنى التحتية لبلد أو منطقة ما، بأيد السلطة التي تسيطر عليها، وذلك استعدادا للجلاء عنها مجبرة أو مختارة، فلا تترك خلفها حجرا على حجر ولا تخلف إلا كيانا متهالكا وأرضا خرابا وتركة مثقلة بالأعباء،لترثها قوى الحكم القادمة، كأرض محروقة لتحكمها أو لتبتلعها " بالسم الهاري ".

وفي مصر؛ اختلطت الأمور على النظام الحاكم، فهو من جهة يسعى حثيثا ويخطط ويرتب الأوضاع ويقاتل في جبهات عديدة، ويقدم تنازلات من لحم الوطن وتاريخه لقوى البطش الدولية حتى يمرر أجندة التوريث داخل نفس النظام،ومن جهة أخرى فبدلا من أن يعمل على تجميل صورته، فيكف عن الفساد ويقلع عن التخريب، ليترك أرضا خصبة وأشجارا مزهرة، ومرافق وبنية أساسية قابلة للتطور والتقدم، لتكون تلك الأرض كيانا صالحا للاستمرار والتطور، ويستحق أن يسطو على دفته الوريث ورجاله .

* إذ بهذا النظام ( وذاك الوريث ممسكا لجامه)، ينافس نفسه ويصارعها فيأبى إلا أن يأتي على الأخضر واليابس فيترك البلاد:" أرضا محروقة " فماذا يفعلون ؟إنهم يهدمون المعبد ليكونوا كهنته، ويحطموا ألواح السفينة المبحرة، ليمسكوا دفة قيادتها .

* وإذ بهذا النظام :

يرعى نيران الفساد ويتعهد عجلتها الدائرة،ويقدم الغطاء والحماية لأصحابها ...فمضى يبيع بثمن بخس كل ممتلكات الشعب من قطاع عام ومصانع وأراضي وبنوك بأسعار تافهة، وعمولات ضخمه تملأ كروش أفيال الفساد...وانحدر بالزراعة فلم يعد للقطن المصري قيمة أو وجود، وأصبح القمح ورغيف الخبز كله يستو رد من الخارج، وتشبعت الفواكه والخضروات بالمبيدات المتسرطنة والكيماويات القاتلة، وتلوثت المياه بالمجاري وتسمم الهواء وارتفعت الأسعار وشح الطعام والدواء .

* وإذ بهذا النظام :

يهدر المرافق الصحية، ويمضي في الانحطاط بالتعليم الطبي وفي إلغاء التكليف للأطباء، حتى تكتمل منظومة التدمير لصحة المواطنين ببيئة فاسدة الهواء والماء والغذاء ومرافق طبية غاية السوء والفساد، وبأطباء عاطلين لا يجدوا مكانا للتعلم والتدريب، ولا يجدوا وظيفة أو رواتب تعينهم على الحياة، ليعرضوا سلعتهم على الأرصفة أو في محطات الأتوبيس؛ ولتكن دائرة القتل للمصريين محكمة : فمن لم يمت من الهواء الفاسد أو الماء الملوث أو الأغذية المتسرطنة ونجا من الهم والغم، مات على يد طبيب؛ حرمه النظام من التدريب والتعليم والكرامة وشغله بالجوع والبحث عن ضرورات الحياة، لا البحث عن الجديد في الطب و علاج الناس .

* وإذ بهذا النظام :

ينقض على المتبقي من جثة الوطن؛ فلا يبقي للمؤسسات التعليمية من اثر ولا أمل بل الانهيار وبلا توقف، حتى صرنا في مصاف البلدان الأكثر تخلفا في العالم ويضاعف أعداد العاطلين أضعافا مضاعفة ويغرق ملايين الشباب في مستنقع البطالة ولم يترك لهم من منفذ سوى التسكع والانحراف والمخدرات والجريمة والهجرة والتجسس.

* وإذ بهذا النظام :

ينقلب على بقايا أشلاء حلم الديمقراطية،فيحكم قبضة أجهزة أمنه على أنفاس الناس وهمساتهم،ويكشر عن أنياب ومخالب البطش تجاه أبناء الوطن بقوانين يدعي أنها لمنع الإرهاب، ويحول حالة الطوارئ المزمنة - التي صاحبته ربع قرن - إلى وضع دستوري دائم يسلب الناس حقوقا يتمتع بها البشر حتى في موزمبيق ونيكاراجوا .

يعمل في الدستور قصا ولصقا،فتقا ورتقا،تعديلا وتفصيلا ؛ لتنهار أي أحلام لدى الناس في ديمقراطية - كباقي خلق الله - أوفي احترام لحقوق الإنسان أو في صون لكرامة الإنسان وحرمته وخصوصيته، يتمادى في البطش بالمعارضة كاعتقال ومصادرة أموال خصومة السياسيين من الإخوان المسلمين ورفض الانصياع لأحكام القضاء بتبرئتهم من اتهاماته الملفقة،بل وتحويل الكثيرين منهم للمحاكم العسكرية - إمعانا في إهدار حقوق الإنسان والبطش بمعارضيه الشرفاء من أبناء الوطن،وتخريب كافة المؤسسات المدنية من نقابات وأحزاب ونوادي هيئات التدريس بالجامعات والقضاة واتحادات الطلاب والعمال ؛ يعادي القضاة ويستهين بأحكام القضاء،ويطلق رجال أمنه في كل ركن من الوطن لا يعمل العامل ولا يترقى الموظف ولا يسافر المسافر ولا يحلم الحالم ولا يشرب الشارب إلا بإذن الأمن.

هكذا تستمر منظومة حرق الأرض قبل أن يتم التوريث بتخريب الوطن أرضا ومرافقا وأحجارا وأشجارا ؛ وتخريبه دورا وتاريخا،مجدا قديما وريادة، ورهن إرادته ولجم قراره  لدى أعدائه، ويكتمل التدمير بمسخ الإنسان وقتل انتمائه وبشريته؛هؤلاء الغزاة الذين اختطفوا الوطن، ولعقود طويلة سابقة، يدمرونه ويجهزون عليه كخطوة على طريق غزوه واختطافه من جديد لتستمر هذه الأمة- دائما وأبدا-أمة مسروقة، ولتبقى أرضها دوما أرضا محروقة .

ولكن من قلب الأمة المسروقة ...

ستهب سواعد تحمل نور الفجر

وستنبت من هذى الأرض المحروقة ....

أحلام الأمة أشجارا تنبت بالعدل وبالخير

وسيأتي جيل لا يخضع ....

جيل لا يصمت أو يخنع ....

للبطش الظالم والقهر

جيل يركع للرحمن  ...

جيل يصنعه الإيمان ...

تندك بقبضته الأوثان ...

ويحطم طاغوت العصر

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق.

المصدر:المثقف السياسي-5-8-2007