"كارتيك برامانيك"... تعلموا من هذا البنغالي الفقير!

 

 

د. عبدالله المدني

 

 

 

على العكس من آسيا، تبدو القارة الأفريقية متخلفة عن الأخيرة بسنوات ضوئية في شتى الحقول والمجالات، بحيث يندر فيها وجود نموذج يعتد به إذا ما استثنينا نموذج جنوب أفريقيا.

فتاريخها الاستقلالي ليس سوى مزيج من الحروب الأهلية والانقلابات العسكرية والمذابح العرقية والأنظمة القمعية وخطط التنمية المتخبطة، التي تظللها مظاهر الفساد والتسيب والانفلات الأمني، ناهيك عن مظاهر الجوع والأمية والفقر والمرض.

ولعل هذا ما دفع مفكراً أفريقياً بارزاً مثل الكيني "علي مزروعي"، ذات مرة إلى المطالبة علناً بإعادة استعمار القارة السمراء، متسائلاً في الوقت نفسه عما إذا كان المستعمر القديم على استعداد لقبول الفكرة وتحمل تبعاتها المرهقة.

ومن بين الملفات، التي يختفي خلفها المسؤولون الأفارقة لدفع المسؤولية عن أنفسهم، ملف التصحر الذي كثيراً ما يُشار إليه كسبب لتخلف أجزاء من أفريقيا ووقوعها فريسة للجوع والمرض والتخلف.

غير أن ظاهرة التصحر لا تقتصر على أفريقيا وحدها، فنسبة 45 في المئة من أراضي آسيا، تشكو من هذه الظاهرة مقابل 33 في المئة في أفريقيا، ورغم ذلك، فإن الأحوال في آسيا أفضل بكثير كنتيجة للجهود الذاتية واستثمار المساعدات الدولية بصورة مثلى ووجود الخطط المسنودة بالإرادة والعزيمة والإدارة النزيهة والتوعية الجماهيرية.

ثم إن التصحر، خلافاً لما قد يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى، ليس مشكلة طبيعية ناجمة عن الجفاف ونقص الأمطار بقدر ما هو نتاج عمليات متصلة من تدهور الأرض والبيئة، التي يلعب الإنسان دوراً أساسياً فيها من خلال الإفراط في الزراعة والرعي الجائر وقطع الأشجار وسوء استغلال الموارد المائية وغيرها من الأنشطة غير المدروسة الناجمة عن قلة الوعي والثقافة البيئية.

والمؤمل الآن أن تحقق الجهود التي سيقودها الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان من أجل ثورة خضراء في أفريقيا شيئاً يمكن للقارة السمراء أن تتباهى به مستقبلاً. فالرجل الذي ترك منصبه قبل ستة أشهر من بعد ولايتين كاملتين، ولم يعد إلى وطنه للمزاحمة على المناصب الرسمية أو الاشتغال بالسياسة كما فعل معظم أسلافه، أعلن من مدينة "كيب تاون" الجنوب أفريقية هذا الشهر قبوله لقيادة "التحالف من أجل ثورة خضراء"، والذي تأسس العام الماضي بمنحة أولية قيمتها 150 مليون دولار من مؤسسة "بيل جيتس" الخيرية وصندوق "روكفلر"، بهدف محاربة الجوع وتآكل التربة ونقص المياه وتحسين نظم الزراعة والتشجير والري والنقل وتخزين المحاصيل وإدارة الأراضي الزراعية في أفريقيا.

وفي اعتقادنا أن "عنان" هو الشخص المناسب لإدارة هذا التحالف لأكثر من سبب، لعل أبرزه اهتمامه الشخصي بهذا الملف، والذي تجلى في خطة قدمها إلى قمة الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا قبل ثلاث سنوات بهدف زيادة معدلات الإنتاج الزراعي في القارة بنسبة 6 في المئة كل سنة حتى عام 2015، ومقترحات أخرى جديرة بالاهتمام أوردها في كلمة ألقاها في عام 2005 بمناسبة يوم البيئة العالمي، ناهيك عن مبادرته إلى تخصيص قيمة جائزة الشيخ زايد الدولية للبيئة، التي فاز بها في عام 2003 للإنفاق على مشاريع الزراعة والتشجير والتثقيف البيئي في أفريقيا من منطلق أن "الشعوب الأفريقية في حاجة إلى ثورة خضراء لأنه لا توجد لديها وسائل أخرى أكثر فعالية للتنمية" بحسب تعبيره.

وفي هذا السياق، من المهم للتحالف الناشئ أن يدير وجهه صوب آسيا للاستفادة من دروسها الكثيرة في هذا المجال.

هذه الدروس التي لا تقتصر على ما قامت به الحكومات المركزية أو المحلية- مثل الثورة الخضراء في الهند، التي أطلقتها نيودلهي في السبعينيات، فنجحت بحلول التسعينيات في تحقيق الاكتفاء الذاتي من الطعام، بل ووضع البلاد في المراكز الأولى على مستوى العالم لجهة تصدير الأرز والخضروات والألبان، ومثل خطط الحكومة المحلية لإقليم "تانغقو" الصيني، التي نجحت بالعلوم والتقنيات الحديثة والأموال في تحويل ملايين الأمتار المربعة من الأراضي المالحة والقلوية، التي لم تعرف اللون الأخضر منذ أوائل القرن الماضي إلى غابات وحدائق ومساحات خضراء مليئة بشتى أنواع الأشجار والزهور والنباتات -وإنما تشمل أيضاً مبادرات فردية كثيرة، قامت بها مؤسسات خاصة مهمومة بالبيئة والزراعة، بل وأفراد من البسطاء المعدومين مثل المواطن البنجلاديشي "كارتيك برامانيك"، الذي تستحق قصته أن تروى لأنها تقدم نموذجاً، لما يمكن تحقيقه من نجاحات بإمكانيات فردية جد متواضعة.

و"برامانيك" ليس سوى حلاق فقير من بين آلاف الفقراء الذين تعج بهم مقاطعة "تشاباي نواب غني" البنجلاديشية، لكنه يتميز عنهم بعشقه الشديد للخضرة والتشجير، وذلك من منطلق إيمانه القوي بأن زراعة الأشجار في بلد فقير مثل بنجلاديش عملية حيوية وحاسمة ويمكن أن تخدم مواطنيه بطرق مختلفة في سعيهم لتخفيف أعباء الفقر والحاجة وتأمين البقاء على قيد الحياة.

فمنذ أن كان طفلاً صغيراً غرست فيه أمه مبدأ أن الأشجار هي رمز الحياة والعطاء والخصوبة، وأن زراعتها هي ضرب من ضروب العبادة والتقوى والورع.

وهكذا دأب "برامانيك" منذ أن كان في سن العاشرة على استغلال أية فرصة لزراعة الشتلات الخضراء في أي فضاء تقع عليه عيناه، الأمر الذي تحولت معه المنطقة، التي يسكنها بمرور الزمن من منطقة قاحلة جرداء إلى جنة خضراء مليئة بشتى أنواع الأشجار، ومن بينها الشجرة الأولى التي زرعها، والتي يبلغ عمرها اليوم 55 عاماً.

وبسبب جهوده الفردية هذه، ذاع صيته وصار قدوة للكثيرين من مواطنيه، بل حاز هذا العام على جائزة قناة "آي" التلفزيونية المالية التي تقدم سنوياً لأفضل شخصية محلية ذات إسهامات بيئية مشهودة، وهو ما أغرى إحدى شركات الأدوية في بنجلاديش بمنحه ضعفي قيمة الجائزة، ليصل مجموع ما استلمه إلى 150 ألف تكا. وتعليقاً على الاحتفاء به، قال "برامانيك" إنه لم يقم بما قام به من أجل الجوائز والمكافآت، ولم يكن ينتظر تكريماً، وإنما فعل ذلك لقناعته الشديدة بأنه لو حاول أي فرد أن يزرع في مشوار حياته خمس شجيرات على الأقل، لانتشرت الخضرة والغابات، ولتغيرت صورة البيئة ولخفَّت معاناة الكثيرين. ولهذا، فإنه قرر فور استلامه لمكافأته المالية أن ينفقها في شراء المزيد من الشتلات الزراعية لغرسها في الأراضي الفضاء، رغم فقره وعوزه.

إن "التحالف من أجل ثورة خضراء" لو تمكن فقط من خلق مثل هذا الوعي البيئي الغريزي الذي يحمله "برامانيك" وينطلق منه في جهوده التطوعية المشهودة نحو زيادة رقعة الغابات والمساحات الخضراء، لربما تغيرت صورة أفريقيا ولخفت معاناة شعوبها كثيراً. ولا حاجة لنا هنا للتذكير بأن غياب الوعي البيئي هو الشريك الأهم للتصحر والجفاف والجهل والتخلف المسبب للكوارث في القارة السمراء.

*محاضر أكاديمي في الشؤون الآسيوية

و طل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق.

المصدر: الإتحاد الإماراتية-24-6-2007