الأمريكيون يتساءلون : ماذا نفعل في العراق؟

 

 

هوارد زين

 

 

ليس العراق بلداً محرّراً بل بلد محتلّ. إنه أمر بديهيّ. وكنّا اعتدنا تعبير "بلد محتلّ" خلال الحرب العالمية الثانية عندما كنا نتحدّث عن فرنسا "المحتلّة من الألمان" أو عن "أوروبا تحت الاحتلال الألماني".

اليوم بتنا نحن من يحتلّ. بالطبع حرّرنا العراق من صدّام حسين لكننا لم نحرّره منّا. كما حرّرنا كوبا عام 1898 من النير الأسباني وليس من نيرنا.

هُزم الاستبداد الإسباني لكنّ الولايات المتحدة حوّلت الجزيرة إلى قاعدة عسكرية، على غرار ما نفعل في العراق.

نزلت الشركات الكبرى مثل بكتل وهاليبورتون في كوبا والشركات البترولية تتمركز في العراق.

فمنذ السابع من أغسطس 2003، نقلت صحيفة "نيويورك تايمز" أنّ الجنرال الأميركي ريكاردو سانشيز في بغداد "قلق" من ردة الفعل العراقية في وجه الاحتلال.

وكان المسؤولون العراقيون، المؤيّدون للولايات المتحدة، حمّلوه رسالة نقلها لنا: "عندما تعتقلون الأب أمام أفراد أسرته وتضعون كيساً في رأسه وترغمونه على الركوع على ركبتيه فإنكم توجّهون إلى هذه العائلة إهانة كبيرة". (ملاحظة صائبة جداً).

ومنذ 19 يوليو 2003، وقبل اكتشاف حالات التعذيب المُثبتة في سجن أبو غريب في بغداد، نقلت شبكة "سي بي إس" التلفزيونية: "تُحقّق منظمة العفو الدولية في مجموعة من حالات التعذيب التي يُفترض أنها ارتُكبت في العراق من قبل السلطات الأمريكية.

ومنها قضية خريسان العبللي. وكان الجنود الأمريكيون دمّروا بيته وأمطروه بوابل من الرصاص لحظة وصولهم، كما اعتقلوه مع والده البالغ من العمر 80 عاماً وأصابوا شقيقه بجراح.

من المعروف أنه تمّ تدمير ثلاثة أرباع مدينة الفلّوجة (360 ألف نسمة)، وأنّ المئات من ساكنيها سقطوا خلال الهجوم الأمريكي في نوفمبر 2004، بحجّة تنظيف المدينة من الجماعات الإرهابية الناشطة في إطار "مؤامرة بعثية".

والجنود الذين أُرسلوا إلى هذا البلد وقيل لهم إنه سيستقبلهم كمحرّرين، وجدوا أنفسهم مُحاطين بشعب يكنّ لهم العداء، فأصبحوا خائفين ومُحبطين، يُطلقون النار بسهولة، كما رأينا إبّان إطلاق سراح الصحافية الإيطالية جوليانا سيجرينا في 4 مارس 2005، عندما أقدم جنود أمريكيون، في حالة توتّر وخوف، على إطلاق النار وإرداء ضابط المخابرات الإيطالي نيكولا كاليباري.

قرأنا تقارير حول جنود غاضبين لأنهم باقون في العراق. ومؤخّراً، أعلن أحد مراسلي شبكة "آي بي سي" أنّ رقيباً في الجيش قال له سرّاً: "لديّ قائمتي الخاصّة بالرجال المطلوبين"، في تلميح إلى القائمة التي نشرتها الحكومة الأمريكية وفيها صدام حسين وعائلته وأعضاء النظام البعثي السابق.

وقال الرقيب: "المطلوبون هم جورج بوش، ديك شيني، دونالد رامسفيلد وبول ولفويتز".

وبات الرأي العام الأمريكي مُطّلعا على هذه المشاعر، وغيرها من التي عبّر عنها هاربون من الجندية يرفضون العودة إلى الجحيم العراقي.

هناك احتلال يُنذر بالشؤم أكثر من العراق وهو احتلال الولايات المتحدة، إذ استيقظتُ ذات يوم لأقرأ الجريدة فشعرت أننا أنفسنا في بلد محتلّ اجتاحته قوة أجنبية.

العمّال المكسيكيّون الذين يجازفون بحياتهم لعبور الحدود والإفلات من ضباط الهجرة (على أمل الوصول إلى أرض كانت، ومن سخرية القدر، ملكاً لهم قبل أن تحتلّها الولايات المتحدة في عام 1848) ليسوا غرباء في نظري.

العشرون مليوناً المقيمون في الولايات المتحدة، ولا يتمتّعون بصفة المواطنيّة، والمعرّضون بسبب "قانون الوطنية" إلى الطرد من بيوتهم واعتقالهم، دون مهلة ودون أيّ حق دستوري يحميهم من قبل مكتب التحقيقات الفدرالي، هؤلاء ليسوا أجانب في رأيي.

الأجانب، نعم، هم هذه الشلّة من الأفراد الحاكمين في واشنطن (بوش، شيني، رامسفيلد وسائر المجموعة).

استيقظتُ وأنا أقول في نفسي إنّ هذا البلد واقع في قبضة رئيس انتُخب للمرة الأولى، في نوفمبر 2000، في الظروف المعروفة وكلّ ما حصل من تلاعب في فلوريدا وبفضل قرار من المحكمة العليا.

رئيس يبقى، بعد انتخابه للمرة الثانية في نوفمبر 2004، محاطاً بالـ"صقور" المُرتدين الثياب المدنية والذين لا يأبهون للحياة البشرية هنا أو هناك. آخر همومهم الحرّية، هنا أو هناك. لا يحفلون بما سيحلّ بالأرض أو الماء أو الهواء أو بالعالم الذي سنخلّفه لأولادنا وأحفادنا.

العديد من الأمريكيين بدأوا يفكّرون، على غرار جنودنا في العراق، أنّ الأمور لا تسير على ما يرام، وأنّ البلاد لا تشبه الصورة التي نملكها عنها. كلّ يوم أكاذيب أمام الرأي العام، وأفظعها أنّ كلّ جريمة ترتكبها الولايات المتحدة مغفورة لأننا نخوض "حرباً على الإرهاب".

الحرب نفسها إرهاب، والدخول عنوة إلى المنازل واقتياد أفراد العائلة وتعذيبهم إرهاب، اجتياح وقصف بلدان أخرى لا يحسّنان وضعنا الأمنيّ، بل العكس هو الصحيح.

لا نملك سوى فكرة ضئيلة عمّا تقصده الحكومة بالـ"حرب على الإرهاب"، إذا ما تذكّرنا التصريح الشهير الذي أدلى به وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد (على رأس قائمة المطلوبين لدى الرقيب أوّل في الجيش) أمام وزراء حلف شمال الأطلسي في بروكسل عشية اجتياح العراق.

كان يُوضح الأخطار المُحدقة بالغرب (تخيّلوا أننا ما زلنا نتحدّث عن الغرب ككيان مقدّس في الوقت الذي سعت فيه الولايات المتحدة، بعد فشلها في تجنيد عدة بلدان من أوروبا الغربية (ألمانيا، فرنسا) ضمن حملتها على العراق، إلى مغازلة دول أوروبا الشرقية من خلال إقناع هذه الدول بأنّ هدفنا تحرير العراقيين تماماً كما حرّرناهم من الهيمنة السوفيتية.

وفي سياق شرح المخاطر والسبب في كونها "غير مرئية وغير محدّدة"، أطلق رامسفيلد فكرته الخالدة بالقول: "هناك أمور لا نعرفها. وهناك أمور نعرف كيف لا نتعرّف عليها. أي أنّ هناك أشياء لا نعرفها في الوقت الراهن. وأمور مجهولة لا نعرفها.

وأمور لا نعرف أننا لن نعرفها. في المختصر، إنّ غياب الأدلّة ليست دليلاً على الغياب... إن كنّا لا نملك البرهان حول وجود شيء لا يعني أنّ لدينا البرهان على عدم وجوده".

الحمد لله أنّ السيد رامسفيلد موجود لينير عقولنا. هذا ما يُوضح لماذا قامت إدارة بوش، العاجزة عن اعتقال مرتكبي اعتداءات 11 سبتمبر، بالانطلاق دون توقّف لاجتياح وقصف أفغانستان، منذ شهر ديسمبر 2001، ممّا أدّى إلى مقتل الآلاف وتهجير مئات الآلاف، دون أن نعرف حتى اليوم أين يختبئ المجرمون.

هذا يُوضح أيضاً كيف أنّ الحكومة التي لا تعرف تحديداً أيّ نوع من الأسلحة كان صدام حسين يخبّئ، قرّرت قصف واجتياح العراق عام 2003 ضدّ إرادة الأمم المتحدة، لتقتل آلاف المدنيين والجنود وترمي الرعب في صفوف المواطنين. هذا يفسّر أيضاً لماذا قرّرت الحكومة، كأنها لا تعرف من هو الإرهابي ومن ليس إرهابيا، اعتقال المئات في معسكر جوانتنامو في شروط دفعت 18 منهم إلى محاولة الانتحار.

الحرب المفترضة على الإرهاب ليست فقط حرباً على شعب بريء في بلد غريب، بل أيضا حرب ضدّ شعب الولايات المتحدة.

حرب ضدّ حرّياتنا وضدّ نمط حياتنا. فثروة البلاد تُسرق من أجل إعادة توزيعها على كبار الأغنياء. كما يُصار إلى سرقة شبابنا.

ما من شكّ في أنّ هذه الحرب، التي تدوم منذ سنتيْن وثلاثة أشهر، ستُوقع المزيد من الضحايا، ليس فقط في الخارج بل فوق أراضي الولايات المتحدة أيضاً.

فلسان حال الإدارة يقول إننا سنخرج بخير من هذه الحرب لأننا، وخلافاً لفيتنام، لن نخسر سوى القليل من الضحايا.

صحيح أنّ مئات "فقط" سقطوا في المعارك، لكن عندما ستضع الحرب أوزارها سيرتفع عدد الضحايا بسبب الأمراض والصدمات النفسية.

فبعد حرب فيتنام، أشار المشاركون فيها إلى أمراض وراثية في عائلاتهم، تسبّب فيها "العامل البرتقالي" وهو سمّ مضادّ للأعشاب أُسقط على السكّان الفيتناميين.

أيّ واجب علينا؟ استنكار ذلك كلّه.

فنحن مقتنعون بأنّ الجنود المُشاركين في حرب العراق لا يتحمّلون الرعب والعنف إلاّ لأنهم كذبوا عليهم.

وعندما يكتشفون الحقيقة ـ كما حدث بعد حرب فيتنام ـ فإنهم سينقلبون على حكومتهم.

باقي العالم يُساندنا، وحكومة الولايات المتحدة لا يمكنها أن تتجاهل العشرة ملايين نسمة الذين احتجّوا في العالم أجمع، يوم 15 فبراير 2003، وعددهم كلّ يوم إلى ازدياد. فقوّة الحكومة، مهما كانت الأسلحة التي بحوزتها أو الأموال التي لديها، هي هشّة في نهاية المطاف.

عندما تفقد مشروعيّتها في نظر شعبها، تصبح أيامها معدودة.

علينا القيام بكافة الأعمال التي من شأنها وضع حدّ للحرب وليس علينا أن نتوانى عن أيّ تحرّك.

فتاريخ التغيير هو محصّلة ملايين الأعمال، كبيرة وصغيرة، التي تتراكم في لحظة تاريخية محدّدة، حتى تتحوّل إلى قوّة لا يُمكن لأيّة حكومة أن تقف في وجهها.

* مؤرّخ وأستاذ شرف في جامعة بوسطن

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق.

المصدر:الوطن السعودية-1-10-2005