بوتين" وعودة روسيا إلى الساحة الدولية

 

باسكال بونيفاس

 

خلال المؤتمر الذي عقد في شهر فبراير الماضي بمدينة ميونيخ الألمانية، والذي يعتبر بمثابة "دافوس" آخر يهتم بالقضايا الاستراتيجية، تلفّظ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بكلام قاسٍ إزاء الولايات المتحدة، كلام خالٍ من أية لباقة دبلوماسية. فقد صرّح بأن التصرفات الأحادية التي تسود العالم فاقدة للشرعية في إحالة ضمنية إلى السياسة الخارجية للولايات المتحدة، مضيفاً أن انتهاج الأحادية كشرعة في العلاقات الدولية هو سبب المآسي الجديدة التي تعيشها الإنسانية، لما تفضي إليه من ظهور بؤر دائمة للتوتر. وندد بوتين أيضاً في خطابه الذي ألقاه على هامش المؤتمر بـ"الاستخدام المُفرط للقوة التي خرجت عن السيطرة وأغرقت العالم في هوة سحيقة من النزاعات الدائمة". ولتوضيح وجهة نظره أكد بوتين أمام الحضور أن الولايات المتحدة تجاوزت جميع الحدود، وباتت تبدي احتقاراً أكثر وضوحاً للقانون الدولي. هذه الانتقادات الشديدة التي وجهها الرئيس الروسي إلى القوة الأكبر في العالم استرعت انتباه المجتمع الدولي.

فإذا كان العالم قد درج على سماع الانتقادات التي يكيلها الرئيس الفنزويلي، أو الإيراني، إلى الولايات المتحدة، فإنه ليس مألوفاً أن تصدر الانتقادات من رئيس دولة ذات وزن مهم على الساحة الدولية، وتحظى بمقعد دائم في مجلس الأمن الدولي مثل روسيا. فحتى أثناء المعارضة الفرنسية الشديدة للحرب الأميركية على العراق ورفضها التام للانخراط في مغامرتها العسكرية لم يصل الحد بفرنسا إلى تبني لغة حادة، أو الخروج عن قواعد الخطاب الدبلوماسي. ويبدو أن بوتين باستخدامه لكلمات لاذعة في انتقاده للولايات المتحدة إنما كان يسعى إلى لفت الانتباه، وهو ما نجح في تحقيقه فعلاً. بيد أن هذه الانتقادات التي تضمنها خطاب بوتين لا يمكن تشبيهها من حيث حدتها بخطاب "خروتشوف" الشهير أمام الأمم المتحدة الذي نزع فيه حذاءه وشرع في ضربه على الطاولة، أو خطاب تشيرشل عام 1946 الذي انتقد فيه الاتحاد السوفييتي ناعتاً إياه بالستار الحديدي، معلناً بذلك بداية الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي.

وقد أشار في هذا السياق وزير الدفاع الأميركي "روبرت جيتس" في معرض رده على بوتين إلى ضرورة تجاوز خطاب الحرب الباردة، وتفادي العودة إلى تلك المرحلة. لكن مهما يكن الأمر تأتي كلمات بوتين المنتقدة للولايات المتحدة دون مواربة إيذاناً بعودة روسيا مجدداً إلى المسرح العالمي. فالرئيس بوتين الذي ستنتهي ولايته الرئاسية خلال العالم المقبل يريد أن يقول إن روسيا تحت قيادته تمكنت من استعادة مكانتها العالمية والاضطلاع بدورها كلاعب أساسي في الساحة الدولية خلافاً للضعف الذي اعتراها في عقد التسعينيات عندما تراجع ناتجها المحلي الإجمالي بمقدار النصف. ورغم أن روسيا تمكنت في وقت سابق من حجز مقعد لها ضمن مجموعة الدول الثماني الكبرى، فإنها كانت تعامل على الدوام باعتبارها دولة هامشية فقدت الكثير من بريقها السابق. وجاءت الحرب التي شنها حلف شمال الأطلسي على صربيا بشأن إقليم كوسوفو لتعطي المثال الأوضح على التهميش الذي تعرضت له روسيا. إذ في الوقت الذي كان بإمكان روسيا لعب دور محوري في حل أزمة البلقان بالنظر إلى علاقاتها التقليدية مع صربيا، ويوغوسلافيا السابقة، لم تستشر قط طيلة فترة الإعداد للتدخل العسكري ضد بلغراد.

والنتيجة أن روسيا لم تعد الفاعل الأساسي على الساحة الاستراتيجية كما كانت خلال فترة الاتحاد السوفييتي، وراحت الولايات المتحدة من جانبها تكرّس وجودها في المناطق القريبة من الأراضي الروسية عبر إقامة قواعد عسكرية في آسيا الوسطى وتوسيع حلف شمال الأطلسي ليضم دولاً كانت إلى عهد قريب جزءاً من المعسكر الشرقي، وذلك رغم التحذيرات المتكررة التي أصدرتها روسيا. وأخيراً عملت أميركا على إضعاف النفوذ الروسي وزعزعة قبضتها على الدول القريبة منها مثل جورجيا وأوكرانيا في ظل استياء واضح للكريملن. غير أن الارتفاع الكبير الذي شهدته أسعار الطاقة أعطى لروسيا زخماً اقتصادياً وسياسياً قلّ نظيره، بحيث استطاعت موسكو تسديد مستحقاتها من الديون إلى نادي باريس حتى قبل بلوغ الموعد المحدد، مزيلة صورة الأزمة الاقتصادية التي عصفت بروسيا خلال التسعينيات وترسّخت في أذهان الناس.

ومنذ ذلك الوقت وروسيا تشهد فائضاً في موازنتها وتسعى إلى فرض هيمنتها مثلما حدث عندما هددت بقطع إمداداتها من الغاز الطبيعي لكل من أوكرانيا وجورجيا، وهي الرسالة التي لم تقتصر فقط على الدولتين السابقتين، بل وصلت إلى دول أوروبا الغربية أيضاً. وفي السياق نفسه عاد الرئيس بوتين من جولته الشرق الأوسطية التي طرح فيها على زعماء السعودية وقطر إقامة "أوبك للغاز"، يتم من خلاله التحكم في أحد أهم مصادر الطاقة في العالم، وتشكيل تكتل في وجه الغرب الذي أصبح أكثر ارتهاناً لموارد الطاقة القادمة من الشرق الأوسط. وهكذا رجعت روسيا مرة أخرى إلى منطقة الشرق الأوسط مستغلة علاقتها القديمة مع عدد من دوله الرئيسية، ولم يعد بإمكان الولايات المتحدة تجاهل الموقف الروسي إزاء بعض القضايا، لاسيما الملف النووي الإيراني. ولابد من الإشارة إلى أن موسكو إنما تسعى إلى حماية مصالحها التجارية والاقتصادية مع إيران التي تبيعها الأسلحة وتزودها بالتقنية النووية المدنية. وخلافاً للدول الغربية حافظت روسيا على علاقات جيدة مع حكومة "حماس" دون أن تخل بصلاتها مع إسرائيل التي ينحدر قرابة مليون من مواطنيها من روسيا.

هذا ولا تتردد روسيا في توجيه تهديدات إلى بولندا وجمهورية التشيك بسبب موافقتهما على نشر أنظمة صواريخ أميركية فوق أراضيهما. وقد ساهم النمو الاقتصادي وعودة الثقة بالنفس إلى روسيا في ارتفاع نسبة شعبية الرئيس بوتين إلى 70% حسب استطلاعات الرأي. وبالنسبة للرأي العام الروسي تشكل عودة بلده إلى سابق قوته والاضطلاع بدوره الفاعل على الصعيد العالمي أمراً أهم من تمسك بوتين بالسلطة، أو نكوصه عن الديمقراطية. أما الولايات المتحدة التي وقفت ضد التطلعات الروسية في السابق، فهي تجد نفسها اليوم غارقة في الورطة العراقية، وغير قادرة على استعادة مصداقيتها العالمية، وهو ما أفقدها الكثير من قدرتها على التدخل. ويبدو أن بوتين الذي فضّل انتظار ظروف أفضل لترسيخ مكانة بلاده عالمياً انقض على الفرصة المناسبة لإعلان عودة بلاده المظفرة إلى الساحة الدولية رغماً عن كيد المعارضين.

و كل ذلك جسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق.

المصدر:الإتحاد الإمارتية-6-3-2007