مقالات و محاضرات

 

 

 

كيف سيتذكر التاريخ حقبتنا الحالية؟

 

 

آلفن توفلر

 

 

مع انفجار الشرق الأوسط، وتعدد بؤر الصراعات، والخوف من تحول أنفلونزا الطيور إلى وباء ينتشر عبر مختلف دول العالم، والخوف من قيام الإرهابيين بنشر الفوضى والدمار في المطارات ومحطات القطارات، وتذبذب أسعار الطاقة صعوداً وهبوطاً، وظهور تهديدات نووية جديدة، وتعثر الولايات المتحدة في أكثر من موقع على الكرة الأرضية، وحدوث مزيد من الاختلالات في الاقتصاد العالمي... فإن السؤال الذي سيجد الكثيرون منا أنفسهم مضطرين إلى طرحه هو: كيف يمكن لنا أن نفهم هذا العالم، وهو على هذه الدرجة من الاضطراب والتعقيد؟

من بين الطرق التي يمكن لنا بها ذلك (فهم العالم)، أن نتوقف عن محاولة الفهم. هذه طريقة وهناك طريقة أخرى أفضل بلا شك، وهي أن نرتب الأشياء وفقاً لأهميتها النسبية، حيث نسأل أنفسنا: كيف سيبدو عالم اليوم إذا ما تم النظر إليه من نقطة معينة في المستقبل؟ أو ما هي التغيرات الكبرى التي قد تقع في المستقبل وتقوم "بتقزيم" تلك التطورات التي تحتل الصفحات الأولى في الصحف وصدارة نشرات الأخبار في عالم اليوم؟

ونظراً لأننا كتبنا فيما مضى عن موجات التغيير الثلاث الكبرى في التاريخ البشري وهي: قدوم عصر الزراعة، وصعود المجتمع الصناعي، والتحول الحديث نحو اقتصاد وحضارة قائمين على أساس المعرفة، فإنه كثيراً ما يطلب منا أن نتنبأ عن الموجة الرابعة التالية التي ستواجهنا في المستقبل.

والنظر إلى تلك الموجات الهائلة من مراحل التغير، يساعدنا على وضع الماضي والمستقبل في منظورهما الصحيح ووفق ترتيب أهميتهما النسبية. على سبيل المثال فإن قيامنا ببحث سريع من خلال محرك من محركات البحث الرئيسية على شبكة الإنترنت، سيبين لنا أن المواقع التي تتناول الرئيس الأميركي الحالي جورج بوش، يزيد عددها بمقدار الضعفين عن عدد المواقع التي تتناول نابوليون وهتلر والثورة الصناعية مجتمعين. وهذا في الحقيقة شيء كثير على التاريخ.

ونظراً لأننا نعيش في الحاضر، فإن الأحداث الحالية تتجسد في وعينا بحجم أكبر بكثير من أحداث مماثلة وربما أكثر أهمية وقعت في الماضي، أو يحتمل أن تقع في المستقبل. أما عندما نقوم بوضع هذه الأشياء حسب أهميتها النسبية فإن الوضع سيكون مختلفاً.

إذن كيف سيبدو عصرنا الحالي بكل ما يحفل به من دراما وأخطار في نظر أبنائنا... وفي نظر أبنائهم أيضاً؟ وما الذي يمكن لموجة التغيير التالية أن تجلبه معها؟

من بين المقاربات التي يمكن لنا توظيفها فيما يتعلق بتناول "الموجة الرابعة" من موجات التغيير التاريخي، تلك المقاربة الخاصة بالتطلع إلى "نقاط التلاقي". فمن الملاحظ في الوقت الراهن، أن بعض التطورات ذات الأهمية الفائقة التي تحدث في مناطق مختلفة من العالم، تتجه كلها وبسرعة هائلة نحو نقطة تلاق. ونحن سنركز هنا على التقنية، رغم اعترافنا في ذات الوقت أن التقنية ليست هي كل شيء على الإطلاق.

فإذا ما أخذنا تقنية مثل تقنية "النانو" أو التقنية التي تقوم على أصغر وحدة قياس عرفها البشر حتى الآن، وهي " النانو متر" الذي يعادل واحدا على بليون من المتر، فسوف نجد أننا لم نبدأ بعد في تخيل- مجرد تخيل- الأشياء التي يمكن لنا اكتشافها عندما نصبح قادرين على فحص أي شيء، بدءا من أجسامنا وأمخاخنا إلى البيئة إلى أنظمة الطاقة على مستوى فائق الصغر مثل هذا المستوى.

ونحن نؤمن بأن تقنية "النانو" ستقوم بتغيير شكل صناعة الدواء والصناعة عموماً والجيوش والبيئة وعشرات الحقول غير ذلك تغييراً تاماً.

بيد أنه يتعين علينا أن ندرك، ونحن نتخيل ذلك، أن تقنية "النانو" لا تتطور في فراغ.

ومن المرجح كذلك أن نشهد أيضاً قفزة كبرى في نسبة ذكاء بعض سكان الكوكب من البشر- على الأقل- وأن نشهد أيضاً بعض التقدم في علم الأعصاب، وعلم التغذية، والاستخدامات الجينية والتقنية الحيوية بشكل عام، وأن تتلاقى تلك التقنيات والعلوم في نقاط التقاء ثم تتحد بعد ذلك مع تقنية "النانو".

يقال لنا في الوقت نفسه إن زيادة التطور في نسبة "ذكاء الآلة"، وعلى وجه الخصوص "ذكاء الشبكات"، سيؤدي إلى إنتاج منظومات تتسم بخصائص إنسانية يتزايد عددها باستمرار.

و"التلاقي" بين الأشخاص الأكثر ذكاء، والآلات الأكثر ذكاء سيؤدي- ضمن ما يؤدي- إلى تسريع وتيرة حدوث مزيد من التغير في شكل نقاط التلاقي أعلاه.

وكل هذا دون أن نتطرق إلى التغيرات الدينية والاقتصادية والسياسية والثقافية والعسكرية العميقة التي تنتظرنا في المستقبل.

كما أن ذلك لا يتطرق إلى التطورات القادمة التي يمكن أن تؤدي في النهاية إلى "تقزيم" باقي التطورات وتمنح الموجة الرابعة مكانتها الخاصة في التاريخ.

يمكننا هنا أن نقوم بتمرين عقلي مبسط، وذلك بأن نسأل أنفسنا سؤالاً يمكن أن يكون على النحو التالي: كيف سيتذكر المؤرخون (إذا كان لا يزال هناك في ذلك الوقت مؤرخون على النحو الذي نعرفهم به الآن) فترتنا الحالية، عندما ينظرون إليها بعد ألف عام من الآن؟ ربما لا نستطيع الآن التنبؤ بالأشياء التي سيتذكرونها غير أنه يمكننا وبدرجة معقولة من التأكد أن نعدد الأشخاص أو الأشياء التي لن يتمكنوا من تذكرها.

ربما يتم العثور على أسماء بوش أو صدام أو الحادي عشر من سبتمبر أو "كيم يونج إيل"... عند استخدام بعض محركات البحث في المستقبل، ولكن تلك الأسماء والأحداث لن تجتذب كثيراً من الزوار. وفي اعتقادي أن تلك الشخصيات ستنضم إلى تلك النوعية من الشخصيات التاريخية التي ربما كانت لها أهمية في عصرها، غير أنها لا تجتذب اهتمامنا في الوقت الراهن مثل شخصية "أولاف ترايجفاسون" النرويجي الذي هزم "إيريك جارل أوف ليد" في إحدى المعارك ( لا اعتقد أن أحداً يهتم بالبحث عنهما في الوقت الراهن بخلاف المتخصصين ربما)، أو مثل شخصية قائد من لاهور في باكستان، يدعى "انانج بال"، خسر معركة خاضها ضد "محمد الفاتح" منذ ألف عام.

هذا ما سيكون عليه الوضع في المستقبل بعد ألف عام من الآن: الشخصيات والأحداث التي تحتل الصدارة في وسائل الإعلام في الوقت الراهن، سوف تتضاءل أهميتها حتى لا تكاد تلفت انتباه أحد، تماماً مثل الشخصيات التي ذكرناها تواً.

مع ذلك فإن أحفادنا سيتذكرون بالتأكيد شيئاً واحداً؛ سوف يتذكرون في مكان ما، ربما يكون بنكاً من بنوك الذاكرة، أن هذا العصر هو العصر الذي شهد لأول مرة في التاريخ البشر وهم يغادرون كوكب الأرض إلى كواكب أخرى ويعودون منها، ثم يرسلون الروبوتات والمركبات الفضائية إلى كواكب كالمريخ وغيره ويكتشفون كواكب جديدة، ومجرات جديدة، ويستعدون لمواجهة كافة ما سيأتي به المستقبل، سواء كان ذلك في صورة اكتشاف ثروات جديدة أو في صورة خروج جماعي من الكوكب الأرضي إلى كواكب أخرى كانت هذه الرحلات الفضائية التي تتم في الوقت الراهن مجرد مقدمة وتمهيدا له.

*ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفيس"

 و كل ذلك بحسب المصدر المذكور نصا و دون تعليق.

المصدر:الإتحاد الإماراتية-6-1-2007