مقالات و محاضرات

 

 

 

 

"حقيبة الخارجية"... محور جدل في السياسة الهندية

 

 

 

د. عبدالله المدني

 

 

منذ استقالة أو إعفاء السياسي العجوز "نيتوار سينج" من منصبه كوزير للخارجية الهندية قبل نحو عام، على إثر الكشف عن تورطه في تعاملات غير قانونية ضمن ما عرف بصفقة "النفط مقابل الغذاء" العراقية، ظلت هذه الحقيبة شاغرة، فيما كانت العلاقات الدولية تدار مباشرة من قبل رئيس الوزراء "مانموهان سينج"، والمهام الدبلوماسية الخارجية يكلف بها وزراء الدولة أو وكلاء الخارجية. وقد نشأت عن هذا إشكالات بروتوكولية فضل معها وزراء الخارجية الأجانب تأجيل زياراتهم للهند، بل أثار هذا الوضع تساؤلات مصحوبة بالاستغراب في الداخل والخارج حول ترك هذه الحقيبة شاغرة، في وقت يتنامى فيه مركز الهند الدولي وتنتظرها استحقاقات كثيرة.

لم تكن للأمر بطبيعة الحال علاقة بخلو الهند من شخصيات دبلوماسية مؤهلة، بقدر ما كانت له علاقة بحرص مانموهان سينج وزعيمة "حزب المؤتمر" الحاكم سونيا غاندي على دقة الاختيار هذه المرة كي لا يتكرر ما ألحقه الوزير السابق من تشويه بسمعة الدبلوماسية الهندية، وما أضفاه على سياسات البلاد الخارجية من مسحة "يسارية" ذكَّرت المراقبين بمواقف الهند زمن الحرب الباردة. هذا ناهيك عن رغبتهما في الإتيان بشخصية مُحنكة تستطيع بنجاح إدارة المستجدات الكثيرة المرتبطة بملفي علاقات نيودلهي بكل من إسلام آباد وبكين، وأشكال التعاون مع القطب الأميركي -لاسيما التفاهم حول الشؤون النووية- التي ما برحت تثير انتقادات الداعمين للحكومة الائتلافية الحالية من القوى "اليسارية" والشيوعية الممثلة في البرلمان.

ومما تسرب أن "سينج" و"غاندي" ظلا يبحثان على مدى عدة أشهر عن الشخصية المناسبة إلى أن اقتنعا بأن أفضل من يمكن أن يعهد إليه بقيادة الدبلوماسية الهندية والدفاع عن سياسات الحكومة الخارجية في البرلمان في هذا المنعطف المهم هو وزير الدفاع "براناب موكيرجي". فالأخير سياسي مخضرم ذو تاريخ يزيد عن ثلاثة عقود في أروقة حزب المؤتمر، فضلاً عن ولائه وإخلاصه لهذا الحزب الذي حكم الهند معظم سنوات ما بعد الاستقلال. هذا الولاء الذي ورثه الرجل عن والده "كامادا كينكار موكيرجي" أحد المحاربين من أجل الحرية في صفوف حزب "المؤتمر" منذ عام 1920، والذي قضى بسبب نشاطه أكثر من عشر سنوات في سجون الهند البريطانية، قبل أن تستقل الهند ويصبح نائباً عن حزبها التاريخي في المجلس التشريعي لولاية البنغال الغربية في الفترة ما بين عامي 1952 و1964. إلى ذلك، فإن "موكيرجي" الحاصل على إجازة في الحقوق وشهادتي ماجستير في التاريخ والعلوم السياسية من جامعة "كلكتا" يملك خبرة طويلة استمدها من عمله كمعلم وصحافي ومؤلف ومحامٍ قبل دخوله المعترك السياسي. وهو لئن عجز عن الفوز بمقعد نيابي قبل عام 2004، فإن ذلك لم يقف دون توليه عشرات الحقائب الوزارية في حكومات "المؤتمر" المختلفة منذ عام 1974 بما في ذلك حقائب التجارة والمالية، إضافة إلى حقيبة الخارجية، التي حملها لفترة قصيرة بين عامي 1995 و1996.

غير أن "سينج" وغاندي اصطدما بتردد الرجل وتفضيله البقاء كوزير للدفاع على إشغال حقيبة كالخارجية تتطلب مهامها رحلات خارجية مستمرة، وبالتالي الابتعاد عن الشأن الداخلي، الذي هو محل الاهتمام الأول للساسة الهنود، ومصدر نفوذهم وقوتهم الانتخابية. وهكذا تطلب الأمر عدة أشهر إضافية لإقناعه بقبول المنصب.

والحقيقة أن من يقرأ تاريخ تشكيل الحكومات الهندية منذ الاستقلال سيجد الكثير من الإشكاليات والتطورات التي أحاطت بعملية إشغال حقيبة الخارجية تحديداً. فعلى سبيل المثال ظلت هذه الحقيبة طويلاً ضمن مسؤوليات رئيس الوزراء نفسه، ولاسيما في ظل الحكومات التي شكلها قادة "حزب المؤتمر" التاريخيون. ولئن قيل في أسباب احتفاظ أول رؤساء الحكومة "جواهر لال نهرو" بالحقيبة من عام 1947 وحتى وفاته في عام 1964، عدم وجود شخصيات وقتذاك ذات خبرة طويلة في العلاقات الخارجية تضاهي خبرة وعلاقات نهرو الدولية الواسعة، فإن السبب الآخر كان إجماع الساسة الهنود بمختلف مشاربهم على مهارات الرجل وثقتهم بصواب سياساته –على الأقل حتى عام 1962 الذي ثبتت فيه فشل سياساته حيال الصين- وحرصهم على توفير جهودهم للتعامل مع الملفات الداخلية الصعبة. هذا المنحى استمر مع ثاني رؤساء الحكومة "لال بهادور شاستري" الذي حكم من 1964 إلى 1966، رغم عدم إلمامه الواسع بالشؤون الخارجية، وتوطد في معظم سنوات حكم خليفته "أنديرا غاندي"، التي شهد عهدها تطورات إقليمية ودولية عاصفة تطلبت قيادتها بنفسها للشؤون الخارجية بالتعاون مع مستشاريها الكبار.

غير أنه في عهود حكم "حزب المؤتمر" التالية، ومع بروز رؤساء حكومات ضعيفي الشعبية وقليلي الخبرة في الشؤون الخارجية، انفصلت حقيبة الخارجية عن رئاسة الحكومة، وهو ما ترسخ بعد ذلك في ظل كل الحكومات التي شكلتها الأحزاب السياسية الأخرى من تلك التي حرص زعماؤها على إيلاء القضايا الداخلية جل اهتمامهم طمعاً في تمتين شعبيتهم الضعيفة وتمكين حكوماتهم الهشة من الاستمرار في السلطة. لكن مع احتفاظهم بحق التدخل في الملفات الخارجية ذات العلاقة بالداخل كملفات العلاقة مع باكستان وسريلانكا وبنجلادش.

ومن المفيد هنا التذكير بأن رئاسة الحكومة في الهند، كانت على الدوام ذات تأثير قوي على رسم السياسات الخارجية والتدخل في تفاصيلها الصغيرة، مع بعض التباينات صعوداً أو هبوطاً بحسب قوة ونفوذ وخبرة ورغبة من يجلس على كرسيها. بيد أن هذا لم يمنع أمرين هما:

أولاً: مشاركة كل أعضاء الحكومة في مناقشة السياسات الخارجية للبلاد أو الاعتراض عليها. وفي الحالة الأخيرة، كان الاعتراض مقدمة لترك الوزير لمنصبه على نحو ما حدث عام 1966 مع وزير إعادة التعمير الذي استقال احتجاجاً على سياسة رئيسه "شاستري" حيال "اتفاقية طشقند للسلام مع باكستان"، وما حدث في عام 1968 مع وزير التخطيط والرعاية الاجتماعية الذي ترك منصبه اعتراضاً على سياسات "أنديرا غاندي" حول قضية الغزو السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا.

ثانياً: بروز وزراء خارجية مرموقين تجاوزت أدوارهم تحليل الأحداث وتقديم المرئيات وتنفيذ السياسات الخارجية إلى صياغة تلك السياسات وتوجيهها وتحمل تبعاتها شخصياً. من أبرز الأمثلة في هذا السياق، الدور الذي لعبه وزير الخارجية، ورئيس الحكومة فيما بعد، "أندر كومار غوجرال"، في رسم سياسة الهند حيال الغزو العراقي للكويت وحرب الخليج الثانية. حيث انتهز "غوجرال" وجود حكومة ائتلافية ضعيفة على رأسها رجل قليل الخبرة هو "في بي سينج" ليرسم بنفسه سياسات ومواقف محايدة إزاء الأزمة من تلك التي فسرت كويتياً وخليجياً وأميركياً على أنها متعاطفة مع النظام العراقي.

الأمر الآخر الجدير بالذكر هو أنه في مختلف الأحوال، وبغض النظر عمن يشغل حقيبة الخارجية، استطاع البرلمانيون الهنود أن يؤثروا في السياسات الخارجية للحكومة، بل ويجبروا الأخيرة أحياناً على التراجع عن مواقفها إزاء بعض القضايا. فمثلاً أجبر النواب الهنود حكومة نهرو في عام 1963 على التراجع عن اتفاقية لمنح الأميركيين تسهيلات لإقامة إذاعة موجهة ضد الصين على الأراضي الهندية. وبالمثل نجحوا في عام 1991 في إجبار حكومة الأقلية بزعامة "تشاندرا شينكار" على التراجع عن اتفاقية مع واشنطن لتزويد الطائرات الأميركية العسكرية المتجهة إلى الخليج بتسهيلات في المطارات الهندية.

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور.

المصدر: الإتحاد الإماراتية-5-11-2006