مقالات و محاضرات

 

 

أولويات ما بعد الحرب في لبنان

 

 د. محمد السيد سعيد

 

إذا توقفت الحرب فعلاً في لبنان ولو بعد بضعة أيام من الخروقات الإسرائيلية المعتادة في التعامل مع القرارات الدولية (لنتذكر التغطية الأميركية لكسب إسرائيل يومين إضافيين من العدوان لتوسيع رقعة الاحتلال بعد ميعاد سريان قرار وقف حرب أكتوبر عام 1973) يتعين مواجهة امتداداتها السياسية المباشرة والفورية وحل الصراع المتوقع حول تحديد الأولويات في لبنان وعلى المستوى الإقليميي.

من داخل السياسة اللبنانية سوف يبدأ على الفور تطبيق الأجندة الأميركية للأولويات. وتضع هذه الأجندة قضية وقف تصدير السلاح لـ"حزب الله" ونزع سلاحه وإخراجه من الجنوب في سياق نشر الجيش اللبناني وقوات "اليونيفيل", وحصار "حزب الله" سياسياً من خلال إطلاق حملة صاخبة لتحميله مع إيران وسوريا مسؤولية العدوان الإسرائيلي ومن ثم تحجيمه سياسياً وعسكرياً. وربما تسعى السياسة الأميركية إلى تكثيف الضغوط على "حزب الله" من داخل الساحة اللبنانية، حتى ولو دفعت الأمور إلى حافة الهاوية أو إلى مشارف حرب أهلية. وعلى النقيض فإن الأجندة الوطنية وأجندة "حزب لله" نفسه سوف تضع في المقدمة إعادة بناء التشكيل العسكري للحزب وتعويض خسائر الحرب وبناء حاضنة شعبية وسياسية لمواجهة الحملة المعادية المتوقعة, وربما استمرار التحصن العسكري في الجنوب. ومن المستحسن أيضاً أن يدرك "حزب الله" سريعاً حاجته الملحة إلى الإفادة من أدائه العسكري العظيم لإحداث اختراق في الساحتين الإقليمية والعالمية.

ويصعب التنبؤ بشدة الاحتقان أو حدة الأزمة السياسية التي ستتبع نهاية الحرب من الآن. وقد نشهد في البداية انطلاقة قوية للأصوات المعادية من داخل لبنان ومن الساحة العربية ذاتها, ومحاولة بناء اصطفافات معادية لـ"حزب الله". وفي مرحلة تالية من المتوقع أن تهيمن روح الواقعية السياسية بما يخفف قليلاً من شدة الأزمة السياسية ومن حدة الصراع حول المستقبل اللبناني, وخاصة فيما يتعلق بما سيضطر لبنان لتطبيقه من التدابير المتضمنة في القرار 1701, وما يمكنه تأجيله من هذه التدابير.

ومن هنا يجب أن نطرح السؤال حول طبيعة الحل الأمثل للتناقضات اللبنانية والإقليمية حول الأولويات. وأهم المعايير التي يجب أن يأخذ بها الاتجاه القومي والوطني في صياغة الأولويات هو الحيلولة دون تفجير الوضع اللبناني من الداخل بما يؤدي إلى فرض حصار سياسي على الحزب واستكمال الحرب ضده بأيد لبنانية. فلبننة الصراع سوف تكون أهم الأدوات الاستراتيجية في جعبة الأميركيين والإسرائيليين. وبتعبير آخر فإن المحافظة على صيغة التعايش هي المعيار الأول لترتيب الأولويات.

غير أنه يجب أن نعترف بأن أفضل النوايا وأكثر طاقات ضبط النفس قد لا تكفي للتوصل إلى صياغة سليمة للأولويات على أرضية التعايش. فالصراع في لبنان بعد نهاية العدوان الإسرائيلي الإجرامي سوف يتناول قضايا تمس وجود "حزب الله", وهو لن يتنازل ولا ينبغي أن يتنازل في الأمد المباشر والقصير عن استعداداته العسكرية. ولذلك فمن المحتم أن يحتاج الجميع للأخذ بمعايير أخرى لصياغة أولويات سليمة.

وثمة ثلاثة معايير إضافية ولا غنى عنها للتوافق اللبناني على هذه الأولويات, وهي الإلحاح الموضوعي والواقعية وضرورة الوضوح على الأقل فيما يتصل بضمانات عدم تكرار عدوان إسرائيلي مماثل في المستقبل المنظور.

القضايا الملحة موضوعياً والتي يمكن أن يتوفر حولها إجماع لبناني وإقليمي هي إعادة النازحين وإعادة بناء الحد الأدنى من المرافق التي دمرها العدوان الإسرائيلي واللازمة لتسيير الحياة المدنية وجهاز الدولة. وعلى نفس الدرجة من الإلحاح بالنسبة لجميع اللبنانيين والعرب، نجد ضرورة دفع الجيش إلى الجنوب لضمان انسحاب إسرائيل من الأراضي اللبنانية التي تحتلها الآن بأسرع ما يمكن. فلـ"حزب الله" مصلحة مؤكدة في ذلك, كما أن هذه المصلحة تتوفر أيضاً لجميع اللبنانيين. ما قد يثور عليه الصراع هو احتمال أن تقود الحاجات الملحة "حزب الله" إلى محاولة تعويض خسائره التسليحية بأسرع ما يمكن قبل تطبيق التدابير المنصوص عليها في القرار 1701.

الواقعية هي معيار بالغ الأهمية, ويستحسن أن تدرك منذ البداية, وهي تملي تأجيل إثارة قضية تسليح "حزب الله" وتحوله إلى حزب مدني إلى ما بعد استعادة بنية صلبة للدولة والمجتمع. فالجميع يعلم استحالة نزع سلاح "حزب الله", وكل من يطرح هذه المسألة على مائدة البحث بعدوانية وتركيز لا يتجاهل معيار الواقعية فحسب بل ويتجاهل أيضاً الضرورات الدفاعية في ظروف تجعل لبنان مستباحاً كلية في غياب قوة الردع التي يمثلها "حزب الله". فالجيش اللبناني محروم تماماً من نظم التسليح الضرورية للدفاع المقتدر ناهيك عن الردع. وبالمقابل فإن الواقعية تملي على "حزب الله" ادراك توافق غالبية القوى السياسية المنظمة في لبنان، لا على مجرد استعادة سلطة الدولة فحسب، بل وأيضاً على ضرورة سد الذرائع الإسرائيلية وعدم تقديم أي مسوغ لاستمرار احتلالها للأراضي اللبنانية أو تكرار العدوان.

ويرتبط ذلك بالمعيار الثالث وهو الوضوح. إذ يتسحيل أن يتم العمل على إعادة بناء المرافق العامة الضرورية لتسيير الحياة المدنية في لبنان وإعادة النازحين وعلاج الأوجه الكثيرة للمحنة التي ترتبت على هذه الحرب الإجرامية، إذا كان من المرجح أن تعاود إسرائيل عدوانها على لبنان. ويعني ذلك أنه سيكون من الصعب للغاية التوصل إلى توافق لبناني لا يشمل سحب القطاع الأكبر من قوات "حزب الله" من قطاع كبير من الجنوب في سياق إعادة قوات الجيش وقوات اليونيفيل إليه. ولا شك أن هذا يتطلب تنازلا كبيراً من جانب "حزب الله", بل ويتطلب قراراً استراتيجيا مؤلماً للغاية. إذ تتمثل صعوبة هذا القرار في أنه قد يفسر على أنه انتصار سياسي كبير لإسرائيل, وقد يترك الجنوب بدون قوة ردع وقد يشجع إسرائيل على استباحته. وفضلاً عن ذلك كله فإن سحب قوات "حزب الله" من الجنوب لن يكون إجراءً مؤقتاً أو معزولا أو قابلا للتعويض بسهولة, فمن الصعب إعادة هذه القوات مع وجود اليونيفيل ومن الصعب أن تتم إعادة بناء الحضور العسكري للحزب بعيداً عن الجنوب وبقرب العاصمة. والأهم أن هذا القرار قد يحتم على المدى الوسيط التحول فعلا إلى حزب مدني من الناحية الأساسية.

ومع الإعتراف بحجم الصعوبات التي تكتنف هذه العملية، فمن الممكن أن يتم التوصل إلى صياغة معقولة للأولويات, إذا أمكن التفاوض على تدابير ذكية وفيها قدر من الخيال. وعلى سبيل المثال فإن فكرة دمج قوات "حزب الله" في الجيش اللبناني قد لا تكون مقبولة إذا كانت ستنشر في الجنوب أو كانت ستدمج كقوة مستقلة, ولكنها ليست مستحيلة لو كانت ستنشر في محيط جغرافي أوسع, وفي إطار التنظيم العسكري المعتمد للجيش. وقد تكون هناك أفكار أفضل تحافظ لـ"حزب الله" على شيء من المنعة والكرامة وتضمن في الوقت نفسه عدم تقديم ذرائع لتكرار العدوان العسكري الإسرائيلي.

وإذا طبقت أفكار مبتكرة وتقوم على حلول وسط, سيكون من الممكن التوافق على أولويات محددة. أعلى هذه الأولويات مرتبة هي ضرورة انسحاب القوات الإسرائيلية إلى ما بعد الخط الأزرق على وجه السرعة, وهو ما يملي سرعة نشر الجيش اللبناني, فبدون ذلك سيكون من الصعب للغاية إعادة النازحين وهي الأولوية الوطنية والإنسانية العاجلة والمتفق عليها, وإعادة بناء الحد الأدنى من المرافق الحيوية.

يجب أن يقوم التوافق اللبناني الجديد على أساس الفخر القومي بالإنجاز العسكري العظيم لـ"حزب الله", وليس على تحميله مسؤولية الحرب, يمكن ويجب أن يبقى "حزب الله" لكل لبنان, ولكن يجب أيضاً أن يحترم كل لبنان الحضور السياسي للحزب, في إطار تطبيق أمين لاتفاق الطائف. ويجب أن يسمح هذا التوافق بملاحقة إسرائيل لإجبارها على دفع تعويضات وتقديم اعتذار عن جرائمها في لبنان. وفي النهاية يجب أن ينهض لبنان من جديد قوياً ومنيعاً في وجه أي عدوان إسرائيلي آخر.

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور.

المصدر: الإتحاد الإماراتية-16-8-2006