"المحاكم" بين شبح "طالبان" وفرص السلام

 

د. وحيد عبد المجيد

 

ميليشيا "المحاكم الشرعية" الصومالية لا تشبه ميليشيا "طالبان"، على الأقل حتى الآن، إلا في أن كلاً منهما برزت باعتبارها قوة توحيدية قادرة على بسط سيطرة القانون والنظام في بلد عانى في غياب الحكم المركزي والأمن لسنوات طويلة. كما استند كل منهما إلى الشريعة الإسلامية التي تجد قبولاً واسعاً في مجتمع تقليدي ما زالت القبيلة هي الوحدة الاجتماعية الرئيسية فيه، رغم الحكم اليساري الذي مر على كل من البلدين وكأنه شبح اختفى فلم يترك أثراً. واقترن سقوط نظامي كل من سياد بري ونجيب الله بانقسامات حادة راح الأمن والنظام العام ضحية لها، فصار قطاع واسع في المجتمع يرنو إلى من يعيد الاستقرار. فكانت ميليشيا "طالبان" في أفغانستان، ثم كانت ميليشيا "المحاكم الشرعية" في الصومال. ولو أجرينا مقارنة دقيقة، لوصلنا إلى وجود تشابه في الظروف التي أحاطت كلاً منهما، وفي السياق العام الذي ظهرتا فيه.

ولعل هذا التشابه السياقي هو الذي يخيف من يعتبرون حكم "طالبان" في أفغانستان كابوساً مرعباً، ويدفعهم إلى التحذير من تكراره في الصومال. فكثيرة هي العناوين التي حملت هذا المعنى في الإعلام الغربي، وبعض الإعلام العربي. وأكثر ما يتكرر فيها عنوان تقريري يوحي بأنه لا فرق بين "طالبان" و"المحاكم الشرعية"، وآخر في صورة سؤال لا يخلو من الإيحاء نفسه. فأما العنوان التقريري فهو "الصومال على طريق أفغانستان"، وأما العنوان الاستفهامي فهو: "هل تتحول الصومال إلى ما يشبه حكم طالبان؟". وثمة عناوين أخرى من النوعين التقريري والاستفهامي يؤكد بعضها ويوحي بعضها الآخر بأن الإرهاب وجد له أخيراً ملاذاً آمناً بديلاً عن ذلك الذي فقده في أفغانستان، أو بأن "القاعدة" عرفت طريقها إلى الصومال.

وفي ذلك من المبالغة ما قد يصل إلى حد الزعم، وأخطر ما تنطوي عليه هذه المبالغة هو أنها قد تصبح مثل "النبوءة المحققة لذاتها"، أي أن الإفراط في إشاعة توقع بعينه والإلحاح عليه، قد يساهم في تحقيقه رغم عدم توفر مقوماته الأساسية أو أهمها. فالإفراط في المشابهة بين ميليشيا "طالبان" وميليشيا "المحاكم الشرعية" قد يقف حائلاً أمام دور عربي تشتد حاجة الصومال إليه الآن أكثر من أي وقت مضى. وربما يتوقف مصير الصومال لسنوات طويلة قادمة على فاعلية هذا الدور، في تحقيق مصالحة وطنية تبدو ممكنة الآن بعد أن ظلت مستحيلة منذ سقوط نظام سياد بري.

فالصعود السريع لـ"اتحاد المحاكم الشرعية" جعل العاصمة مقديشو تحت سيطرة قوة واحدة، للمرة الأولى منذ أن بدأت الحرب الأهلية عام 1991. وفي هذا التطور حل لمشكلة جوهرية واجهتها 14 مبادرة للمصالحة على مدى أكثر من عشر سنوات. فقد أصبح ممكناً الشروع في هذه المصالحة بدءاً بوساطة بين "المحاكم الشرعية" والحكومة المؤقتة.

غير أن هذه الوساطة التي شرعت فيها الجامعة العربية فعلاً، قد تتأثر سلباً في حال شيوع الاعتقاد بأن المحاكم ستقيم نظاماً إسلامياً على نمط حكومة "طالبان" المتطرفة، وتتحالف مع تنظيم "القاعدة"، وتجعل الصومال ملاذاً جديداً للإرهاب.

وهذا اعتقاد لا تسنده وقائع صعود نجم هذه المحاكم، وتحول الاتحاد القائم بينها إلى أكبر قوة على الأرض في الصومال اليوم. فقد خرجت الحركة السياسية- العسكرية التي تحمل اسم "المحاكم الشرعية" من رحم النظام القضائي الذي دعمه وقام بتمويله التجار الذين تعرضت مصالحهم لكثير من الأذى بسبب الفوضى التي ضربت البلاد والابتزاز الذي مارسه عليهم أمراء الحرب.

فكان تجار مقديشو هم الذين سعوا إلى بناء نظام قضائي يحقق قدراً من الاستقرار في المعاملات التجارية والمالية المضطربة، ويحل النزاعات التي تنشأ من خلال هذه المعاملات وغيرها مما يحدث بين الأفراد. فقد عانى هؤلاء التجار الأمرّين، وعاشوا تحت تهديد طال أمنهم الذاتي وسلامتهم الشخصية وليس فقط تجارتهم، وتعرض بعضهم للخطف من قبل أمراء الحرب الذين حصلوا على فدية لإطلاق سراح المخطوفين، هذا فضلاً عن الأتاوات الباهظة التي كان عليهم أن يدفعوها بانتظام لضمان تسلم بضاعتهم المستوردة في الميناء ونقلها إلى مخازنهم عبر طرق لا يتوفر فيها الأمن. ولذلك وجدوا في المحاكم الشرعية مُنقذاً لما أبداه القائمون عليها، من حرص على تحقيق ما يمكن تحقيقه من عدل في حالة فوضى يأكل فيها القوي الضعيف. وكانت هذه المحاكم في حاجة إلى حماية لها ولأحكامها، فقام التجار أصحاب المصلحة في تقوية هذه المحاكم، بجلب حراس وتحمل نفقات إعاشتهم وتدريبهم. فكانوا هم نواة ميليشيا المحاكم التي تلقى أفرادها تدريباً جيداً ظهر أثره بعد ذلك في المعارك التي خاضوها ضد المقاتلين الموالين لأمراء الحرب.

هذه الخلفية لا تدعم الميل الشائع إلى المشابهة بين ميليشيا "المحاكم الشرعية" وميليشيا "طالبان"، ولا ترجح احتمال أن تصبح هذه الميليشيا ظهيراً لإرهاب "القاعدة". كما أن معظم ممارسات هذه الميليشيا على الأرض في المناطق التي سيطروا عليها، لا تدل على جموح شديد. فقد أغلقت ميليشيا المحاكم متاجر الفيديو التي تبيع أشرطة إباحية، ولكنها لم تتعقب النساء في الشوارع بالضرب وغيره من أشكال الأذى، وأعلن رئيس اتحاد المحاكم شريف الشيخ أحمد، أنه لن يفرض الحجاب على النساء، كما ثبت أن ما نشرته وبثته وسائل إعلام عدة عن منع الناس في مقديشو من مشاهدة مباريات "المونديال" ليس صحيحاً.

ولا يعني ذلك أنه لا يوجد أي متطرفين في أوساط "المحاكم الشرعية"، فهي ليست متجانسة تماماً، ولكن من بين 11 محكمة شرعية رئيسة في مقديشو، هناك اثنتان هما اللتان قد يكون لبعض القائمين عليهما مواقف متطرفة تلتقي مع الاتجاه العام لفكر "القاعدة". وواحدة فحسب من هاتين المحكمتين هي التي يقودها شيخ مشتبه بقوة في علاقته بشبكة "القاعدة"، وهو الشيخ حسين ضاهر عويس الذي كان قائداً من قبل لجماعة تسمى الاتحاد، يعتقد بعض خبراء الإرهاب الأميركيين أنها كانت مرتبطة بـ"القاعدة".

وتوجد أيضاً، علامات استفهام حول حقيقة انتماءات بعض قادة المحاكم، مثل عدنان حامثي عيرو الذي تلقى تدريباً في أفغانستان. وهناك أيضاً دلائل معقولة على وجود بعض كوادر "القاعدة" الهاربين إلى داخل الصومال، ومن بينهم بعض الذين تورطوا في تفجير سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام.

غير أن الاتجاه السائد في اتحاد "المحاكم الشرعية" والميليشيا التابعة له، يبدو معتدلاً على نحو لا يبرر حالة الخوف من وقوع الصومال تحت "حكم طالباني" جديد. ورئيس هذا الاتحاد شريف شيخ أحمد، معروف فعلاً باعتداله، وهو لم يألُ جهداً في محاولة طمأنة العالم إلى أن الصومال لن يكون ملاذاً للإرهاب، ولا للإرهابيين. وهو ذو خلفية صوفية وأزهرية، بخلاف الخلفية السلفية المتشددة لقادة "طالبان"، إذ ينتمي إلى عائلة من أهم عائلات الطريقة الإدريسية ودرس في معهد أزهري في مقديشو، وهذه خلفية تبعث على الاعتدال. ومع ذلك، فإذا لم يُقابَل هذا الاعتدال بترحيب عربي قوي يعبر عن نفسه عملياً في تحرك على مستوى رفيع، فليس مستبعداً أن يضعف نفوذ المعتدلين وقد ينحسر دورهم لمصلحة العناصر المتطرفة. وعنذئذ يكون الخوف والتخويف من ميليشيا "المحاكم الشرعية" قد فَعَل فعل النبوءة المحققة لذاتها، وبدد فرصة تاريخية لإنقاذ الصومال من الفوضى التي تضربه منذ 16 عاماً وتهدد قضيته.

فليست هناك حاجة إلى تدخل دولي، ولا إرسال قوات إفريقية، فثمة فرصة متاحة فعلاً لوساطة جادة بين اتحاد المحاكم والحكومة المؤقتة التي نجح العمل العربي المشترك في إقامتها، ولكنه أخفق في مساعدتها لبسط سيطرتها على البلاد وإنهاء نفوذ أمراء الحرب الذين عاثوا فساداً. ومما يساعد على نجاح هذه الوساطة أن الطرفين لا يمتلكان خياراً في النهاية غير المصالحة مهما بدا التقريب بينهما صعباً.

فتصعيد الصراع ليس في مصلحة أي منهما رغم أن ميزان القوى يميل لمصلحة "المحاكم الشرعية"، غير أن قادة هذه المحاكم المعتدلين يفضلون التفاهم ويدركون مغبة فتح صراع ضد الحكومة المؤقتة، قد يجلب عليهم غضباً إقليمياً ودولياً لا قبل لهم به. وفي موقفهم هذا جنوح طيب إلى السلم يصح أن يقابل بوساطة جادة قوية تستثمر فرصة تاريخية لإنقاذ الصومال. وهذا هو ما بدأ يحدث، وما نتمنى أن يستمر ويتسع نطاقه وصولاً إلى سلم أهلي شامل.

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور.

المصدر: الإتحاد الإماراتية-29-6-2006