أميركا:

                      صراع حزبي وطبقة وسطى مُغيبة

 

بول كروغمان

 

أود أن ألفت انتباهكم في حال لم تلاحظوا جيداً أن الحياة السياسية الأميركية المعاصرة تشهد صراعاً مريراً بين الحزبين الرئيسين اللذين يرسمان المشهد السياسي الأميركي، مع قدوم الجزء الأكبر من تلك المرارة الرهيبة من يمين السياسة في هذا البلد. فقد أصبح واضحاً أن خطة الجمهوريين لانتخابات 2006 للتجديد النصفي تعتمد مرة أخرى على التشكيك في وطنية الديمقراطيين. لكن هل يعتقد الجمهوريون فعلاً بأنهم جادون في محاربة الإرهاب، بينما الديمقراطيون يلعبون؟ وعندما يصرح المتحدث الجمهوري في الكونجرس قائلاً: "علينا في الكونجرس أن نظهر الإرادة الفولاذية ذاتها التي أبداها ركاب رحلة يونايتد 93"، هل يعتقد فعلاً أن هذه هي الطريقة التي ينظر بها إلى نفسه؟ بالطبع لا. إذن لنكن أكثر وضوحاً في تحديد سبب الفرقة المستحكمة بين الحزبين والصراع الدائر بينهما. وفي كلمة واحدة أقول إن السبب هو الصراع الطبقي. لقد كانت تلك هي خلاصة التي خرج بها كتاب مهم وحديث تحت عنوان "الاستقطاب السياسي في أميركا: رقصة الأيديولوجيا والتفاوت في الغنى"، لمؤلفيه "نولان ماكارتي" من جامعة برينستون، و"كيث بول" من جامعة كاليفورنيا، ثم "هوارد روزنتال" من جامعة نيويورك.

ورغم أن الكتاب ذو طابع تقني موجه للمشتغلين في العلوم السياسية، إلا أنه مرجع يفرض نفسه على كل من يريد فهم الحياة السياسية الداخلية الأميركية وسبر أغوارها. ولعل أهم ما يكشفه الكتاب من خلال تحليل معقد لتصويت أعضاء الكونجرس وبيانات أخرى أن الاستقطاب السياسي وعدم المساواة الاقتصادية يسيران جنباً إلى جنب في ترابط عضوي بينهما. فقد خلت الحياة السياسية الأميركية خلال فترة التفاوت الاقتصادي الصارخ وشيوع الاختلالات الكبيرة في الدخل من أية أخلاق وتميزت بشراسة غير معهودة في الصراع بين الحزبين، بينما اتسمت فترة الرفاه التي أعقبت الحرب العالمية الثانية بسيادة التعاون بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي وترافقت مع صعود الطبقة الوسطى في الولايات المتحدة عموماً. غير أن ذلك المنحى بدأ يتراجع مع نهاية سنوات السبعينيات من القرن المنصرم بعد انحسار الطبقة الوسطى الأميركية وجمود دخلها المادي مقابل الارتفاع الصاروخي لدخل الطبقات العليا من المجتمع. وباتساع الهوة في الدخل بين الطبقات الاجتماعية الأميركية وتفشي قيم عدم المساواة ترسخت شيئاً فشيئاً الهوة بين الحزبين وتوصيفهما للمشهد السياسي الأميركي.

هذا الانحسار في الخلاف بين الحزبين خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وعودته مجدداً في السنوات الأخيرة إنما يعكس على نحو صادق مواقف الحزب الجمهوري المتذبذبة حيال القضايا الاقتصادية إجمالاً. فقبل سنوات الأربعينيات من القرن الماضي اعتمد الحزب الجمهوري على الدعم المالي للنخب الثرية، ما جعل الحزب يستميت في الدفاع عن مصالح تلك الطبقة والحفاظ على امتيازاتها. لكن ما إن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها وانقلبت الموازين إثر أفول نجم الأثرياء وانتعاش الطبقة الوسطى حتى سارع الجمهوريون بدورهم إلى التأقلم مع الوضع الجديد من خلال انخراطهم في المؤسسات التي تعمل على الحد من التفاوت الاقتصادي مثل تأييدهم لنظام ضريبي متقدم جداً وضعه الرئيس إيزنهاور. ومرة أخرى عندما استطاعت الطبقة العليا النأي بنفسها عن باقي المجتمع وتعظيم أرباحها أدار الجمهوريون ظهورهم لميراث إزنهاور وركزوا اهتمامهم مجدداً على مصالح الشريحة الغنية. وفي هذا الصدد أصبح خفض الضرائب على الأغنياء وإلغاء الضريبة على الملكيات العقارية إحدى أهم أولويات الحزب الجمهوري.

لكن إذا كان مصدر الخلاف الحاد هذه الأيام بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري يرجع إلى جنوح هذا الأخير إلى اليمين في القضايا الاقتصادية، فلماذا إذن طغت أحاديث الإرهاب على الانتخابات الثلاثة الأخيرة بما تخلل ذلك من خطاب ديني محافظ لا تخطئه عين الملاحظ؟ الجواب هو ببساطة شديدة أن أي حزب يتبنى سياسات اقتصادية تخدم مصالح نخبة اجتماعية ضيقة يحتاج إلى صرف انتباه الجمهور إلى قضايا أخرى. وبالطبع ليس هناك أفضل لتحقيق هذا الغرض من اتهام الحزب المنافس بأنه غير وطني وغير مؤمن. وهكذا خاض بوش الانتخابات الرئاسية لسنة 2004 باعتباره المدافع عن أميركا ضد الإرهاب والزواج المثلي. ولم يعلن عن نيته في خصخصة التأمين الاجتماعي إلا بعدما ضمن نجاحه في الانتخابات ومر وقت على إجرائها. وقد استعمل الجمهوريون الاستراتيجية نفسها خلال فترة ما قبل "الصفقة الجديدة" عندما فازوا في الانتخابات نتيجة تلويحهم بالقميص الملطخ بالدماء في إحالة إلى ذكريات الحرب الأهلية حتى بعدما قطع الحزب مع إرث الرئيس لينكولن وتحول إلى حزب البارونات. وفي 1928 مني المرشح الديمقراطي "أل سميث" بالهزيمة في الانتخابات الرئاسية بعدما شن عليه "الجمهوريون" حرباً شعواء لا لشيء إلا لأنه كاثوليكي مستغلين في ذلك المشاعر المعادية للكاثوليك.

ما المطلوب إذن في هذه اللحظة من التاريخ السياسي الأميركي؟ مع الأسف ليست لديَّ نصائح أسديها للحزب "الديمقراطي" باستثناء، ربما، أن يكفوا عن اجترار الأحاديث ذاتها عن الأمن القومي والإيمان الشخصي، لأن ذلك لن يجدي نفعاً مع "الجمهوريين" الذين سيواصلون في كل الأحوال حملتهم الهجومية على "الديمقراطيين". لكن مع ذلك لدي نصيحة أخرى أريد أن أوجهها إلى الباحثين والمراقبين السياسيين إذ أقول لهم كفاكم من أحلام اليقظة ولتواجهوا الحقيقة الماثلة أمام أعينكم. فهناك العديد من الأكاديميين والباحثين الذين مازالوا ينظرون بنوع من الحنين إلى الأيام الخوالي حيث ساد التعاون بين الحزبين وتقلصت الهوة بينهما، وهم في كل مرة يهرعون إلى تأييد أي سياسي يقف في الوسط. والواقع أنه لا وجود للوسط في الحياة السياسية الأميركية حالياً، ولن يعود مجدداً إلا بعودة الطبقة الوسطى إلا الساحة واضطلاعها بدورها السياسي الفاعل.

كاتب ومحلل سياسي أميركي

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور.

المصدر: الإتحاد الإماراتية - ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"- 21-6-2006