صورة
السياسي الديني في المجتمع العراقي
لطيف
القصاب
تحدث كاتب علماني في
مقال له نشر مؤخرا عن الفرق بين السياسي والمتدين، وما يهمني من أمر
هذا الكاتب في مقاله ذاك هو إصداره لحكم قطعي بات في كون السياسة محلا
للقذارة لا ينبغي للشخص المتدين أن يلجه مطلقا أما إذا قرر هذا المتدين
ولوج مستنقع السياسة فعليه أن يخلع عنه رداء النبل والأخلاق الفاضلة
إلى الأبد ويرتدي بدلا عنه لباس الساسة الآسن الكريه.
في هذا الطرح يمكن ملاحظة
جملة من الأفكار نستطيع أن نرد الأعم الأغلب منها إلى تداعيات الإرث
السياسي العربي الحافل بالمكر والجريمة وتأثير خطاب التطرف المهيمن على
طريقة تفكير الشخصية العراقية في الحكم على الرؤى والمفاهيم العامة،
أما الفكرة الرئيسة الأخرى والتي تحاول هذه السطور أن تخوض في محاولة
تحليلها فإنها تكمن في النظرة المتدنية إلى عالم السياسة والسياسيين
وفق منظور غربي لم يعد معمولا به إلى حد بعيد في معقله الأوربي الرئيس
ومحاولات بعض المرجعيات الدينية بالاضافة الى نفر من المثقفين إعادة
إنتاج هذه النظرة البالية واذابتها بصورة قسرية في الذائقة النقدية
المحلية.لا يخفى أن من أهم العوامل التي تضافرت على ترسيخ القناعة في
أذهان الكثير من المثقفين بعدم أخلاقية السياسة والسياسيين ما خرج من
عباءة المنظر السياسي الايطالي نيقولا ميكافيلي(1469 - 1527م) في كتابه
الشهير (الأمير) حيث نصت بعض مقررات هذا الكتاب الرائج على حتمية
الطلاق بين السياسة والأخلاق وقد تحول هذا الكتاب إلى مرجعية فكرية
تكاد تكون هي العليا بالنسبة لسياسي الغرب وشهدت آراؤه النظرية تطبيقا
عمليا في أنحاء كبيرة من القارة البيضاء على مدى استمر أكثر من أربعة
قرون متتالية وحتى مع نهاية النموذج الميكافيلي في الحكم تقريبا
بالنسبة لأوربا فان هذا النظام ظل معمولا به في أصقاع كثيرة من
المعمورة لاسيما الأراضي التي خضعت للسيطرة الأوربية بعد الحرب
العالمية الثانية ومنها العراق الذي أصبح ميدانا خصبا للبرهنة على صحة
النظرية الميكافيلية في السيطرة والاستبداد وحتى بعد أن شهد العراق بعد
2003 م سقوطا رمزيا للمنهج الدكتاتوري الحافل بالمؤامرات والدسائس ما
تزال العقلية الميكافيلية هي المهيمنة على الأجواء السياسية العامة
ومنها أجواء الانتخابات والانتقال السلمي المفترض للسلطات وعجزت
الديمقراطية السياسية الفتية حتى الآن من تأسيس معادلا موضوعيا في
الذاكرة الشعبية من شانه الوقوف ندا مكافئا للإرث السياسي الضخم القديم
والمتمثل بصورة الدكتاتور الفاسد. بل لم تقو هذه الديمقراطية حتى على
إسقاط فكرة الاستهانة بالسياسي الطيب والانتقاص من قدره في مقام
المفاضلة بينه وبين السياسي الخبيث، فمن كان ملتزما بالمبادئ الأخلاقية
الفاضلة المستندة إلى الحق والعدل والخير لم يحقق لنفسه النجاح المطلوب
كما هو الحال بالنسبة للسياسي الغادر والمنافق.
وقد يكون مرد ذلك فضلا عن
سيادة الميكافيلية الفكرية إلى السيرة العملية لمنظومة الأحزاب
العراقية العريقة منها والناشئة حديثا والحافلة بالألاعيب والتقلبات في
المواقف وسوء استخدام الدين من قبل بعض السياسيين حتى العلمانيين وسرقة
أو توظيف المال العام لإغراض ذاتية وما أشيع من محاولات تزوير
الانتخابات وكتابة القانون الانتخابي بعقول سياسية أكثر منها قانونية
وبروز ظاهرة المساومات السياسية التي تغلب المصلحة الضيقة على المصلحة
العامة, كلها أسباب أدت إلى بقاء نظرة نيقولا ميكافيلي المتدنية للوسط
السياسي ماثلة للعيان وعصية على التفنيد في بلد مثل العراق.
بعد هذه المقدمة لابد من
تذكر أن الحكم وظيفة لا سبيل لإلغائها من عالم الكائنات البشرية وإذا
كان الحكم بالطريقة الميكافيلية الرخيصة قد انتشر على مدى حقب زمنية
طويلة في قارة مثل أوربا فان الحقيقة الأكثر سطوعا تتجلى في كون
الديمقراطية الأوربية قد تمكنت من الإطاحة بالكثير من التعاليم التي
ارتكز عليها جوهر الدعوة الميكافيلية بل إن ثمة اشتراطات أخلاقية يطلب
المجتمع الغربي توفرها حاليا في شخصية السياسي لم يكن يطلبها في عهود
سابقة إلا من المشتغلين في السلك الديني أو ممن ينتمون إلى مجتمع
النبلاء، وإذا كان من الصحيح انتفاء مشاعر الخوف تجاه السياسي الغربي
في قلوب مواطنيه فانه ليس من الصحيح إنكار وجود نظرة احترام للسياسي
الملتزم بأخلاق فاضلة بدليل صعود أحزاب دينية أو ذات توجهات أخلاقية
تقليدية إلى الواجهة السياسية في دول غربية شتى وتحول العديد من الساسة
المتدينين إلى نجوم ونماذج اجتماعية يسعى الكثيرون إلى الاقتداء بها
واحتذاء خطواتها حتى في إطار العلاقة مع الأسرة والكنيسة إلى الحد الذي
كادت أن تتحول فيه مقولة فصل الدين عن السياسة إلى مجرد مبدأ نظري أكثر
منه مبدأ قابل للتطبيق المعاصر في العديد من بلدان العالم المصدر لهذه
المقولة المجوفة وفضلا عن تأثير تطبيق نظرية ميكافيلي في السياسة على
الأرض العراقية فان من العوامل الرئيسة التي صبت في تجذير مفهوم
الانحطاط في شخصية السياسي اجتماعيا ما يرتكز على اجتهادات فقهية تمنع
على المتدين ولوج ساحة السياسة بدعوى كون هذه الاخيرة مرتعا للخطيئة
ومدعاة لارتكاب الفجور والاثام وقد تراوحت فتاوى الفقهاء على هذا
الصعيد بين الحرمة المطلقة الى الكراهة المشددة والمخففة الا ان الواقع
العملي لم يؤكد تطبيق تلك الفتاوى بشكل واسع على الارض الا في فترة
قصيرة ومن قبل المقلدين البعيدين عن الدوائر المقربة لمصدري تلك
الاحكام الا ان الاثر الذي احدثته وتحدثه تلك الفتاوى مايزال يلقى
استجابة في نفوس الكثيرين ممن ينطبق عليهم وصف المقلد المتزمت وبعيدا
عن الدائرة القريبة من المراجع ايضا لعب المثقف العراقي دورا مهما في
تشويه صورة رجل السياسة امام الرأي العام على خلفية تهميش هذا السياسي
للمثقف وعدم ايلائه قسطا من التبجيل والاحترام إلا وفقا لشروط واملاءات
لا يخضع لها عادة القسم الأكبر من مجتمع المثقفين الحقيقي وعلى هذا
الأساس فقد دأب المثقفون على إشاعة نمط من التفكير في أوساط الشعب يؤمن
بان السياسي في المعارضة وفي فترة الانتخابات ليس هو السياسي عند
الاستيلاء على السلطة وان العنف السياسي بين السياسيين المتآلفين
ظاهريا قد يثور في أية لحظة محولا الاختلاف في المصالح إلى مصادمات
مسلحة يذهب ضحيتها الأبرياء ويطيح بأي ميثاق شرف يمكن أن تتفق على
مبادئه أي جماعة سياسية، إذ أن الساسة من وجهة نظر غالبية المثقفين
ليسوا بأكثر من انتهازيين كما أنهم ليسوا بحاجة إلى أصدقاء بقدر ما
يحتاجون إلى خدم وحشم ومن اجل تصحيح زوايا النظر لمجتمع السياسيين من
قبل الرأي العام لابد من توفر جملة من الشروط والاعتبارات يقع حمل
النهوض بها على كاهل كل من السياسي والمثقف وقد يكون من بينها الأتي:
- سن قانون للأحزاب
العراقية يُراعى فيه وجوب كتابة أنظمة الأحزاب الداخلية وفقا لأسس
الديمقراطية التي تراعي بدورها وضوح التمويل وانتفاء ظاهرة التأبيد او
الاحتكار بالنسبة للقادة والمؤسسين او من يدور في افلاكهم.
- احترام آليات العمل
استنادا للدستور ووجوب إعادة كتابة البنود المختلف عليها بما يجعل من
الدستور محل إجماع بين الاكثرية.
- تفعيل أجهزة الرقابة
البرلمانية وقطع السبيل أمام المفسدين لولوج المناصب العامة ومحاسبة
الأحزاب والكتل السياسية التي تقدم مرشحا لإشغال وظيفة عامة يتبين
لاحقا عدم أهليته الأخلاقية.
- وجوب التدقيق من قبل
الهيئة الانتخابية لسير المرشحين الأخلاقية وعدم الاقدام على ترشيح شخص
ثبت تعاطيه لأساليب الغش والكذب طريقا لترشيح نفسه في الدورات
الانتخابية السابقة وياحبذا اناطة مهمة من هذا النوع بمنظمات المجتمع
المدني الفاعلة.
- ضرورة التواصل بين
مجتمع الساسة والمثقفين بما يكفل احترام كل طرف لخصوصيات وتوجهات الطرف
الأخر والترفع عن أساليب المناكفة أو التخادم المتبادل والذي يلحق ضررا
بليغا بكلا الطرفين.
- العمل على اشاعة مفهوم
حكومة الخدمات على صعيد الفعل السياسي وكذلك اللغة السائدة في أوساط
المثقفين ووسائل الإعلام المتنوعة.
*مركز المستقبل للدراسات
والبحوث
المصدر:mcsr.net
|