محنة الإسلام مع التكفيريين

 

عبدالله السعدون

 

 

أعجب لأمر بعض التكفيريين ممن يكفّرون ضمناً وعلناً سائر ما عداهم من غير فرقتهم «الناجية»، ومثار عجبي هنا يكبر أكثر فأكثر لأني على يقين بأنهم لا يفقهون دينهم، ولا عمق مسار ومسيرة نبيهم الكريم، أو نصوص قرآنهم المجيد، إذ تراهم يخالفون تعاليمها ليل نهار وعلى قاعدة ادعاء تطبيق معبدالله السعدون .

ضمونها وما تفرضه من أحكام وواجبات وحدود وبعض جهابذتهم، والعياذ بالله، يكفرون حتى إخوانهم في المذاهب الأربعة، إلى جانب تكفيرهم إخوانهم في المذاهب الإسلامية الأخرى، وفي الطليعة منها الشيعة الإثنا عشرية. وهذا التكفير، عدا أنه حرام شرعاً، فلا يجوز لأحد من المسلمين أن يكون ديّاناً على الآخرين، لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يفصل في الأمور يوم الحساب، وهو وحده أعلم بما في قلوب الجميع ثم إن الإسلام لا سلطة فيه لرجل دين، أو «لبابا مسلم»، أو «لكنيسة إسلامية» مثلاً. فحرية العقيدة والعبادة مكفولة للجميع، ولم يعرف ديننا الحنيف مفهوم الدولة الدينية، أو «الثيوقراطية» التي عرفتها أوروبا في العصور الوسطى، وكانت سبباً في تحولها إلى النقيض، أي الدولة العلمانية والإسلام أيضاً حافظ على الوحدة بين المسلمين، وبين إخوانهم، من غير المسلمين، من يهود ونصارى، يعيشون بين ظهرانيهم. فتعاليمه وأوامر نبيه (ص) حفظت الديانات والمعتقدات الأخرى في الديار الإسلامية، وضمنت لها البقاء.. فما بال هؤلاء، عضاريط آخر هذا الزمن، يصدرون فتاوى وأحكاما ذات اليمين وذات الشمال، لا يردعهم رادع، ولا يهزمهم ضمير، أو عقل معرفي، ويريدون الإطاحة بدين الإسلام وتاريخ الإسلام وثقافة الإسلام، وكل ذلك باسم الإسلام.سمعت من إذاعة «دينية» مؤخراً حديثاً لواحد من هؤلاء التكفيريين، يصبّ جام جهله وبهتانه على «أهل الذمة»، مبرزاً أولاً جهله بالمصطلح نفسه، قبل أن يسرد سمومه وقيئه الفاجر الخبيث ضد إخوان له في المواطنة، عاشوا بيننا في ديار المسلمين أربعة عشر قرناً من الزمان محترمين، آمنين على مواطنيهم ودينهم وعرضهم ودمهم وممتلكاتهم.. ليس منّة وإنما تطبيقاً لتعاليم الله ولسنّة رسوله وكتابه الكريم الذي يجهله تماما هذا التكفيري الذي باع نفسه جندياً مخلصاً للجهل والضحالة والفتنة والتخريب.. ألا يدري هذا الذي يسمي نفسه مسلماً حريصاً على الدين الحنيف، وعلى ما جاء في القرآن الكريم، بأن للنصارى أو المسيحيين الذين يعيشون بيننا إخوة في كل شيء، مطلق الحرية في تطبيق مبادئ دينهم، عملاً بقوله تعالى في سورة المائدة: «وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه»- صدق الله العظيم ولهذا التكفيري الذي قرر الاعتداء على سيرة النبي محمد (ص) في تعامله الانفتاحي الإنساني الرائع مع النصارى في أيامه، ومع الراهب بحيرة منهم بشكل خاص، نقول له إن «الذمة» كلمة معناها العهد والضمان والأمان، وهي ليست كلمة تحقيرية، كما كنت تلهج بها من المذياع منظّراً ومحللاً. وقد سمي النصارى الذين يعيشون في الدولة الإسلامية بأهل الذمة، لأن لهم عهد الله، وعهد رسوله، وعهد جماعة المسلمين، بأن يعيشوا في حماية الإسلام وفي كنف المجتمع الإسلامي، آمنين مطمئنين، فهم في أمان المسلمين وضمانهم بناء على عقد الذمة وهذه الذمة، بحسب البعض من المسلمين الثقات، تعطي أهلها من غير المسلمين، ما يشبه في عصرنا، الجنسية السياسية التي تعطيها الدولة لرعاياها، فيكتسبون بذلك حقوق المواطنة، ويلتزمون بواجباتها، وتصبح القاعدة في التعامل معهم بأن «لهم مالنا وعليهم ما علينا»، فهم آمنون على دمائهم وأموالهم وأعراضهم وشعائرهم ومعابدهم بمثل ما يأمن المسلمون.

ولهذا التكفيري، الذي يعي، أو لا يعي، أنه في خندق أعداء الأمة، هو لاعب ماهر في الدعوة إلى تمزيقها وتفكيكها وتقسيمها، أن اتق الله يا هذا في وطنك ومجتمعك العربي والإسلامي التعددي العام.. اتق الله في دينك وقرآنك ونبيك، وكفّ عن أن تكون أداة طيعة بيد الصهاينة.. نعم الصهاينة الذين يخوضون اليوم هجمة شرسة على مجتمعاتنا وثقافتنا وتراثنا وتاريخنا وتصويرنا كمسلمين، بأننا أناس إرهابيون متعصبون كارهون للآخر، أي عكس صورة ما بأنفسهم على الآخرين.. إنهم يحاربوننا بكل أشكال وأدوات الحرب.. وأفتك وأمضى سلاح يستخدمونه هنا، هو سلاح الفتنة والتفجير من الداخل، فهو الذي يقود إلى الفوضى، والفوضى تقود إلى إلغاء الآخر، والإلغاء يقود إلى شطب الوطن فما معنى يا سيدي أن المسيحيين العرب عاشوا بين ظهرانينا كلحمة واحدة منذ قرون طويلة، ولم يعرفوا التهجير والخوف على مصيرهم إلا في العصر الإسرائيلي الغربي الحديث هذا؟ لماذا هجر المسيحيون من العراق ومن فلسطين في زمن الحداثة الاحتلالية الأميركية والإسرائيلية؟ لماذا برزت الفتن والحساسيات الطائفية والمذهبية، وحتى القبلية، على هذا النحو الملهب والعريض في زمن التكفيرية الجديدة، تلك المتحالفة موضوعيا أو بالشبهة المتقصدة، مع نهج وأهداف الذين تدعي بأنهم من أعتى أعدائها؟

وكل ذلك بحسب رأي الكاتب نصاً ودون تعليق.

المصدر: أوان الكويتية - 24-5-2009