أميركا
وروسيا... والصفقة الكبرى!
ديفيد
كرامر
لابد أن المسؤولين الروس
مرتاحون لما يرونه من إدارة أوباما، ويرحبون بالتغييرات التي يبدو أنها
وجدت طريقها أخيراً إلى البيت الأبيض، وذلك بعد تبادل التعليقات
والرسائل بين أوباما ونظيره الروسي ميدفيديف، بالإضافة إلى التصريحات
الإيجابية لنائب الرئيس "جو بايدن" في الشهر الماضي خلال مشاركته في
المؤتمر الأمني ميونيخ عندما دعا إلى تصحيح العلاقة مع روسيا. ولكن في
الوقت الذي لا يمكن فيه إنكار ضرورة تطوير العلاقات بين الولايات
المتحدة وروسيا، وأهمية تنقيتها من الشوائب التي عكرت صوفها في الآونة
الأخيرة، إلا أنه يتعين على إدارة أوباما توضيح الصورة العامة ولجم أي
نزوع لعقد "صفقة كبرى"، دون قيد أو شرط، كما يتردد الآن في بعض الأوساط
الأميركية والأوروبية.
هذه الصفقة التي تبدو
بسيطة ومتاحة، إذ في مقابل التعاون الروسي لاحتواء الخطر النووي
الإيراني وباقي القضايا الاستراتجية المهمة بالنسبة لواشنطن، ستقوم
الولايات المتحدة بخفض مستوى علاقاتها مع الدول المجاورة لروسيا وتعليق
خططها لنشر الدرع الصاروخية في أوروبا الشرقية، فضلًا عن التزام الصمت
إزاء الوضع المتدهور لحقوق الإنسان في روسيا. والحقيقة أن وقوف أميركا
صامتة وبقاءها متفرجة على انتهاكات حقوق الإنسان في روسيا أمر لم يكن
ليدور في خلد المسؤولين الروس لو لم يسمعوا التصريحات الأخيرة لوزيرة
الخارجية، هيلاري كلينتون، أثناء زيارتها الأخيرة إلى الصين في الشهر
الماضي، والتي ألمحت فيها إلى أن قضايا حقوق الإنسان لن تقف حجر عثرة
أمام العلاقات الثنائية بين واشنطن وبكين، وهو ما حدا بالروس إلى توقع
معاملة مشابهة تضحي فيها أميركا بحقوق الإنسان من أجل المصالح
ولكن في ظل هذا الحديث عن مقايضات محتملة بين روسيا وأميركا
تبرز مجموعة من الأسئلة التي تبحث عن إجابات واضحة مثل: ما هو الثمن
الذي يتعين على واشنطن دفعه لتأمين التعاون الروسي حول القضايا
الاستراتيجية المهمة لأميركا؟ ومن سيقوم بإخبار دول مثل أوكرانيا
وجورجيا بأننا أدرنا لها ظهورنا بعدما اعتنقنا مذهباً جديداً يقوم على
مقولة "روسيا أولًا"؟ ومن يضمن أن التزام الصمت حيال الوضع الحقوقي في
روسيا ذاتها وملاحقتها للمعارضين سيبقيها في صف أميركا؟ ثم ماذا لو لم
يكن كل ذلك كافياً بالنسبة لموسكو؟ إذ ليس مستبعداً أبداً أن تواصل
روسيا رفع الفاتورة مقابل تعاونها ليتحول الأمر في النهاية إلى ابتزاز
مكشوف للولايات المتحدة؟ ولفهم العلاقات بين البلدين تتعين الإشارة إلى
أن سياسة بوش إزاء روسيا طيلة السنوات الماضية تمحورت حول جهود التعاون
والتنسيق المشترك معها، كلما كان ذلك ممكناً، لكن أيضاً الحفاظ على
مسافة معقولة إزاء سياساتها كلما تطلب الأمر ذلك، لاسيما بعد غزوها
لجورجيا. ومع أنه لا يمكن الجزم بأن سياسات إدارة بوش تجاه روسيا كانت
مثالية على مدى السنوات الثماني الماضية، إلا أن المشكلة الرئيسة تكمن
لدى الروس أنفسهم، وما لم تحل القضايا العالقة فإنه من غير المرجح تحسن
العلاقات بين البلدين. فقد باتت نظرة موسكو إلى جوارها، قائمة على رؤية
تعود بها إلى أيام الحرب البادرة بسعيها إلى إقامة مناطق للنفوذ بالقرب
من حدودها بصرف النظر عن السياسات الداخلية للدول المجاورة وميلها نحو
الغرب.أي تغيير جوهري في الموقف الأميركي من نشر الدرع الصاروخية دون
تراجع إيران سيُقرأ على أنه ضعف أميركي وسيوصل رسائل مقلقة
وتعتبر موسكو في هذا الإطار أن علاقات أوكرانيا وجورجيا مع حلف
شمال الأطلسي والتعاون المتنامي مع الغرب يهدد الأمن الوطني الروسي،
على رغم أن توسع "الناتو" شرقاً أثبت طيلة السنوات التي أعقبت انهيار
الاتحاد السوفييتي أنه مصدر للسلام ولاستتباب الأمن في أوروبا الشرقية
بعد حالة الفوضى التي كانت متفشية خلال السنوات الأولى لسقوط الشيوعية.
وتتوجس روسيا أيضاً من خطوط أنابيب نقل النفط والغاز المتعددة القادمة
من آسيا الوسطى مروراً بالقوقاز باعتبارها خطراً على احتكارها لممرات
الطاقة إلى أوروبا وهيمنتها على خطوط النقل التي توصل الوقود إلى دول
أوروبا الغربية، وهي لهذا دعمت الحركات الانفصالية في جورجيا
ومولدافيا، بل وتسعى إلى إقامة قواعد عسكرية في المناطق الانفصالية
بأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية اللتين اعترفت باستقلالهما، ناهيك عن الدور
البارز الذي لعبته روسيا في اتخاذ قرغيزستان لقرارها بإغلاق إحدى
القواعد الجوية الأميركية المهمة في آسيا الوسطى، مما يثير العديد من
الأسئلة بشأن التعاون الروسي حول أفغانستان ومدى جدية موسكو في التنسيق
الأمني مع الولايات المتحدة. وأمام هذه النظرة المتشابكة التي تتبناها
روسيا إزاء الجوار، وتعاملها الملتبس مع الغرب، لابد من حدوث تغيير
جوهري في تصورها أولاً لينعكس ذلك لاحقاً على علاقاتها مع أميركا
لكن الرئيس ميدفيديف لم ينتظر طويلاً ليهدد مباشرة بعد فوز
أوباما في الانتخابات الرئاسية بنشر صواريخ قصيرة المدى بالقرب من
بولندا إذا استمرت الولايات المتحدة في خطة الدرع الصاروخية التي كان
الغرض منها التصدي للخطر النووي الإيراني. ويبدو أن روسيا لا تستطيع
قبول بولندا وجمهورية التشيك مستقلتين، وأقل من ذلك انضمامهما إلى حلف
شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي وتعاونهما مع الولايات المتحدة لنشر
نظام للصواريخ موجه بالأساس لردع الخطر الإيراني
ومع أنه ليس في مصلحة أميركا وروسيا أن تتحول إيران إلى دولة
نووية، وعلى رغم موافقة موسكو على فرض عقوبات مخففة على طهران، إلا
أنها باعت إيران أنظمة متطورة للصواريخ، بالإضافة إلى تهديدها بتزويد
الملالي بأسلحة متقدمة أخرى. غير أن الصعوبات الاقتصادية التي تعرفها
روسيا حالياً، بالإضافة إلى الاضطرابات الداخلية، تدفع الكرملين إلى
مزيد من التشدد كما بدا ذلك في شهر ديسمبر الماضي عندما أرسل الكرملين
قوات خاصة لقمع المظاهرات التي شهدتها "فلاديفوستوك"، فضلاً عن مواصلة
استهداف الصحفيين ونشطاء حقوق الإنسان بالقتل دون حسيب، أو رقيب ووسط
شعور متزايد بالخوف وأخيراً، علينا أن ندرك
جيداً أن أي "صفقة كبرى" بين الولايات المتحدة وروسيا ستنظر إليها
موسكو على أنها نوع من الاستسلام وفقدان الأمل، كما أن أي تغيير جوهري
في الموقف الأميركي من نشر الدرع الصاروخية دون تراجع إيران سيُقرأ على
أنه ضعف أميركي وسيوصل رسائل مقلقة إلى حلفائنا في وارسو وبراغ.
*
مساعد وزير الخارجية
السابق في إدارة بوش لقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان
وكل ذلك حسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصاً ودون تعليق .
المصدر: الإتحاد
الإماراتية - ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"
|