مؤسسة جديدة لتفعيل الدبلوماسية العامة (2 -2)

 

محمد عبد الله يونس

 

 

لم يعد تفعيل الدبلوماسية العامة الأمريكية، يرتبط فحسب بزيادة المخصصات المالية الخاصة بها، أو إعادة تأهيل القائمين على تنفيذها بالنظر إلى عدة اعتبارات أهمها: حاجة الإدارة الأمريكية الجديدة للاستعانة بعدة وسائل بصورة متزامنة؛ للتغلب على أوجه القصور الهيكلية، التي أدت لإعاقة تحقيق الدبلوماسية العامة لأهدافها في عهد إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش، بحيث يتحقق التواصل مع شعوب الدول المختلفة على أساس فهم أكثر واقعية للقيم المجتمعية السائدة في كل منها، والمصالح المشتركة التي يمكن الإفادة منها ومن هذا المنطلق طرحت الدراسة اقتراحًا بتدشين منظمة مستقلة غير هادفة للربح؛ للقيام بتنفيذ مهام الدبلوماسية العامة الأمريكية؛ لتفادي تضارب الجهود بين الجهات المختلفة المسئولة عن تنفيذها من جانب، ولتعزيز الارتباط والتواصل مع المنظمات غير الحكومية التي تتمتع بقدر كبير من المصداقية على المستوى الشعبي مقارنة بالجهات الرسمية الحكومية من جانب آخر.

أهداف تدشين مؤسسة مستقلة للدبلوماسية العامة الأمريكية

يمكن اعتبار تلك المنظمة التي أطلقت عليها الدراسة مسمى " منظمة الثقة بين الولايات المتحدة والعالم " The USA -World Trust مرتكزًا لكافة الجهود ،والمبادرات المتعلقة بالدبلوماسية العامة، بحيث تتخطى العوائق البيروقراطية، التي يتسم بها نشاط المؤسسات الحكومية فضلاً عن الارتقاء فوق الخلافات الحزبية السياسية التي تجعل استمرار البرامج والمشروعات مرتبطًا باستمرار حزب معين في السلطة على المستوى مؤسسة الرئاسة أو الكونجرس بمجلسيه وفي هذا الإطار يمكن القول: إن المؤسسة الجديدة سوف تسعى لتحقيق عدة أهداف محورية لتفعيل الدبلوماسية العامة الأمريكية من أهمها ما يلي:

أولاً: تقديم صورة أكثر دقة ومصداقية للولايات المتحدة والشعب الأمريكي والعمل على ترويجها على المستوى العالمي بالاستعانة بوسائط الاتصال التكنولوجي الحديثة وخاصةً وسائل الإعلام المختلفة وشبكة المعلومات الدولية.

ثانيًا: إقامة علاقات شراكة وثيقة مع منظمات غير حكومية، وبرامج محلية للتنمية في مختلف دول العالم على نهج مؤسسة آسيا للتنمية الدولية؛ لدعم القيم المشتركة بين الولايات المتحدة ودول العالم، لاسيما الدول النامية ودول العالم الإسلامي.

ثالثًا: جذب الأفراد المتميزين من المؤسسات الحكومية، والقوات المسلحة، والمنظمات غير الحكومية؛ للإسهام بخبراتهم في تفعيل الدبلوماسية العامة الأمريكية والاستعانة بخبراء ينتمون لحقول معرفية مختلفة للاضطلاع بمشروعات بحثية لتحقيق هذا الهدف.

رابعًا: تمكين المؤسسات المختلفة من التشارك في المعلومات والمعرفة وتداولها بصورة أكثر ديناميكية من خلال شبكات تعزز قدرتها على التواصل البيني وتقديم خلاصة هذه الجهود البحثية للإدارة الأمريكية والمؤسسات العسكرية للإفادة منها في التعرف على المجتمعات الأجنبية وثقافاتها ووسائل التواصل معها.

خامسًا: استخدام وسائل لقياس مدى تحقيق الدبلوماسية العامة لأهدافها وخاصةً ما يتعلق بتحسين صورة الولايات المتحدة على مستوى العالم مثل استطلاعات الرأي الدورية والمقابلات الإطارية وحلقات النقاش المعمقة focus groups والإفادة من النتائج في تطوير برامج جديدة للتواصل مع قادة الرأي العام في المجتمعات الأجنبية.

إحياء الدبلوماسية العامة الأمريكية من منظور مؤسسي وتقترح الدراسة أن يتم إسناد عدة أنشطة إلى تلك المنظمة؛ كي تقوم بقيادة سياسات تفعيل الدبلوماسية العامة الأمريكية يتم تحديدها في إطار استراتيجية سنوية يعكف على وضعها مجلس إدارة المنظمة ومن أهمها ابتداءً: الأنشطة البحثية والتحليلية وتقديم المنح الدراسية، والقروض الصغيرة والتواصل بين المؤسسات وأنشطة الإعلام والدعاية وبرامج الزمالة الأكاديمية، وذلك من خلال عدة برامج محورية تتمثل فيما يلي:

أولاً: برنامج أمريكا America Program: ويهدف إلى تمويل المبادرات الخاصة بتقديم صورة متوازنة، وإيجابية عن المجتمع الأمريكي على المستوى العالمي، من خلال عدة أنشطة محورية مثل إذاعة الأفلام الأمريكية في رحلات الطيران القادمة للولايات المتحدة، وإعداد برامج وثائقية حول قيم المجتمع الأمريكي، وترجمة الكتب التاريخية والثقافية والوثائق السياسية مثل وثيقة الحقوق الأساسية والدستور الأمريكي.

ثانيًا: برنامج الشراكة Partnership program: والذي يرعى تكوين علاقات وثيقة بين المؤسسة الجديدة، ومؤسسات أجنبية تقوم على القيم والمصالح المشتركة من خلال الشراكة في أنشطة من قبيل البث الإخباري المشترك بين شبكات تليفزيونية أمريكية ونظيرتها من دول أخرى، والإنتاج المشترك للأفلام والبرامج التليفزيونية والتمويل المشترك للأغراض الإنسانية، مثل دعم مشروعات محاربة الفقر والحد من انتشار مرض الإيدز في الدول النامية، والارتقاء بالمكانة الاجتماعية للمرأة.

ثالثًا: صندوق دعم القيم المشتركة Common Values Fund: والذي يقوم بتقديم الدعم لقادة الرأي العام في المجتمعات الأجنبية، الذين يسعون لنشر وترسيخ القيم المشتركة مع الولايات المتحدة، من خلال تقديم منح لصناع السينما والمخرجين والمفكرين والفنانين المهتمين بتصوير انتهاكات حقوق الإنسان، والأعمال الوحشية التي ترتكبها التنظيمات الإرهابية، بلغات محلية في الدول النامية، وتمويل نشر كتب حول إشكاليات المجتمعات المنغلقة على ذاتها والتي تتضمن ترويجًا لقيم تتوافق مع منظومة القيم الأمريكية.

رابعًا: برنامج المنح الصغيرة Micro-Grants Program: ويقوم على تقديم منح متناهية الصغر؛ لتمويل مبادرات من قبيل تعزيز التبادل الطلابي بين الجامعات الأمريكية ونظيرتها في مختلف أنحاء العالم وتنظيم المؤتمرات وورش العمل، والأبحاث المرتبطة برؤية شعوب دول العالم للدور الأمريكي، وتطلعاتهم لمجالات التعاون مع الولايات المتحدة.

خامسًا: صندوق تمويل المشروعات الصغيرة Venture Capital Fund: والذي يعني بدعم أنشطة المنظمات التنموية غير الحكومية المحلية، مثل تنظيم الدورات التدريبية حول آليات اقتصاد السوق، كيف يمكن للمشروعات الصغيرة الــرأسمالية الإفــادة منها ودعم اتحادات الأعمــال فــي الدول الناميــة؛ للارتقــاء بـأوضاعها اقتصاديًّا.

سادسًا: برنامج الإعلام والتكنولوجيا Media and Technology Program: ويهدف إلى تطوير أدوات ذات كفاءة عالية؛ للتواصل مع شعوب العالم بحيث تخترق عوائق اللغة واختلاف السياقات المجتمعية بالإفادة من تكنولوجيا المعلومات ووسائل الإعلام المختلفة لاسيما المحلية منها وبالإضافة إلى تلك البرامج والهياكل المؤسسية، تضطلع المؤسسة بعدة أنشطة بحثية تتمثل في أجراء استطلاعات الرأي العام على المستوى الدولي، ودراسات تقييم الأثر Impact Assessment Studies للتعرف على مدى فاعلية الدبلوماسية العامة الأمريكية في تغيير توجهات الرأي العام في دول العالم حيال الولايات المتحدة، فضلاً عن إعداد برامج تدريبية للدبلوماسيين، والمسئولين الأمريكيين حول كيفية التعامل مع خصوصية المجتمعات المحلية في كل دولة. فضلاً عن التنسيق بين المؤسسات الحكومية وغير الحكومية المعنية بتنفيذ أنشطة الدبلوماسية العامة، ودعم التقارب بين الخبراء والأكاديميين من جانب والدبلوماسيين والمسئولين الحكوميين من جانب آخر؛ للتشارك في الخبرات ومواجهة المشكلات الواقعية.

الاستقلال المؤسسي آلية لتدعيم التواصل البناء

تدار برامج تلك المؤسسة من خلال مجلس إدارة غير حزبي، يشمل أعضاءً في مجلسي الكونجرس من الحزبين الجمهوري، والديمقراطي وممثلين للمؤسسات الحكومية المعنية مثل وزارة الخارجية ووزارة الدفاع ووكالة الاستخبارات المركزية، فضلاً عن المؤسسات غير الحكومية الأمريكية، والجامعات ومؤسسات الفكر والرأي والإعلام والشركات دولية النشاط مثل شركة ميكروسوفت على سبيل المثال، ومن بين الممثلين يتم انتخاب رئيس لمجلس الإدارة بحيث يكون على دراية بالسياسة الخارجية الأمريكية والدبلوماسية العامة بالإضافة إلى مهارات التواصل والتشبيك مع الجهات المختلفة وتؤكد الدراسة على ضرورة اتسام عمل تلك المؤسسة بالاستقلالية عن الجهات الحكومية على المستوى التنظيمي، بهدف جعلها وسيطًا للاتصال بين المؤسسات الحكومية الأمريكية وبعض الجهات التي لا تحبذ التعامل معها مباشرةً، مثل كوادر الجماعات الإرهابية السابقين، والرأي العام في بعض الدول المناوئة للولايات المتحدة، مثل سوريا وإيران وللتغلب على العقبات البيروقراطية التي تعرقل ديناميكية أنشطة الدبلوماسية العامة، وتعظيم فرص الحصول على التمويل من مصادر متعددة تشمل الوكالات الحكومية، والمنظمات غير الحكومية ذات النشاط التنموي والأفراد والتبرعات الخيرية دون فرض قيود قانونية على حجم التمويل، أو مصادره، أو أوجه إنفاقه، ناهيك عن تــعزيز الشـراكة مع الشركات دولية النشاط، التي لا تفضل الارتباط بمؤسسات حكومية لدولة بعينها.

الرقابة المؤسسية وأولوية المصلحة القومية الأمريكية

وفي السياق ذاته؛ فإن استقلالية المؤسسة المسئولة عن تفعيل الدبلوماسية العامة الأمريكية سوف تعزز من ترويج القيم الخاصة بالمجتمع الأمريكي لاسيما التعددية والاحتمالات الواردة للخلاف حول السياسات الحكومية، كما تجعلها في الوقت ذاته جهة محايدة يمكن الاحتكام إليها من جانب المؤسسات الحكومية للحصول على التحليلات والرؤى المتعمقة والمتخصصة حول المجتمعات الأجنبية وثقافتها.بيدَ أن الاستقلالية لن تكون مطلقة بالنظر إلى ضرورة ضمان توجيه أنشطة هذه المؤسسة؛ لتحقيق المصلحة القومية الأمريكية بصورة دائمة، بما يعني ضمنًا خضوعها لرقابة الكونجرس والرأي العام الأمريكي، ولضمان تحقق ذلك الغرض يقوم الكونجرس باعتماد مخصصات مالية سنوية لأنشطة المنظمة تقدر بحوالي 50 مليون دولار مع السماح للمؤسسة للتعاقد مع الجهات الحكومية لعقد الدورات التدريبية وإعداد المشروعات البحثية بمقابل مادي ومن ثم يضمن التمويل الحكومي ممارسة الرقابة على أنشطة المؤسسة ومدى تحقيقها لمقتضيات المصلحة القومية الأمريكية من جانب ومواجهة تداعيات عدم استقرار التمويل الخاص من جانب آخر.

وكل ذلك حسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصاً ودون تعليق .

المصدر: taqrir.org