الرئيس الفرنسي يعيد إحياء الطموحات الفرنسية في الخليج مع حلفاء قدامى وجدد

 

كريستوفر ديكي - تريسي ماكنيكول

 

 

ساركــوزي الـعـــرب

نادرا ما أفصحت الضرائب العقارية عن مضمون السياسة الواقعية كما أفصح عنه قانون أصدره البرلمان الفرنسي هذه السنة تمنح بموجبه إعفاءات ضريبية على القصور الفخمة التي اشتراها الأمراء والمبعوثون القطريون في وسط باريس. ولكي لا تفوت المشرعين الحجج القائمة وراء هذه الصفقة، أضيف إلى مشروع القانون ملحق استفاض في وصف العلاقات "الوطيدة" و"المميزة" التي تجمع فرنسا وقطر والنابعة من "رغبة القطريين في توسيع تحالفاتهم وشراكاتهم لكي لا يعتمدوا على الولايات المتحدة اعتمادا حصريا".

تؤدي هذه العبارات صدى غريبا لأن الرئيس الفرنسي نيكولا سركوزي يعرّف نفسه بأنه صديق أميركا الحميم في أوروبا. أما هذا النوع من التودد للدول العربية الخليجية الغنية بالنفط فكان من اختصاص سلفه جاك شيراك الذي عرض على الملوك والأمراء، من باب تصميمه على التصدي لـ"القوة الأمريكية العظمى"، تحالفا بديلا مع فرنسا يخولهم اعتبارها راعيا من رعاتهم في إطار ما يمكن تسميته التحالف غير الأمريكي. وهذا ما يفعله ساركوزي الآن إذ ثمة نكهة شيراكية مماثلة في طموحاته التجارية المرتبطة بمبادرات فرنسا إزاء الخليج فهو يأمل أن يبيع طائرات "إيرباص" ومقاتلات والمفاعلات النووية إلى بعض الدول القليلة التي مازالت قادرة على دفع ثمنها لكـن ثـمة فرقا واحدا على الأقـل بين ساركوزي وشيـراك، ففـي حين أن موقـف شيراك من اجتيـاح العـراق بقيـادة الولايـات المتحـدة أدى إلى مواجهـة دبلوماسيـة، فـإن سياســة سـاركوزي تهدف إلى إكمـال السياسـة الأمريكية في المنطقـة لاسيمـا وأن هـذه الأخـيرة تبـدو متوقفـة الآن. فقد تعـاون ساركـوزي مع الولايات المتحدة تعاونا وثيقـا لعـزل إيـران بسبـب برنامجهـا النـووي بينما تصدّر الجهود الداعية إلى تحسين العلاقـات مـع الرئيـس السـوري بشار الأسد الذي أبـدى استعـدادا للخروج مـن عزلتـه السياسيـة. وقام كذلك بتوحيد الجهود مع الرئيس المصري حسني مبارك في محاولة للتوصل إلى وقف إطلاق نار في غزة في شهر يناير. كما ستفتتح قاعــدة عسكريـة فرنسيـة جديـدة فــي أبـو ظبـي في بدايـة الشهـر المقبـل، والتـي قـد تسهـل توسيـع عمليات حلـف شمـال الأطلسـي فــي أفغانستــان لكن المصالح الاقتصادية نادرا ما تغيب عن أجندة ساركوزي. ففي شهر فبراير أصبح ساركوزي أول رئيس فرنسي يزور بغداد. ومع تحسن الوضع الأمني هناك حلت الدعوات إلى "عقد صفقات" محل تلك الصرخات الداعية إلى "وقف الحرب". ويسعى الفرنسيون، من بين ما يسعون إليه، إلى نيل مشروع إعادة إعمار مطار بغداد، الذي تبلغ قيمته مليارات الدولارات ولا يسع واشنطن الاعتراض على هذه المبادرات الفرنسية، إذ أدركت خلال السنوات الأخيرة من ولاية الرئيس بوش أن عليها أن تتعاون مع حلفائها وألاّ تكتفي بفرض شروطها عليهم ويعرف أعضاء إدارة أوباما المخضرمون في السياسة الخارجية، وهم ليسوا بالقلائل، أن ثمن هذا التعاون الاستراتيجي يشمل أيضا شيئا من التنافس على التجارة والنفوذ لكن بشرط أن يسير الجميع بالاتجاه نفسه. ويبدو أن هذا ما يحصل الآن إذ بدأت تظهر معالم تقسيم تكافلي للعمل ترسم فيه الولايات المتحدة خارطة الطريق وتقوم فرنسا بالمهمات الاستطلاعية عليها وأحد أسباب هذه الدينامية المتغيرة أن الولايات المتحدة تتمتع منذ زمن طويل بعلاقة منيعة مع آل سعود وهم أغنى وأقوى عائلة مالكة في الخليج في حين تجمع روابط وطيدة فرنسا بالعائلة المالكة في قطر وقد توطدت هذه الأواصر بعد تبوؤ الأمير حمد بن خليفة آل ثاني سدة الحكم إثر الانقلاب السلمي الذي أطاح بأبيه عام 1995. وباتت هذه شبه الجزيرة، التي لا يفوق عدد سكانها مليون نسمة، تتمتع منذ ذلك الوقت وبفضل ثروتها الغازية الهائلة بأعلى مدخول للفرد في العالم وشرعت تنفق بإفراط إذ اشترت 80 بالمائة من معداتها العسكرية من فرنسا التي تساهم أيضا في تدريب قواتها الأمنية (وهذا هو نوع العلاقات الذي يدوم في هذه المنطقة من العالم). من جهة أخرى، يفترض أن تفتح فرنسا في الدوحة فرعا من مدرستها الحربية الشهيرة "سان سير" فضلا عن مدرسة فرنسية جديدة ستحمل اسم الفيلسوف الفرنسي فولتير الذي لا تبدو أفكاره حول الإصلاح الاجتماعي والجنس متناغمة مع الثقافة الوهابية المحلية.

وقد درت هذه العلاقات منافع كثيرة إذ تمكن ساركوزي بفضل تعاونه الوثيق مع القطريين من تحقيق أول انتصاراته الدبلوماسية بعد مرور بضعة أسابيع فقط على انتخابه ألا وهو إطلاق سراح الممرضات البلغاريات اللواتي اعتقلهن الزعيم الليبي معمر القذافي في السجن خلال سنوات طويلة بتهمة نشر مرض الإيدز الملفقة وكان معمر القذافي يطالب بمبلغ 460 مليون دولار لقاء إطلاق سراحهن لكن فرنسا والاتحاد الأوروبي رفضا تلبية طلبه الذي بدا أشبه بالابتزاز. غير أن لا أحد في الشرق الأوسط يضاهي القطريين براعة في مجال تأدية الخدمات السرية فدفعت قطر المبلغ، خادمة مصالحها، وأطلق سراح الممرضات (وهكذا جاء في التبرير الرسمي للقانون الضريبي الفرنسي الذي صدر أخيرا أن قطر "اضطلعت في هذه القضية بدور سري لكن حتما حاسم") ثم عندما فشل الأمريكيون والسعوديون في إرساء الاستقرار في لبنان بعد أزمة سياسية دامت أشهرا عدة، تدخل الفرنسيون والقطريون وتمكنوا من إيجاد حل لها. وهذا ما ذكر به ساركوزي خلال الجولة التي قام بها في الخليج الشهر الماضي قائلا: "لم يكن (للبنان) رئيس ولا حكومة ولا برلمان، لم يكن (في لبنان) إلا القنابل لكننا وجدنا المفتاح الذي يفتح باب الحل". ويبدو أن هذا الحل كان في العاصمة القطرية الدوحة التي استضافت الاجتماع الذي توصل خلاله الفرقاء اللبنانيون إلى اتفاق لكن هذه العلاقة بين الفرنسيين والقطريين بدأت تتزعزع إذ يخشى بعض مستشاري ساركوزي أن تكون قطر قد انجرفت إلى المعسكر الإيراني. فهي أخذت على عاتقها، بعد الحرب بين لبنان وإسرائيل عام 2006، معظم عمليات إعادة الإعمار في جنوب لبنان التي عاد فضلها في النهاية إلى مليشيا حزب الله المدعومة من إيران. كما استضافت قطر خلال الاجتياح الإسرائيلي لقطاع غزة في شهر يناير مؤتمرا لأكثر خصوم إسرائيل ــ والسلطة الفلسطينية ــ تشددا بمن فيهم حركة حماس والرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد ويفيد أحد مستشاري ساركوزي، الذي طلب عدم الإفصاح عن اسمه، أن القطريين يخشون أكثر ما يخشون، مع تفاقم التوتر حول برنامج إيران النووي وإمكانية الرد الإيراني على الحلفاء الغربيين، أن تضعهم طهران على رأس الدول المستهدفة مما قد يدفعهم حدسهم إلى اعتماد المسايرة بدل المقاومة. لذا يقوم مستشارو ساركوزي بحثه على بذل جهد أكبر في سبيل توسيع علاقته في الخليج فلم يتوقف، خلال الجـولة التي قـام بها في المنطقـة في شـهر فـبراير، في قطر والسعودية، اللتين زارهما العام الماضي على كل حال، بل ركز على الكويت وعمان وأبوظبي. وقال للصحافيين بوقاحته المعهودة: "تتمتع هذه الدول الثلاث بثقافة بريطانية قديمة وبنفوذ أمريكي كبير ولم تستثمر فرنسا فيها سياسيا أو اقتصاديا منذ زمن بعيد لكننا نزرع البذور الآن وسنكافح للدفاع عن شركاتنا وتحصيل العقود التجارية" في الواقع، لم يحرص ساركوزي ولا وزير خارجيته برنارد كوشنير على شرح الرؤية الاستراتيجية التي تقود نشاطهما في المنطقة لكن ثمة أدلة لفهم هذه الرؤية، إن وجدت، في كتاب عنوانه Beyond Terror and Martyrdom (ما بعد الإرهاب والشهادة) أصدره أخيرا المفكر جيل كيبيل الذي رافق ساركوزي في إحدى زياراته إلى الخليج ويرى أن ساركوزي لا يجب أن يكتفي بمبادرات السلام الدبلوماسية العابرة وصفقات بيع السلاح المربحة وفتح المدارس بل يعتبر أنه لا يمكن تحقيق الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط الكبير إلا عبر التكامل الاقتصادي الشامل بين أوروبا (التي تتمتع بالخبرة والدراية الدبلوماسية) ودول الخليج (التي تحوي آخر المخزونات المالية الكبيرة في العالم) والبلدان الواقعة على الضفتين الجنوبية والشرقية للبحر الأبيض المتوسط (لها انتشار سكاني).

لا شك في أن هذه الخطة عظيمة وقد تصبح المقاربة التي يقترحها كيبيل قوة محركة في السياسة الفرنسية. لكن هذا النوع من الرؤى المشرقة قد يتصادم مع كم هائل من التفاصيل التافهة كالمشكلة القائمة، على سبيل المثال، حول القصر الفخم المعروف باسم "فندق لامبير" والواقع على طرف جزيرة سان لوي في قلب باريس. يمكن اعتبار هذا القصر من أهم المعالم التاريخية في المدينة حيث عاش فيه فولتير نفسه وكتب عنه أنه "بيت بني لملك يريد أن يكون فيلسوفا" أما الآن فقد اشتراه شقيق أمير قطر بمبلغ يقال إنه يناهز 80 مليون دولار وسيخضع لبعض التعديلات بما فيها إضافة مصعد جديد يصل إلى غرفة الأمير وموقف سيارات تحت الأرض. وهذا ما أثار حفيظة المدافعين عن طابع المدينة التاريخي مما قد يؤدي إلى إحباط مشاريع القطريين إن العلاقات المميزة بين الدوحة وباريس لن تتضرر على الأرجح جراء هذه المشكلة، كما أنه واضح أن القطريين قادرون على دفع الضرائب العقارية، غير أن كل الخدمات الصغيرة والكبيرة تحتسب وكل الإهانات تبقى في الأذهان في عالم الدبلوماسية المشخصنة في العالم العربي. فاللعبة دقيقة بل غير أخلاقية أحيانا. لكن بما أن فرنسا والولايات المتحدة تلعبان الآن ضمن الفريق نفسه وليس ضد بعضهما، قد يتحقق أخيرا هدف إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط.

وكل ذلك حسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصاً ودون تعليق .

المصدر: Newsweek