أميركا أخرى؟!

 

حازم صاغيّة

 

 

وقعت الأزمة الماليّة الكبرى عند منعطف أميركيّ، وبمعنى ما دوليّ، كبير: فهناك نهاية عهد رئاسيّ مزدوج كثيف الحدث والدلالة، وذكرى سابعة لـ11 أيلول (سبتمبر) افترقت عن سابقاتها، ومعركة رئاسيّة تنطوي على مضامين ثقافيّة وقيميّة قليلاً ما انطوت معركة رئاسيّة على مثلها، وانبعاث روسيّ يشير الى نهاية حقبة ما بعد الحرب الباردة، وإن لم تتضح بعد هويّة الحقبة الوارثة الجديدة وهذه مجتمعة تقول إن البوشيّة انتهت، لا كمجرّد جلاء عن البيت الأبيض، بل أيضاً كمدرسة سياسيّة واجتماعيّة سادت عالمنا، ولو على نحو متفاوت، لسنوات. فالأزمة الماليّة ربما جرى استيعابها بعد استنفار المصارف المركزيّة العالميّة ونزولها الى الميدان، إثر ضخّ 85 بليون دولار حكوميّ لإنقاذ «المجموعة الأميركيّة الدوليّة»غير أن ما يتبقّى منها سقوط النيو- ليبراليّة المطلقة، كما صاغها فريدمان وهايك، والتي ترى كلّ المشكلة في الدولة وفي تدخّلها فالدولة هذه هي التي وفّرت خشبة الخلاص لرأسماليّة أرادت أن تهيل التراب عليها وتحيلها إلى ماض ميّت.

أما جريمة 11 أيلول التي رفعتها البوشية إنجيلاً لها، وجعلت من «الحرب على الإرهاب» التي نجمت عنها، بديلاً من كل همّ آخر، فقراً كان أو جوعاً أو بيئةً أو قانوناً دوليّاً، فشابتها، هذه المرّة، نكهة أخرى: فقد حفّ بها الانبعاث الروسيّ الذي هو، في أحد وجوهه، نتيجة التبديد البوشيّ لانتصار الولايات المتّحدة في الحرب الباردة. كذلك ترافقت الذكرى هذه لا مع تواصل الغرق في «المستنقعين العراقيّ والأفغانيّ» فحسب، بل أيضاً مع نذر مقلقة في ما خصّ باكستان النوويّة والمسلمة في آن. وغنيّ عن القول إن احتمال خسارة باكستان يزيل آخر الشكوك في صدد الهزيمة المؤكّدة لبوش في «حربه على الإرهاب».

بيد أن انهيار الإجماعات التي ولّدتها وجسّدتها 11 أيلول أعاد الحيويّة الى الانقسام الثقافيّ والمجتمعيّ في الولايات المتّحدة نفسها، ما تنمّ عنه معركة جون ماكين وباراك أوباما. وشيئاً فشيئاً سيطرح النقاش الأميركيّ على الطاولة باقي العناوين والترّهات التي رفعتها البوشيّة عالياً، واتّخذ بعضها شكل تراجع صريح عن قيم التنوير وعلمنة العصر وقصارى القول، وهو ما بدأت تباشيره بالظهور، أن أعمدة البوشيّة تهاوت واحداً بعد الآخر. وقد نجد أنفسنا، في وقت قريب جداً، حيال أميركا تعيد النظر بما تراءى ثوابت وأساسيّات، كأنْ تفاخر بتقاليدها الليبراليّة، لا بنيو-ليبراليّتها، وبتفرّعها عن أوروبا، لا بولادتها من البحث عن الذهب، وبتاريخها العلمانيّ والمندمج أكثر مما بتاريخها البروتستانتيّ والكاستيّ، وبمدينة نيويورك لا بمدن الصحراء التي تتناسل من حول محطّات البنزين أما السياسات الخارجيّة فلا بدّ أن تمسّها المراجعات ويكون سؤالها الحاكم: كيف التوفيق بين الامتناع عن الحروب والامتناع عن ممالأة الطغاة؟ والحال أن السياسات المذكورة دائماً أعقد وأصعب، تصلنا في طور متأخّر، سيّما وأن خصوم أميركا في عالمنا اليوم، من شافيز إلى حماس، ومن البعث وحزب الله الى بوتين، أقرب في روحهم الى خصمهم جورج بوش مما الى المستقبل؟

وكل ذلك بحسب المصدر المذكور نصا ودون تعليق.

المصدر:alittihad.ae