الليبرالية العالمية... جبهات وتحديات!

 

 تيموثي جارتون آش 

 

 

 

تكشف السنوات السبع التي مرت على هجمات 11 سبتمبر الحقيقة القديمة ذاتها: المشكلات لا تحل، إنما تحل محلها مشكلات أخرى جديدة. ولنتخذ لهذه الحقيقة مثلاً ما جرى في الثامن من أغسطس الماضي، حيث أعلنت دولتان عملاقتان عن عودتهما بقوة إلى المسرح الدولي: روسيا باجتياحها العسكري لجورجيا، والصين بتنظيمها واستضافتها لأولمبياد بكين. وأرجو ألا يساء فهمي، غير أن الخطر الإرهابي - الذي لا يستبعد أن يشن علينا هذه المرة بأسلحة نووية أو بيولوجية أو كيمائية- لا يزال يتهددنا. ففي الوقت الذي تنهمك فيه بمطالعة هذا المقال، لا يستبعد أن يكون أحدهم يختبئ في مكان ما قريب منك ويعمل سراً على محاولة استغلال ذكرى هجمات سبتمبر نفسها، لشن أخرى مماثلة أو أشد فتكاً ودماراً.

والذي تبين خطأه بوضوح الآن، زعم المحافظين الجدد أن الإرهاب هو التهديد الوحيد الذي أعاد تشكيل السياسات الدولية بمجملها، على نحو ما قال به نورمان بودوريتس: "إن مكافحة الفاشية الإسلامية هي الحرب العالمية الثالثة بعينها"! والحقيقة أن تغييرين كبيرين يمران بنا الآن هما اللذان يحددان شكل عالمنا المعاصر. وقد تجلى أولهما بوضوح تام في الثامن من أغسطس المنصرم، حيث أعلنت مجموعة من الدول غير الغربية مناهضتها للهيمنة الغربية على العالم. وهاهي الدول نفسها توشك على هزيمة الغرب في ما ابتكره بالذات. من ذلك مثلاً أن محللي "جولدمان ساكس" يتنبأون بأن يتجاوز الناتج القومي الإجمالي لكل من البرازيل والصين والهند والمكسيك وروسيا، الناتج القومي الإجمالي للدول السبع الكبرى بحلول عام 2040، مع العلم أن القوة الاقتصادية عادة ما تترجم إلى قوة سياسية. وفي الوقت نفسه تثير التنمية الاقتصادية العالمية القائمة، حرية تبادل وانتقال السلع والخدمات... إلى آخر مفردات "العولمة", مجموعة من المشكلات العابرة للقوميات. نذكر منها مثلاً: انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون المسببة لتسارع التغير المناخي، الهجرات الجماعية الواسعة، إضافة إلى مخاطر انتشار الأوبئة والأمراض المعدية. وتستدعي كل هذه المشكلات استجابة دولية تستهدف التعاون الجماعي على حلها لكن وعلى نقيض ما كان عليه عقد التسعينيات، حيث كان يأمل الرئيس الأميركي جورج بوش الأب في أن يقيم "نظاماً عالمياً جديداً" يحل محل علاقات الحرب الباردة، إلا أن احتمالات إقامة نظام ليبرالي عالمي جديد، لم تعد مبشرة ولا تدعو للتفاؤل. والسبب هو أنه جرى اقتسام السلطة وتوزيعها بين عدد من الدول المتنافسة والمتصارعة فيما بينها، مع ملاحظة أن أكثرها ليس ليبرالياً بأية حال، إضافة إلى نيل بعض الشبكات الوهمية نصيباً من تلك السلطة، ومنها تنظيم "القاعدة". وعليه فليس أمامنا نحن "أصدقاء النظام الليبرالي العالمي" إلا أن نستعد لمواجهة نظام جديد للفوضى العالمية، أو بالأحرى النظام العالمي القديم- الجديد للفوضى، طالما أن الفوضى هي الحالة الطبيعية السائدة بين أعضاء الأسرة الدولية. أما النظام العالمي -الذي يمكن أن يطلق عليه السلم العالمي- فهو نفسه لا يزال إنجازاً هشاً وقابلاً للانتكاس في أي لحظ

ولكي نصحح مفهومنا عن روسيا والصين، يلزم القول إنهما ليستا مجرد دولتين كبريين تناهضان الغرب فحسب، بل هما تمثلان نسخاً بديلة لنمط الرأسمالية الشمولية أو الشمولية الرأسمالية. وهنا يبرز أهم وأكبر منافس أيديولوجي محتمل للرأسمالية الديمقراطية الليبرالية منذ انهيار الشيوعية في بدايات العقد الماضي. وفي الوقت نفسه ربما تجد الراديكالية الإسلامية طريقها إلى قلوب الملايين من المسلمين، إلا أنه يصعب عليها تجاوز تلك الحدود والأهم من ذلك أنه يستحيل لهذا التيار الإسلامي المتشدد أن يربط نفسه مطلقاً بأي مشروع ذي صلة بالحداثة الاقتصادية أو التكنولوجية أو الثقافية. وعلى نقيض هذا التيار، تعكس مراسم افتتاح واختتام أولمبياد بكين، وكذلك ناطحات السحاب المتصاعدة في سماء شنغهاي، مدى قدرة الرأسمالية الشمولية الصينية على تبني هذه الحداثة وفي الصين، تبدو لنا ملامح حداثة لا هي بالغربية ولا الليبرالية. لكن, هل تمثل الشمولية الرأسمالية هذه نمطاً مستقراً ومستداماً؟

هذا في اعتقادي أحد أهم أسئلة عصرنا الكبرى، مع ملاحظة أن هذا العصر لا يزال يمر بمرحلة ما بعد هجمات 11 سبتمبر، في الوقت الذي يبقى فيه عصراً لما بعد الثامن من أغسطس وبصفتي أحد "أصدقاء النظام الليبرالي العالمي" الذين لا يكفون عن التفكير في كيفية التصدي لمجمل هذه التحديات العالمية المثارة على عدة جبهات، فإن لي تعاطفاً أكبر مما يعبر عنه كثير من الأوروبيين، ورؤية تبدو أقرب ميلاً إلى مواقف عدد من المفكرين الأميركيين الذين يدعمون سياسات كل من المرشحين الرئاسيين ماكين وأوباما، وهي رؤية تدعو إلى "تواؤم الديمقراطيات" وتقوم على ضرورة إعطاء الأولوية للبحث عن الدول التي تشاركنا قيمنا الديمقراطية، استناداً إلى الطريقة التي تحكم بها هذه الدول نفسها عملياً ولتحقيق هذا الهدف، علينا ألا نخدع أنفسنا بأن نقصر إقامة شراكاتنا وعلاقاتنا الخارجية مع الديمقراطيات الليبرالية وحدها وربما تدفعنا قيمنا الفطرية نحو هذا الاتجاه، غير أن مصالحنا ربما تحتم علينا إقامة شراكات مماثلة مع الدول غير الليبرالية في الوقت الحالي. وما أسوأ أن يسود التفكير الآن في إقامة رابطة عالمية للدول الديمقراطية، في موازاة رابطة عالمية للدول الأتوقراطية المستبدة. فذلك هو الطريق إلى تكريس الفوضى العالمية.

وكل ذلك بحسب المصدر المذكور نصا ودون تعليق.

المصدر:alittihad.ae