متى تتحول الحرب الباردة إلى حرب ساخنة؟

 

سليم نصّار

 

 

 

لخص الديبلوماسي الأميركي العريق افريل هاريمان، فن التفاوض مع الروس بأنه أشبه بشراء حصان واحد مرتين. ذلك أن الثمن الذي يُسدد في آخر المطاف أعلى بكثير من الثمن المقدر في بداية المفاوضات. وهذا ما لمسه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي عقب اتفاقه مع الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف في 12 آب (اغسطس) الماضي خلال زيارته الثانية، يوم الاثنين الماضي، اكتشف ساركوزي أن صيغة الاتفاق السابق خضعت لسلسلة اجتهادات وترجمات اضطرته إلى تمديد فترة اللقاء مع ميدفيديف ساعتين اضافيتين. والسبب أن موسكو اعتمدت الترجمة الروسية للنص الأول، مركزة على حل مشكلة «المناطق العازلة» الواقعة شرق اوسيتيا الجنوبية وابخازيا وطلبت مقابل سحب كل قواتها من هذه المناطق، تعهد تبليسي عدم استخدام القوة مجدداً ضد هذين الجيبين الانفصاليين.

فوجئت واشنطن بنص النقطة الخامسة من صيغة اتفاق 12 آب التي تجيز لروسيا حق «استخدام اجراءات أمن إضافية»، الأمر الذي استغلته موسكو لتوسيع تمدد قواتها في جورجيا وفرض سيطرتها على أجزاء تقع غرب البلاد. وأرسلت واشنطن وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس إلى باريس بغية الاستيضاح عن نقاط الاتفاق الروسي - الفرنسي. وعاتبت ساركوزي بحدة لأنه تفرد بإطلاق مبادرته قبل استشارة صديقه وحليفه الرئيس بوش. ودافع الرئيس الفرنسي عن نفسه بالقول إنه كان يتوقع اجتياحاً كاملاً لجورجيا شبيهاً باجتياح براغ (25 آب 1968) وأبلغها أنه صُدم بتحفظ الإدارة الأميركية، وترددها في إدانة الهجوم الروسي إدانة حاسمة في أول أيام الأزمة لذلك طار إلى تبليسي لشد أزر الرئيس ميخائيل ساكاشفيلي الذي أوحى له بأن تقاعس الغرب سيجعل منه نسخة أخرى عن الكسندر دوبتشك عقب اجتياح براغ، علماً بأن روسيا لم تنجح في اسقاط حكم ساكاشفيلي، واستبداله بحكم موالٍ لها. يزعم المحللون الأوروبيون أن فلاديمير بوتين حريص على استرداد جورجيا إلى الحظيرة الروسية لأسباب شخصية واستراتيجية واقتصادية. فالعامل الشخصي ظهر على الفور عبر عملية انتشار قواته في وسط البلاد، أي حول مدينة «غوري» حيث ولد مثله الأعلى جوزيف ستالين وبسبب هذا الاعجاب ظهرت رسوم كاريكاتورية عدة في الصحف العالمية تمثل بوتين بشاربي ستالين. إضافة إلى العامل الشخصي، فإن مدينة «غوري» تعتبر موقعاً استراتيجياً مميزاً، لأنها تربط شرق البلاد بغربها والثابت أن المحاولات الدؤوبة التي أجراها ستالين من أجل «ترويس» جورجيا لم تنزع من الذاكرة الجماعية لسكان تلك البلاد صور المآسي التاريخية التي ألحقتها روسيا بهم.

في ضوء هذه التجارب التاريخية المريرة مع الجارة الكبرى، يتساءل أهل جورجيا عن اسرار زيارة كوندوليزا رايس لبلادهم في التاسع من تموز (يوليو) الماضي. وهم مقتنعون بأنها هي التي نصبت الفخ لصديق أميركا وحليفها الرئيس ساكاشفيلي، لأنها شجعته على الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي في حين عارضت كل من فرنسا والمانيا هذه الخطوة المتهورة، لأنها تمثل استفزازاً صارخاً لروسيا وفي مقالة تحليلية كتبها المعلق البريطاني توني وود في مجلة «لندن ريفيو»، مقارنة سياسية بين ايحاءات السفيرة ابريل غلاسبي لصدام حسين قبل غزو الكويت... وتشجيع رايس لساكاشفيلي على ضرب اوسيتياا الجنوبية ويبدو أنها كانت واثقة من ردود فعل موسكو بدليل أنها لم تكن متحمسة للمبادرة التي قام بها الرئيس ساركوزي. وكان من الطبيعي أن يثير تصرف الإدارة الاميركية حفيظة الدول الأوروبية التي تساءلت عن الغايات المبيتة وراء تحريض كوندوليزا رايس، وما إذا كانت هناك أسباب خفية تتعدى مسألة كوسوفو وتمدد الأطلسي ونشر الدرع الصاروخية؟

رئيس مجلس «الدوما» الروسي بوريس غريزلوف، شجب زيارة نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني لجورجيا وأوكرانيا، متهماً اياه بتصعيد الموقف خدمة لمرشح الحزب الجمهوري جون ماكين. وقد يكون هذا الاتهام منطقياً بعدما كشفت الصحف عن هوية الشخص الذي شجع ماكين على اختيار سارة بالين بدلاً من حاكم ولاية ماساشوستس السابق ميت رومني. ولم يكن هذا الشخص سوى ديك تشيني الذي يعرف جيداً إمكانات حاكمة الاسكا وأهميتها في سلب الأضواء عن المرشح الديموقراطي باراك أوباما. والملاحظ أنه خلال الاسبوع الأول من ظهورها على المسرح الانتخابي، استطاعت أن ترفع أسهم المرشح الجمهوري، خصوصاً بين الوسط النسائي. وهي تعتبر المرشحة المثالية للمحافظين ولليمين المسيحي، كونها تعارض الاجهاض وتلتزم قيم النزاهة، وتحسن فن النقاش بسبب ماضيها الإعلامي. والكل ينتظر مبارزتها على التلفزيون ضد منافسها الديموقراطي السيناتور جوزيف بايدن. واللافت ان وسائل الاعلام شددت على إظهارها بمظهر المرأة الحديدية المقاتلة، فإذا بشركات الاعلانات تقدمها في تماثيل بلاستيكية وهي تحمل الرشاش والمسدس. ويبدو ان عملية افتعال أزمة جورجيا قد أفادت ماكين انتخابياً، لأنها حركت العصبيات النائمة وبعثت أجواء الحرب الباردة، وأربكت منظمي حملة أوباما.

رجال الاقتصاد والمال يميلون الى طرح فرضيات إضافية بهدف تشويه صورة روسيا كبلد مهيأ للاضطلاع بدور استثماري قيادي. وهذا يعود الى مطلع حزيران (يونيو) الماضي عندما افتتح الرئيس الروسي مدفيديف المؤتمرالاقتصادي في بطرسبورغ. وأعلن بكثير من التشاوف، ان بلاده تعي مسؤولياتها تجاه مصير العالم أكثر من الولايات المتحدة. وقال أمام ألوف رجال الأعمال الذين قدموا من أوروبا وآسيا ان القوانين الجديدة تشجع على الاستثمار في 42 قطاعاً من قطاعات الاقتصاد وحث المشاركين في المنتدى - ومنهم رؤساء شركات ومجموعات دولية مثل شركتي بي بي وشل النفطيتين وكي بي أم جي الاستشارية وبيجو للسيارات ومجموعة مصرفية اميركية - على توقيع عقود بكفالة الدولة. وكانت النتيجة ان وقعت عقود بقيمة تزيد عن العام الماضي بحيث بلغت قيمتها 12 بليون دولار ويتردد في واشنطن ان أزمة جورجيا هربت ما نسبته 16 بليون دولار ونصف البليون دولار خلال اسبوع واحد بعد الثامن من آب (اغسطس) الماضي. كل هذا يشير الى النية المبيتة لتغيير المناخ الانتخابي الأميركي وشل القدرات الاقتصادية الروسية، خصوصاً بعدما قرر بوتين توظيف سياسة الانفتاح لتعزيز دور بلاده في العالم العربي. وكانت زياراته للسعودية والخليج وليبيا مجرد توطئة لكسر الجمود الذي خيم على العلاقات منذ سنة 1964.

ثم جاء من بعده وزير خارجيته سيرغي لافروف ليجول على عواصم شرق المتوسط داعياً الى مؤتمر سلام يعقد في موسكو. وقد أعربت اسرائيل عن مخاوفها من اضطلاع روسيا بدور متقدم في عملية السلام، مدعية انها تنازلت عن أكثر من 70 في المئة من ديون سورية مقابل تقديم خدمات لسفن اسطولها في اللاذقية وطرطوس. وتزعم الصحف الأميركية ان هذا التوسع الذي شمل مناطق آسيا الوسطى وبحر قزوين والقوقاز والبحر المتوسط، إنما هو نتيجة الوفرة المالية الهائلة التي تمتلكها روسيا من ارتفاعات اسعار النفط، بحيث نجحت في التخلص من كل ديونها للغرب سنة 2000 وترى الإدارة الأميركية ان القوة المالية التي جمعتها موسكو استغلتها لتحسين موقع أصدقائها في ايران وسورية وفنزويلا وكوبا وفلسطين (حماس) ومع ان الحديث عن خطوات انتقامية ضد روسيا لم يتبلور بعد، إلا أن واشنطن بدأت تمارس بعض الضغوط والمضايقات ضد نخبة من رجال الأعمال، وذلك عن طريق تجميد حساباتهم في المصارف الأميركية وتشديد الرقابة على عمليات غسل الأموال الروسية في مصارف الدول الغربية وهناك سعي آخر يحمل صورة العقوبة لإنجازات بوتين الشخصية، بينها عرقلة انضمام روسيا الى منظمة التجارة العالمية وفي رده على الحصار العسكري - الاقتصادي، قرر بوتين تحدي الإرادة الأميركية ولو أدى ذلك الى ارتفاع حدة الحرب الباردة بطريقة تذكر بأزمة كوبا سنة 1961وقد استقطب دول الحديقة الخلفية للولايات المتحدة مثل كوبا وفنزويلا وبوليفيا من أجل ممارسة ضغط سياسي وأمني بدأ بالمناورات المشتركة وقد ينتهي بنزاعات عسكرية في الأوقيانوس القطبي.

لماذا الأوقيانوس القطبي؟

منذ مدة أرسلت موسكو الى هذا الموقع النائي بعض سفنها النووية المخصصة لكسر الجليد. وارتفعت صيحات الاحتجاج في كندا والنروج وألاسكا لأن هذه الدول لم ترسم حدودها في المنطقة الغنية بالنفظ والغاز (يقدر المخزون بعشرة بلايين طن) وعلق بوتين على هذه الاحتجاجات بالقول انها مرفوضة لأن لروسيا حقوقاً لا تقل عن حقوق الدول المطلة على بحيرات الجليد. ويقول الخبراء ان قانون الأمم المتحدة لخريطة القطب الشمالي لم تحدد سنة 1982 حقوق الدول المعنية، وانما تركت لهم عشر سنوات لتقديم طلباتهم. وعندما جاء دور يلتسن جير قراره للأميركي لأن روسيا سنة 1992 كانت تترنح تحت ضربات التفكك والتغيير. وعليه ترى موسكو ان حقها في ثروات القطب الشمالي تزيد عن حقوق الدول الأخرى، ولو اضطرها الأمر لأن تثبت ذلك بالسلاح النووي. كوندوليزا رايس - وهي ايضاً خبيرة ومتخصصة بالشؤون الروسية - تميل الى الظن بأن ردود فعل ميدفيديف وبوتين تشير الى الارتباك وبوادر أزمات تلوح في الأفق. وهي واثقة من ان وضع روسيا الاقتصادي لن يسمح بفتح جبهات واسعة، خصوصاً إذا تعرضت للعزل أو لفقدان العضوية في منظمة التجارة العالمية ومجموعة الثماني. ويبدو ان هذا الانتماء لا يغري حكام الكرملين بدليل ان الرئيس ميدفيديف اقترح انشاء بنية أمن أوروبي جديدة بدلاً من الحلف الأطلسي. كما اقترح ابرام معاهدة بديلة عن معاهدة هلسنكي الموقعة سنة 1975 وكان بهذين الاقتراحين يتوقع اشراكه في رسم صورة النظام العالمي الشامل. وربما توقع ان يعامله المجتمع الدولي معاملة الولايات المتحدة التي اجتاحت العراق من دون التنسيق مع الاسرة الدولية وأبرز ما يميز الفارق بين الدولتين هو ان الاجتياح الروسي لجورجيا لم يسقط حكم ميخائيل ساكاشفيلي!

كاتب وصحافي لبناني

وكل ذلك بحسب المصدر المذكور نصا ودون تعليق.

المصدر:daralhayat.com