أميركا وروسيا: المواجهة في أوروبا

 

 د. رضوان السيد 

 

 

تحفل عناوين الصحف والمجلات الأوروبية بعبارات مثل: أوروبا تصمدُ لروسيا، أو: أبعاد المواجهة وحدودها، أو: أهداف روسيا الحقيقية، أو: لماذا حدث ذلك في جورجيا الآن؟ ووجهات النظر مختلفةٌ اختلافاً شاسعاً بشأن ما حدث وظروفه وغاياته ونتائجه ذوو النظر الاستراتيجي يقولون إنّ الهجمة الروسية على جورجيا لها ثلاثة أسباب بعيدة المدى: السبب الأول إصرار الولايات المتحدة على توسيع حلف الأطلسي بدون داعٍ وباتجاه أوروبا الشرقية. وقد تمَّ ذلك في دولٍ كانت داخلةً في حلف وارسو مثل بولندا وتشيكيا وهنغاريا كما تمَّ في نواحٍ كانت أجزاء من روسيا الاتحادية ذاتها، مثل دول بحر البلطيق الثلاث.

ورغم أنّ الأميركيين والأوروبيين قالوا إنّ الحلف الأطلسي ما عاد حلفاً هجومياً وعسكرياً بحتاً؛ فإنّ التصرفات كانت بخلاف الأقوال فقد شنّ الحلفُ حرباً في البوسنة وكوسوفو ومقدونيا بالاشتراك مع الاتحاد الأوروبي أو بدون الاشتراك ثم ها هو الآن يريد نَصْب صواريخ في بولندا وتشيكيا وفي كلا الأمرين رأت روسيا دائماً خَطَراً كبيراً، في انضمام حلفائها السابقين (على حدودها) إلى حلفٍ عسكريٍ تتزعمه الولايات المتحدة، خصمها في الحرب بالباردة، وفي نشْر شبكة صواريخ موجَّهة باتجاهها وبدون هدفٍ واضحٍ أو مُقْنِع.

والسبب الثاني: إصرار الغرب الأميركي والأوروبي على استقلال كوسوفا، بحيث اعترفت بها 46 دولة حتى الآن. وقد اعتبر الروس ذلك تحدياًَ حقيقياً لأنه يتضمن تغيير الحدود داخل أوروبا. وإذا كان ذلك قد حدث من قبل، بعد نهاية الحرب الباردة؛ فإنه كان بالاتفاق بين المتخاصمين ومن خلال المؤسَّسات الدولية حتّى في البوسنة والهرسك، وافق الصربيون والروس في النهاية على الاستقلال والدولة الاتحادية بين المسلمين والكروات مع جمهورية الصرب الصغيرة هناك أمّا في حالة كوسوفو فالأمر في نظر الروس مختلف؛ لأنّ كوسوفو هي جزءٌ من صربيا، وما كانت تتمتع بوضعٍ خاص (حكم ذاتي أو ما شابه) ضمن الدولة الاتحادية اليوغوسلافية، وقد خاض الغربيون من أجل هذا الإقليم (10 آلاف كيلو متر مربع، و2 مليون ونصف مليون نسمة، 90% منهم ألبان مسلمون) حربين عملياً: حرب عام 1999 للإنقاذ من هجمات القتل والتهجير التي قام بها الصرب، وحرب عام 2008، دبلوماسية هذه المرة، من أجل استقلال الإقليم.

ويردُّ الغربيون بأنّ كوسوفو كانت منطقة حكم ذاتي، وإنما ألْغى الصرب وضْعَها في التسعينيات. ثم إنّ التعايش صار مستحيلاً بعد المذابح الصربية. فقد سلك الصربيون سلوكاً شائناً إلى الحدود التي دفعت جمهورية الجبل الأسود، ذات الغالبية الصربية، للاستقلال، رغم العِرَق والثقافة والجوار! ثم إنّ الغربيين أَبَوا ضمَّ كوسوفو لألبانيا، حتى لا تكون لتغيير الحدود نتيجةٌ تُخِلُّ بالتوازُن في البلقان والسبب الثالث للتدخل الروسي في جورجيا بحجة الدفاع عن أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا الآن هو الانتخابات الأميركية. فالروس مغتاظون من مُدّة، وكثيراً ما أعلنوا عن غضبهم، لكنّ الأميركيين ما صدّقوا أو أنهم تظاهروا بذلك، واعتبروا أنّ دورهم هو الإثارة، والتهدئة بيد الأوروبيين! وقد اختار الروس التحرك الآن، لأنّ إدارة بوش شارفت على الانتهاء، ولأنّ أميركا تكون في مثل هذه الحالة غير قادرةٍ على اتخاذ قراراتٍ كبيرةٍ باستثناء ما يمسُّ أمنَها الوطني، أو أَمْنَ قواتها بالخارج ولذلك فهم يستطيعون أن يضربوا عصفورين بحجرٍ واحد: يوجِّهون رسالةً مؤثِّرةً إلى الأوروبيين والأميركيين بشأن ما تعتبرها روسيا أخطاراً على مصالحها في وقتٍ ليست فيه ردود فعل كبيرة. ومن جهةٍ أُخرى يؤثِّرون في مجرى الانتخابات الأميركية بالطريقة التي يعتبرون أنها تخدمهم.

وقد حدث بالفعل ما توقّعه الروس. فالتحرك انصبَّ على أوروبا، وبرز في هذا المجال الرئيس ساركوزي لترؤسه الاتحاد الأوروبي. وقد عقد اتفاقاً مع رئيس روسيا، أهمُّ ما فيه انسحاب الجنود الروس من الأراضي الجورجية خلال شهر. لكنّ الإقليمين المتنازَع عليهما ما أمكن الوصول إلى شيء بشأنهما فالروس أعلنوا عن استقلالهما بمفردهم. فيما لا يزال الأوروبيون والأميركيون يصرون على أنهما جزءٌ من جورجيا. وفي حين كرر الأوروبيون الاجتماع، ومضت عدة أطرافٍ إلى روسيا؛ فإنّ الأميركيين اقتصروا على التهديد والوعيد. وقد قال نائب الرئيس الأميركي ووزيرة الخارجية إنّ جورجيا وأوكرانيا ينبغي تقويتُهما عسكرياً وأميناً والنظر أيضاً في إدخالهما إلى حلف الأطلسي بسرعةٍ قدر الإمكان(!). وأضاف تشيني أنه لا بد من نشر الصواريخ ببولندا وتشيكيا! الأوروبيون يتظاهرون بالصمود والمواجهة. لكنّ المعروف أنّ فرنسا صديقة لروسيا، وألمانيا تربطها بها مصالح فيها حياةٌ أو موت في مسائل البترول والغاز وهم يحمّلون الأميركيين وأنفُسَهُم بعض المسؤولية. يحمِّلون الأميركيين مسألة الصواريخ التي يُرادُ نشْرُها من حول روسيا ويحملِّون أنفُسَهم مسؤولية التسرُّع في قضية كوسوفو، رغم أنّ الوقت كان حَرِجاً ويريدون أخيراً القيامَ بمبادرة شاملة، رغم تأييدهم لساركوزي في مفاوضته روسيا لكنْ هناك مسائل بعضها آني وبعضها استراتيجي.

من الآنيات ما هو تقديرُ بوتين وميدفيديف والاستراتيجيين الآخرين حول التصرف بهذا الشكل قبل الانتخابات الأميركية؟ لقد لجأوا إلى الحلّ بالقوة، وهذا يعني تقوية للجانب الأميركي الذي يقول بالقوة (ماكين)، فهل يريد الروس رئيساً أميركياً مُحارباً؟! وهناك المسألتان الاستراتيجيتان، مسألة التلاعب بالإثنيات، وإلى أيّ حدٍ تريد روسيا الذهاب فيها؟ فلُعبة الإثنيات كانت خلال الحرب الباردة لُعبةً أميركيةً محبَّبةً بحجة الدفاع عن الحرية وحق تقرير المصير، لسائر شعوب "الاتحاد السوفييتي"! وقد أثبتت روسيا أنّ لديها إثنياتها أيضاً، وأنها تستطيع استخدامها لكنّ الملفّ الإثني وثورانه لا يخدمُ أحداً وبخاصةٍ الروس والأميركيين.

فهل تتوقف الإثارة ويذهب الطرفان للتفاوُض مع الرئيس الأميركي الجديد. اللعبة الإثنيةُ هي من الخطورة بحيث تستحقُّ التفكير قبل الدخول فيها ثم إلى أين تريد روسيا الذهاب؟! هل تريد إعادة النظر بنتائج الحرب الباردة؟

إذا كان الأمر كذلك، فالذي حدث خلال التسعينيات مستحيلٌ لَمْلَمْتُهُ أياً تكن المبررات والقدرات لكنْ قد يريد الروس أن يعيد الأميركيون النظر في شبكة الصواريخ، وفي إدخال دول شرق أوروبا في الناتو. وسيقول الأوروبيون الصغار: لكننا نخشى بالفعل الصدمات الروسية أو تحريض الأقليات الإثنية من أجل التمرد والثورة والروس يقولون في الإجابة على ذلك: نحن لا نُخيف، لكنْ إذا أردتُم معرفة ما ينبغي فعله: تقوية منظمة الأمن والتعاوُن الأوروبي، واعتبارها مجلساً تشاورياً تُطرح فيها المشكلات على قدم المُساواة. بالإضافة إلى نادي الثمانية الكبار في الشأن الاقتصادي، والذي صار يجتمع كلَّ عام ويصلُ لقراراتٍ في شتّى المسائل لقد بادرت روسيا إذن إلى استخدام القوة في أوروبا. وكان التفكك اليوغوسلافي الدموي قد أَسقط هذا المحرم، لكنّ خصوصية المسألة هنا أنّ الذي يستعمل القوة في جورجيا، يمكن أن يستخدمها في قضية بحر البلطيق أو أوكرانيا، وأنّ هذا المستخدم للقوة هو روسيا التي تمتلك مخزوناً هائلاً من السلاح التقليدي المتطور، والآخر النووي المدمَّر! وقد هدَّد الجنرالات الروس بالفعل باستخدام النووي باعتباره ضمن العقيدة العسكرية الروسية إذا تَهدَّدتْ المصالحُ الوطنية .

إلى أين تريد روسيا الوصول مرةً أُخرى؟

الأوروبيون حائرون في ذلك ومهمومون لأنّ القتال يجري على أرضهم. وهم ما أَبدعوا من قبل في قضايا البلقان، واحتاجوا للولايات المتحدة وللناتو. لكنْ من جهةٍ ثانية ليس من المنتظر أن يكون التحدي الروسي استراتيجياً ومستمراً فروسيا الاتحادية غير الاتحاد السوفييتي، ولا عودة للحرب الباردة. ما عاد هناك غير مشروع أُمَمي واحد هو المرتبط بالولايات المتحدة والغرب.

روسيا دولة قومية كبرى تمتلك مصالح، وتُطالب بمدىً حيوي. ومطالبتُها من أوروبا والولايات المتحدة. فهي تريد شراكةً ونديةً وحمايةً لمصالحها الاستراتيجية، ولا تقبل بالعودة إلى ظروف الستعينيات السيِّئة ولدى الأوروبيين مصالح استراتيجية هائلة في روسيا ومعها، ولذا لا يفكّر الطرفان في العداء. لكنّ الأزمة الحالية تُثبتُ أنّ الأوحدية ما تزال مستمرة. فكلا الطرفين الروسي والأوروبي ينتظران الولايات المتحدة ورئيسها بعد الانتخابات الرئاسية في 4 نوفمبر 2008 وما يفعلُهُ الروس والأوروبيون للفْت انتباه" الدولة الأعظَم" دليلٌ على أنّ المسألة مسألة قيادة، وهي لا تقتصر على الأوروبيين، بل تمتدُّ إلينا في الشرق الأوسط، حيث تُحاول كلٌّ من إيران وتركيا وإسرائيل وسوريا "التموضُع" في مكانٍ ملائمٍ لاستقبال الرئيس الأميركي الجديد!

وكل ذلك بحسب المصدر المذكور نصا ودون تعليق.

المصدر:alittihad.ae