ذكرياتُ المستقبلِ البعيد (!)
سيدي الشهيد..
لستُ اعلمُ
أينَ انتَ الآنَ وأينَ مقرُّك من عالمِ الخلودِ والفردوس.. لعلَّكَ
ترفرفُ بأجنحتِكَ الذهبيةِِ في هذا الفضاءِ غير المتناهي، وتنتقلُ بين
كواكبِهِ السابحةِ كما تنتقلُ الفراشةُ في الحقولِ، وسواءَ كنتَ
مستقراً أو مُحلّقاً، فلاشكَّ انكَ ترى عالمَنا هذ أقلَّ مما يرى
النسرُ النملةَ من عُلوِّه الشاهقِ، كما كنتَ تراها وتصفَها لنا حين
كنتَ بيننا حتى وهبَكَ الربُّ وسامَ الشهادةِِ قبلَ ربع قرن وسامَ
الشهادةِ.. الخلودِ في عالمِنا الصغيرِ هذا، أوفي ذاكَ الاكبرُ..
لماذا؟!
لانّكَ
بدأتَ من حيثُ يجبُ.. ولأنكَ .. ولأنكَ قرأتُ لاحدِِ كبارِ الرجالِ وهو
يتحدثُ عن نفسه: حينَ كنتُ صغيراً..وحُراً، ولم تكنْ هناكَ حدودٌ
لخيالي، حلمتُ بتغييرِ العالم وعندما كبُرتُ..واصبحتُ اكثرَ وعياً
ونضجاً اكتشفتُ ان العالمَ لن يتغير، لذلك تنازلتُ وضيّقتُ دائرةَ
أمنيتي وقررتُ ان اغيرَ وطني فقط. ولكنَّ ذلك ايضاً بدا صعباً للغاية
وعندما وصلتُ الى مرحلة اكتمال النضج..تنازلتُ ثانيةً، وضيقتُ دائرةَ
امنيتي في أن اغيرَ عائلتي فقط..ولم استطعْ تحقيقَ ذلك ايضاً.
تنازلٌ بعد
تنازلٍ يعقُبُه تنازل..وفشلٌ بعد فشلٍ يتلوه فشل..رغمَ التضييقِ
المتواصلِ لدائرةِ الهدفِ.. رغمَ تحجيمِ الهدفِ باستمرارٍ بعدَ كلِّ
فشل.. فالهدف كانَ تغييرَ العالم، لكنهُ فَشَلَ. راجَعَ الحساباتِ
فاختارَ كي يكون واقعياً فاختارَ تغييرَ وطنهِ فقط هدفاً، لكنهُ فشلَ
ايضاً.
راجعَ
الموازنةَ بين الهدفِ والامكاناتِ المتاحةِ والمعوقات، فاختارَ ان
يكونَ اكثرَ واقعيةً فضيّقَ دائرةَ الهدفِ الى أبعدَ ما يمكنُ مقارنةً
بالاهدافِ السابقةِ، فاختارَ ان يغيّرَ أسرتَهُ فقط.
انحسارٌ
وعدٌّ عكسيٌ متواصل!
كلما اختارَ
هدفاً اصغرَ واصغرَ.. هدفاً ابسط واكثرَ بساطةً، رغمَ نُضجهِ وارتفاعِ
رصيدِه المعرفي والتجاربي مع تقدمِ العمرِ يفشل.. لماذا يا ترى؟!
تقهقرٌ
متواصلٌ لحجمِ الهدفِ مع تقدم العمر والنتيجةُ ثابتةٌ هي الفشل..
لماذا؟
هذا هو حالُ
صاحبِ القصةِ، وربما هو كذلكَ لأمثالِه بشكلٍ أو بآخر.لكنَّ تتبعاً
اولياً لتاريخِ ويومياتِ مسيرةِ شهيدِ الفكرِ والقضيةِ والقلمِ سماحةِ
آيةِ اللهِ السيدِ حسن الشيرازي، تعطينا خلافَ ذلك تماما فاننا نرى
توسعاً لدائرةِ الهدف، ونمواً متواصلاً لحجمِ الهدفِ مع تقدمِ عمرهِ
الشريف، ونجاحاً يتلوهُ نجاح، وإن لم يكنْ كذلك، فلا تراجُعَ ولا
انحساراً لدائرةِ الهدفِ ابداً ما هو الفرقُ ؟
ما هو
العاملُ الحاسمُ لهذا الفرقِ بين القصتين؟!
لنرجعْ الى
القصة، فهي تكشفُ النقابَ بكلِّ وضوحٍ عن الفرق.كيف؟
نعم، انه
يضيف: "والآن، وانا في آخرِ العمرِ أدركتُ فجأةً انه: لو أنني قد
غيّرتُ من نفسي اولاً، لكانَ بامكاني ان اغيرَ عائلتي. وبفضلِ
تشجيعِهمْ ومعاونتهمْ كنتُ سأقدرُ على تحسينِ وطني، ومَن يعلم؟ ربما
استطعتُ أن اغيّرَ العالمَ بأسرِه..."
أتصورُ أنَّ
الفرقَ اتضحَ تماماً..فقد بدأ لتحقيقِ هدفهِ وامنيتهِ، من تغييرِ
الغيرِ ولمْ يُغيرْ نفسَه.. لم يُهذبْها.. لم يهيئْها.. لم يُعدَّها
لترتفعَ به الى مستوى الاهدافِ، وتحدياتِه وارهاصاتِه ومشاكلِه اما
شهيدُنا الراحلُ.. فعلى العكسِ تماماً. بدأ من حيثُ كانَ يجبُ.. من
تغييرِ النفس.. ولذلكَ كانتْ دائرةُ الهدفِ عندَهُ في اتساعٍ دائمٍ
ومتواصل، ونجاحٍ يُكلَّلُ بمثلِه أو بأحسنَ منه. مؤسساتٌ ومعاهدٌ
ومشاريعٌ عديدةٌ في العراق الجريح..وبعد رحلةِ تعذيبٍ وحشيٍّ واعتقالٍ،
طويلةٍ وشاقةٍ في العراق، بلغتْ آثارُها على الشهيد رضوانُ اللهِ عليهِ
حدّاً جعل والدتَه رضوانُ اللهِ عليها لاتتمكنُ من معرفتهِ، حينَ سمحوا
لها بزيارةِ نجلِها لأولَ مرةٍ، بعدَ ردحٍ طويلٍ من الزمن، وبعد التي
واللتيا حينَ أحضروا الشهيدَ قُدس سرُّه لوالدتِه، قالتْ: لا.. انا
أريدُ زيارةَ ولدي السيد حسن.. آتوني بولدي!؟
اللهُ
اكبر.. ما نزَلَ بكَ سيدي كي تُصبحَ الوالدةُ غيرَ قادرةٍ على
معرفتِك!!
لكنْ لا
انحسارَ ولا تراجعاً.. ولا تحجيماً للهدف، فبمجردِ الخلاصِ بمعجزةٍ من
العراق والهجرةِ الى سوريةَ الأبيةِ شمَّرَ السواعد: لتأسيسِ الحوزةِ
العلميةِ في حي السيدةِ زينب عليها السلام .. وعشراتِ وعشراتِ
المشاريعِ والمؤسساتِ الاخرى ومن ثمَّ حوزةٌ في لبنان، وعشراتُ
المؤسساتِ والمشاريعِ الاخرى هناك وزياراتٌ لكثير من الدولِ الإفريقيةِ
وغيرِها.. وعملٌ متواصلٌ ومتنامٍ.. أجلْ توسعٌ دائمٌ في دائرةِ
الاهداف، ونجاحٌ يتلوه نجاح، وهذه الحوزاتُ والمؤسساتُ الخالدةُ ما هي
الا دليلٌ على ذلك لأنه بدأ من النفس.. نسيَ نفسَه.. وأعطى بلا حدود..
وتحمّلَ كلَّ الصعابِ وذلّلَها.. لأنهُ اكتفى تأسياً بجدّهِ الامامِ
الحسينِ عليه السلام، بأنَّ ما نزلَ به في عينِ الله وعلمه عزَّ وجلَّ،
فهو القائل: فاتركِ المجدَ لشيطانٍ رجيمْ والمعالي لعُتُلٍّ أو زنيمْ
واكتشفْ ربَّكَ ...لأنه تحررَ من هذه الدنيا وخرجَ من قفصِ الجسمِ، فهو
القائل: كيفَ لي ان أتطورْ؟
كيفَ لي لو
تُحبسُ الآهاتُ في صدري أن لا أتدمّرْ ؟
كيفَ لي من
قفصِ الجسم وسجنٍ اسمُهُ الدنيا وأغلالِ تقاليدِ شعوبي أتحررْ؟ هذا هو
الفرقُ الذي يمهّد للإنسانِ توسيعَ دائرةِ اهدافِه مع تقدمِ
العمر..سيدي ..سيدَ القلم.. لكَ الفُ سلامٍ منّا وسلام والفُ رحمةٍ
ورحمةٍ.. من قائلٍ نونْ والقلمِ وسيدِ الاقلام.
فالفُ
رحمةٍ، ورحمةٍ، وسلامٍ وسلام على مَن تألّق على عرشِ الفكرِ الإنساني
..على أسطورةِ العطاءِ التي حاكتْها أصابعُ العبقريةِ، وغزلَتها مغازلُ
الالهام لقد طوّقتَ جيدَ الفكرِ بإنعامِك، فأنّى لكلماتي ان تقدرَ على
مدحِك، أو وصفِ مآثرِك سيدي؟.
سيدي..
اشتقتُ لكلماتِكَ الحكيمةِ الشجية.. أيَّ اشتياق؟.. هل سَتجيبُ لو
سُئلْت؟!
فأنتَ
اسطورةُ العطاءْ وانا سؤالٌ في سؤالْ بتُّ في ذكراكَ.. سؤالاً يتبعهُ
سؤال.
سيدي قالوا:
تقدمنا حضارياً ونريدُ لكم السعادةَ والرخاء.
قلتَ ليسَ
الحضارةُ مصنعاً ..ليسَ الحضارةُ بالبناءْ..فالمعملُ الصخّابُ يفرمُ
...مستقلاتِ البقاءْ ..يستنشقُ السحبَ الغنيةَ ثم يقذفُ بالوباءْ
والفتنةُ الكبرى: فأمنيةٌ السعادةُ ... والرخاءْ ماذا..ماذا سيدي؟!
دافعتَ عن
الحضارةِ ورسمتَ الحدَّ الفاصلَ بينَ الحضارةِ والمدنية، وقاومتَ من
أرادَ خلطَ الاوراقِ للنيلِ من حضارتِنا ورسالتِنا تحتَ غطاءِ التقدمِ
المدني. وصرختَ لحمايةِ البيئةِ من التلوث.. كلِّ انواعِ التلوثِ حتى
الصوتي.. ونعتَّ الرهانَ على المدنيةِ دونَ الحضارةِ بالخاسر.. بل
وصفتَهُ بالفتنةِ الكبرى، فلا سعادةَ ولا رخاءً بالمدنية وحدَها دونَ
الحضارة.
سيدي.. مجدُ
الأنا والأنانية.. ما برحتَ تعبثُ بالمصير .. فلا أملَ بالسعادةِ ولا
رخاءْ: قلتُ: فاتركِ المجدَ لشيطانٍ رجيمْ والمعالي لعُتُلٍّ أو زنيمْ
واكتشفْ ربكَ في دمعِ يتيمْ وكنوزِ العرشِ في بؤسِ حكيمْ ."انتَ
الجنانُ اذا اردتَ، وان أردتَ جهنمُ" ماذا.. ماذا سيدي ؟
ان الأنا
وبحثَ الفردِ عن المجدِ يسدُّ الطريقَ الى المجدِ على الامة، والكلمةُ
الاخيرةُ للإرادةِ، فلابدَّ من اكتشافِ الربِّ وكنوزِه مرةً ومرة
ومراتٍ كلّ يوم، وفي الممارسةِ والعملِ، لا النظريةَ والافكارَ فقط:
قلتُ: ما قيمةُ الافكارِ إن تصحو على خلأ الدهاء ِ؟
ومعادلاتِ..
هواجسٍ تطفو بلا ألفٍ ... وياءِ؟
قلتُ: ما
رأيُنا.. ما روينا فهي الحلُّ الوحيدْ ولهذا كلُّنا (بين الـنقيضين)
شريدْ ماذا.. ماذا سيدي.
بابُ
الحلولِ مفتوحٌ.. لا انسدادَ لبابِ الحلولِ.. الازمةُ تكمنُ في أنَّ ما
أراهُ .. أو نراهُ هو الحلُّ الوحيد، ولا مكانَ للرأيِ الآخرَ عندنا!..
ولا اتحادَ ولا تعاضدَ ولا تفاهم.
قلتُ : اينَ
رجالُ البصرةِ.. والموصل؟
اينَ
هتافاتُ العمالِِ.. وهوساتُ الفلاحين؟ نعم سيدي.. تذكرتُ..قلتَ ذلكَ
حينَ وصفتَ الاوضاعَ المأسوية للعراقِ قبلَ اكثرَ من ربعِ قرنٍ
فاستنهضتَ العراقَ والعراقيينَ كلَّهم من أقصى شَمالِه وحتى أقصى
جَنوبه، وبجميعِ شرائحهِ من مثقفينَ وعمالٍ وفلاحينَ وعلماء وليسَ هذا
فحسب بل كشفتَ النقابَ عن الوجهِ الحقيقي الديكتاتوري البشعِ لذلك
النظامَ مبكراً، وحذّرتَ مما يلحقُهُ بشعبِ العراق ومستقبلِه من دمار،
واقتصادِه وتبعيته، وكان تقييمُكَ لقوةِ ذلكَ الديكتاتور بأنهُ نمرٌ من
ورق، لكنَّ ليلَ العذابِ سيطولُ لو استمرَ الخوفُ وطالَ السكوت.
اجل سيدي..
لقد عرفتَ الطاغية، وعرَّفتَ به، قبلَ اكثرَ من ربعِ قرن، قبلَ اشعالِه
لحربَي الخليج، وقبل ارتكابِه مجازرَ المقابرِ الجماعية، واستخدامه
الاسلحةَ الكيمياوية الى آخرِ قائمةِ الجرائمِ التي يندى لها جبينُ
البشريةِ، حيثُ قلتَ: رفقاً بالغدِ، يا بقايا نمرود.. وجنكيز
وهولاكو..
وتتارْ!
يا جنرالَ
الشطرنجِ، ويا ديناراً يبكي في السوقِ على الدولارْ!!
صحيحٌ: ان
الثورة جاءت تخترقُ الاعذارْ
صحيحٌ: انَّ
النصرَ يهرولُ في الأسحارْ لكنَّ الليلَ يطولُ اذا ابتزَّ الاقمارْ
لكنَّ الفجرَ يموتُ اذا نامَ الثوار ْ كيفَ امتصوا شريانَ الارض؟،
فأعقمتِ الانهارْ؟؟ اينَ البترول؟واينَ الغازُ؟ وأينَ الكبريتُ؟ وأين
الزرعُ؟ وأين الاثمارْ؟ لا شيءَ سوى الصحراء.. يناورُ فيها الاعصارْ .
سيدي ..
نحنُ صمودٌ وعطاءٌ على مرِّ التاريخ لكنَّ ليلَنا ليلٌ، وانتَ القائلُ:
أنني وحيُ
رسولٍ.. احرقَهُ الطاغوتُ ولم يركعْ
انا شعبٌ..
حاربَهُ كلُّ سلاطينِ الاتراكِ ولم يخنعْ
وقلتُ: لم
ينفع ْ
ما دامَ
الاصلحُ يُشنقُ في زنزانةِ تقواه وما دامَ .. وما دامَ ...
ما دامتْ
ظلماتُ الجوِّ تلوِّثُ فكرَ الشمس
ما دامَ
الشيطانُ يعوِّذُ بإسمِ اللهِ
من
الإنسانيةِ.. والانسانْ
ما دامَ
الثوارُ ملوكُ مغولٍ.. وتتارْ
ما دامَ
الاحرارُ طواغيتُ الليلِ.. واعداءُ الاحرارْ
ما دامَ
الناسُ، جميعَ الناسِ، سماسرةٌ في سوقِ الافكارْ
سيدي.. سيدُ
القلمِ.. وفلسطين؟!
قلتُ بعدَ
النكسة: إيهاً.. فلسطينُ الشهيدةُ! كمْ لنا
فيها يطلُّ
دمٌ.. ودمعٌ يجمدُ
إيهاً ..
فلسطينُ الشهيدةُ! اننا
نبغي سواكِ،
وعن طريقِكِ نقصدُ
سيدي..حدثْني عن الانسانِ الذي كرّمه اللهُ عزَّ وجلَّ.. والطريقِ الى
التطورِ والتقدمِ
قلتُ: انني
أغلى من الدنيا وأكثرْ غيرَ أني، لستُ ادري ..كيفَ لي أن اتطورْ؟
كيف لي لو
تُحبسُ الآهاتُ في صدري، أن لا اتدمَّرْ؟
كيفَ لي من
قفصِ الجسم وسجنٍ اسمُهُ الدنيا، واغلالِ تقاليدِ شعوبي أتحررْ؟
سيدي.. قلتَ
لا تبكِني.. فالموتُ بدءُ حياتي وغداً.. سأولَدُ عندَ فجرِ مماتي.
سيدي.. قلتَ
لا تقاسُ
الاعمالُ بالكمِّ.. والحجمِ ولكن: تقاسُ بالنياتْ سيدي.. وعن النقد
قلتُ: من
تعرّفَ على شخص، ولم يَفهمْ ذلكَ الشخص، ورغم ذلكَ ذهبَ الى انتقاده،
فذلك النقدُ الجاهلُ.
سيدي حتى في
قبولِ النقدِ الجاهلِ إيثارٌ.. وعطاءٌ.. وصمودٌ.. ورحابةُ صدرٍ بلا
حدود، فالشهيدُ رضوانُ اللهِ عليهِ يقولُ في اهداء كتابه (يا طموحي):
"واليوم
ادفعُ الى مَن لم يفهموني مادةً جديدةً لانتقادي، عسايَ أُفرغُ بها
شحناتِ صدورِهم، فلا يصبّوها على الأبرياءِ الآخرين.. اما انا فقد
تعودتُ ان اسمعَ النقدَ الجاهلَ، دونَ ان يحرّك شعرةً في عيني.. فلهم
ما يشاؤونَ أن يقولوهُ عن غيرِهم.. وليَ الله".
سيدي : طالَ
الفراقُ.. وازدادتِ الحرقةُ.. وتزدادُ يوماً بعدَ يوم فتذكرتُ حقيقةً
فلكيةً تقول: كلما طالَ النهارُ، كنا أبعدَ من الشمس، وصارَ الجوُّ
اشدَ حرارةً واكثرَ ايلاماً..
سيدي :
اصبحنا كذلك: اذ كلما طالَ أمدُ الفراقِ بيننا زادَ لهيبُ الشوقِ..
فرسمُكَ منقوشٌ في القلوبِ.. في التاريخ، ولن يمحوهُ مرورُ الايامِ
وكرورُ الاعوام.
لستُ ادري
يا سيدي ماذا اقول لقد احتملتَ ما تنوءُ من ثِقَلِهِ راسياتُ الجبال،
لقد كتمتَ هموماً ثقيلةَ الاعباءِ علّمتَنا ان لا نعملَ باليدينِ فقط،
بل نعملُ باليدينِ والعقلِ والقلبِ معا علمتنا كيف نخسرُ انفسَنا في
سبيلِ المبادئِ والناسِ كي نربحها.
علمتنا بأن
السعادةَ طيبٌ لا يمكنُ ان نُضمّخَ به غيرَنا دونَ ان تنهالَ منهُ
قطراتٌ علينا
علمتنا بأنَ
جاذبية الحنانِ والرأفةِ لا تضيعُ أبداً الا عندما نمنحُها لأنفسِنا.
علمتنا بأن
الذي يقعُ في حب ذاتِه، لنْ يجدَ مَن ينافسُه على هذا الحب.
علمتنا بأن
الذي يتحررُ من حبِّ ذاتِه، سيجدُ الكثيرَ ممن ينافسونَه على تلكَ
الحرية.
علمتنا بأن
قمةَ هرمِ الحبِ هو حبُّ اللهِ الرحمنِ الرحيم.
علمتنا بان
الحبَّ عاطفةٌ واتجاهٌ وطاعةٌ وسلوك.
علمتنا كيف
يجبُ ان يكونَ الحبُ في اللهِ ولله. وعلمتنا.. وعلمتنا.. وعلمتنا.
وعرفنا بعد رحيلكَ أنكَ كنتَ مثلاً في تعجيلِ المعروفِ وتيسيرهِ
وتستيره، وأنَّ شهرَتَكَ التي جالتْ الآفاقَ ما هي الا عطرٌ لاعمالكَ
المجيدةِ، التي طهرْتَها من الرياء.. بل حاولتَ اخفاءَها، فأبتْ الا
الظهورَ والشموخَ والخلود.. وأبى وسامُ شهادتكَ الا ان يكونَ وساماً
للشهادةِ نفسِها في عصرنا، ونعمِ ما انشدتَ سيدي: لا تبكِني.. فالموتُ
بدءُ حياتي وغداً.. سأولدُ عندَ فجرِ مماتي وختاما أبعث اليك من جوارَ
مولاتي وسيدتي العقيلةِ زينبَ بنتِ علي بن ابي طالب، حفيدةِ الرسولِ
محمدٍ صلى اللهُ عليه وآله وسلّم. بنتِ فاطمةَ الزهراءَ. بنتِ خاتَمِ
الانبياءِ عليهم جميعاً افضلُ الصلاةِ والسلام ألف سلامٍ وسلام
واستميحكُم عذراً عن الاطالة، واشكرُ الحضورَ لحسنِ الاستماع،
والقائمين بهذا الحفلِ التأبيني. واتقدم بتعازيِّ الى أسرةِ الشهيدِ،
ولا سيما سماحةِ المرجعُ الديني آيةِ اللهِ العظمى السيد صادق الحسيني
الشيرازي (مّدّ ظلُه)، وكلَّ الحضورِ على مشاركتِهم والسلامُ عليكم
جميعا ورحمةُ الله وبركاته.
التوقيع
: شاهد على المستقبل البعيد
|