الإتفاقية الأمنية: "بورتسموث" أمريكية في العراق!
نجاح
محمد علي
في الخامس عشر من يناير
عام 1948 وُقعت في ميناء بورتسموث البريطاني وعلى متن البارجة
البريطانية فكتوريا معاهدة بريطانية - عراقية، بزعم أنها تُعدل من
معاهدة عام 1930 الجائرة..
"معاهدة بورتسموث" شددت
لدرجة أكبر تبعية العراق لبريطانيا، وجعلت من العراق قاعدة
للإمبراطورية البريطانية، الا أن الممانعة الشعبية بقيادة المرجعية
الدينية يومذاك، أسقطت حكومة صالح جـبـر الذي وقع المعاهدة، وتراجعت
بذلك الحكومة العراقية "رسميا" عن معاهدة بورتسموث نزولا عند رغبة
الشعب، فسمحت بريطانيا لحلفائها من العرقيين بالعودة مجددا الى تعزيز
نفوذهم على إثر حرب أيار 1948 بين الدول العربية واليهود.فهل هي
بورتسموث جديدة ولكن بصياغة أمريكية، هذه الاتفاقية الأمنية العسكرية
بين العراق والولايات المتحدة بكل ما يجري حولها من حيل تكتيكية، بين
شد وجذب، وخضوع لأولياء النعمة والظهور أمام الملأ كوطنيين ومنها
ماتبرره الحكومة بزعمها أن الاتفاقية تخرج العراق من وصاية البند
السابع!؟.
وما لايعمله الكثيرون
(بمن فيهم الذين يرفضون الاتفاقية)، هو أن الحكومة العراقية تخلط بين
مسألة خروج العراق مـن البند السابع للامم المتحدة (الذي يضع العراق في
خانة الدول التي تمثل خطرا على السلم أو الأمن العالمي. ولأنه يهدد هذا
السلم وعليه يحتاج إلى ولاية منحها مجلس الأمن الى الولايات المتحدة)
وبين قضية عقد اتفاقية تجعل العراق مستعمرة أمريكية إلى وقت طويل غير
معلوم.
أليس من المضحك المبكي أن
يحتاج رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي إلى الولايات المتحدة المحتلة
للعراق لكي تقوم هي بإخراج العراق من البند السابع (أي من الوصاية
الأمريكية بتفويض أممي) إلى استعمار أمريكي بموافقة عراقية؟
وكما يجري باستمرار هو أن الحكومة العراقية هي التي تطلب، ومنذ
عام 2004 تمديد تواجد القوات الأجنبية دوريا وبمعدل مرتين في العام،
وأن مجلس الأمن الدولي، يؤكد مع كل تمديد أن تواجد القوات الأجنبية في
العراق هو بطلب وموافقة الحكومة العراقية التي لديها الحق في إنهاء
تواجدها متى مـا رغبت..؟!.
ويمكن القول هنا أن ما
يجري من مفاوضات هو ضحك على الذقون ليس إلا، ونوع من المماطلة السياسية
لأغراض تعبوية في الداخل، ولتحسين صورة الموظفين العراقيين العاملين
لدى السفير الأمريكي في بغداد، في ظل واقع يؤكد أن "إعلان المبادئ"
للاتفاقية جرى التوقيع عليه بالأحرف الأولى نهاية العام الماضي، بين
المالكي والرئيس الأمريكي جورج بوش في جلسة تلفزيونية مغلقة لـم تُعرض
تفاصيلها على العراقيين ، وحظيت بموافقة الأشخاص الخمسة الذين يترأسون
الكتل الرئيسة في العملية السياسية، وهو أمر أكده كلا من: نائب الرئيس
العراقي "السني عن جبهة التوافق" طارق الهاشمي، ونائب رئيس الوزراء
العراقي "عن التحالف الكردستاني" برهم صالح.
خلافات
ودية !
ويجب التوضيح أن
الاتفاقية تتألف من بنود تفصيلية، وورقة "إعلان المباديء" التي تحدد
الاطار العام للاتفاقية، وأن الضجة المثارة من بعض الأطراف العراقية ضد
الاتفاقية، هي ذر للرماد في العيون، ولا يعدو كونها تعكس ما يمكن
تسميتها بـ"خلافات ودية" حول البنود السيادية بين الحكومة العراقية
والولايات المتحدة، وهي جزء من سيناريو الإعداد الجيد قبل التوقيع على
الاتفاقية بزعم أنها "تحمي العراق من أخطار خارجية" (!) خصوصا وأن
خيارات الحكومة العراقية التي تعلن باستمرار حاجتها الى الدعم الأمريكي
للحفاظ على الأمن غير المستقر والمصالحة الوطنية الهشة، محدودة جدا رغم
الرفض الشعبي العارم المدعوم بموقف قوي من المرجعية الدينية
وربما يفسر ذلك الحملة التي قادها بشكل شبه منظم، مستشارون
بارزون لرئيس الوزراء، في إطار تعبئة الشارع العراقي للوقوف خلف
المفاوض العراقي، ودعمه في موقفه بشأن نقاط الاختلاف، وهي تتمحور حول
عدد القواعد العسكرية الدائمة، وحرية تحرك القوات الأمريكية وطبيعة
مهامها، وربما أيضا يشير ذلك إلى أن بعض المخلصين حقا داخل الحكومة،
يريدون فعلا "تحسين" بنود الاتفاقية بما لا يُظهر الحكومة مجرد دمية
ليس لها إلا التوقيع على هذه الاتفاقية، وتمرير قوانين تريدها واشنطن
مثل قانون النفط، وطبعا قبل الفراغ من الانتخابات الرئاسية الأمريكية،
وذلك لمنح الادارة الحالية في واشنطن نصرا طالما حلمت بتحقيقه منذ غزو
العراق 2003.
بين
حانة ومانة!
"بين حانة ومانة ضاعت
لحانا" .. مثل شعبي عراقي قصته باختصار أنّ رجلا كبيرا بالعمر تزوج من
امرأة صغيرة السن اسمها مناة فكان إذا ذهب إليها رأت الشيب في لحيته
فتقوم بنتفه وتقول له: هذا الشيب يظهرك كبيرا، وإذا ذهب إلى زوجته
الأولى المسنة واسمها حانة تقول له الشعر الأسود في لحيتك يُذهب عنك
الوقار وتنتفه ، واستمر الحال به هكذا حتى ذهبت لحيته كلها فلما نظر
إلى نفسه في المرآة قال: "بين حانة ومانة ضاعت لحانا".
حكومة المالكي تجد نفسها
اليوم بين "حانه ومانه"!، فهي تريد إرضاء الأمريكان والتوقيع على
الاتفاقية ، لكنها في الوقت نفسه لا تستطيع إغضاب ايران الرافضة جملة
وتفصيلا أن تطبق عليها الولايات المتحدة الحصار عبر سلسلة من القواعد
العسكرية تحاصرها في أفغانستان وأذربيجان وعموم منطقة آسيا الوسطى
والقوقاز مرورا بالخليج وانتهاء بالعراق
وترى حكومة المالكي أن التوقيع على الاتفاقية – دون مسوغات تبريرية -
من شأنه أن يفاقم الحرب بالوكالة التي تدور بين إيران والولايات
المتحدة حول من يكون صاحب النفوذ الأكبر في العراق.
رافضون
ولكن!
وأمام تصاعد أصوات الرفض
للاتفاقية لم يجد المسؤولون والسياسيون العراقيون المتواطئون في
التفاوض، بُدّا من الانضمام الى جبهة الرافضين وعلى رأسهم إيران التي
نسقت بشكل لافت مع القوى التابعة أو المؤيدة لها في العراق للتنديد
بالاتفاقية فقد تنوعت المعارضة الايرانية من
خلال تعدد التصريحات المناهضة والمنددة، إلا أن أبرز مافيها هو التحريض
على مقاومة الاتفاقية عندما دعا علي لاريجاني رئيس البرلمان الإيراني
الجديد، العراقيين إلى أن "يقاوموا بشجاعة الاتفاق كما قاوموا
الاحتلال"، بحسب قوله، مضيفا أن انسحاب المحتلين في إشارة إلى القوات
الأميركية "هو السبيل الوحيد لضمان أمن العراق".
أما أحمد خاتمي فقد انتقد
بعض النقاط - التي يبدو أن الاتفاقية التي لم يعلن عن بنودها لحد الآن
قد تضمنتها - ومن بينها احتفاظ القوات الأميركية بالإشراف على وزارتي
الدفاع والداخلية لعشر سنوات مقبلة، إضافة إلى عدم محاكمة العسكريين
الأمريكيين وموظفي الشركات العاملة لحساب الجيش الأمريكي.
حملة
إيرانية!
وكان لافتا جدا أن
الإيرانيين سبقوا "العراقيين" كثيرا في رفضهم للإتفاقية من واقع أن
النقاش حولها كان يدور في الأروقة الإيرانية أكثر منه داخل العراق صاحب
الشأن، لربما لأن إيران معنية - أكثر من الرسميين العراقيين - بمصالحها
وأمنها القومي، وقد بدت بالفعل أكثر اهتماما بهذه الاتفاقية من بعض
العراقيين، خصوصا حين يتعلق الأمر بالمكاسب الحزبية أو الطائفية التي
يحرص عليها الكثير من سياسيي العراق الجديد
ورغم أن بعض العراقيين، رأى في هذا الموقف الإيراني من الاتفاق تدخلا
في شأن سيادي داخلي يخص بلادهم، فقد تحركت طهران في خط معارضتها
الاتفاقية على أكثر من صعيد وبشكل منظم ونجحت في النهاية في فرض وجهة
نظرها على الكثير من السياسيين العراقيين ليعلنوا معارضتهم التدريجية
للاتفاقية بعد أن كانوا يروجون لها ويبررون التوقيع عليها بواقع الحال
في الكثير من دول المنطقة كتركيا ودول الخليج العربية ودول أخرى في
العالم مثل كوريا الجنوبية واليابان.
مطالب
عراقية!
اما الحكومة العراقية
التي ترى في تعهد الولايات المتحدة بالدفاع عن العراق ضد أي هجوم
خارجي، أمرا مفيدا جدا، غير أنها تريد أن تحوي الاتفاقية بنودا مثل
حماية الوضع الديمقراطي في العراق، وحماية النظام الحاكم من انقلابات
عسكرية، في وقت أكدت تسريبات أمريكية أن بوش يريد أن يتم التوقيع على
الاتفاقية قبل نهاية يوليو القادم فيما تشير معلومات من مصادر عراقية
أن السقف الزمني محدد بيوم 31 ديسمبر المقبل، وهو موعد انتهاء تفويض
الأمم المتحدة الذي ينظم وجود القوات الأمريكية في العراق
وباعتراف برهم صالح نائب الرئيس الوزراء (عن الأكراد) فإن
واشنطن تلوح لبغداد في حال عدم توقيعها الإتفاقية، بتجميد 50 مليار
دولار من العملة الأجنبية والأصول المالية العراقية في الخارج، وبابقاء
شبح العقوبات الإقتصادية والديون التي ينوء بثقلها العراق منذ العهد
السابق، قائما فهل ستضيع بين - حانة ومانة -
مصالح العراقيين وسيادتهم التي لم يجدوا لها تفسيرا مقنعا منذ عقود؟!
وكل ذلك
بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا ودون تعليق.
المصدر:swissinfo-10-6-2008
|