الفقيه السيد محمد رضا الشيرازي (قدس) مضى شهيداً

 

السيد عدنان هاشم الهاشم

 

قال تعالى: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾[1]  صدق الله العلي العظيم. وورد عن أميرالمؤمنين علي:

النفس تبكي على الدنيا وقد علمت=ان السلامة فيها ترك مافيها

لا دار للمرء بعد الموت يسكنها=إلا التي كان قبل الموت بانيها

فان بناها بخير طاب مسكنها=وان بناها بشر خاب بانيها

في صبيحة يوم الأحد الموافق 26/5/1429هـ فقد العالم الإسلامي أنسانا عظيماً وعالماً ربانياً قل نظيره فقد كان الأنموذج الراقي للعلم والعلماء وللقيم الإنسانية الحقة وبفقده حلّت الخسارة الفادحة المؤلمة للعائلة الكريمة حيث خسرت أحد عظماءها الكبار وفقدت الحوزات العلمية برحيلة أحد معلميها الاجلاء..

وتحسّر على فراقه وبكى الروحانيون والعارفون الورعون فقد فقدوا أباهم واسوتهم..وانهدم من صرح المرجعية والزعامات الدينية عمد شامخ وتصدع جدار الاسلام وثلم على فراقه ثلمة لا تسدها شيء وأخص بالذكر هنا عمه المرجع العزيز آية الله السيد صادق الشيرازي أدام الله ظله الوارف ومتعنا بطول بقاءه حيث يعتبر الشيهد الراحل عضده وساعده الايمن. وقد قال عمه سماحة المرجع في تأبينه «كان أملي أن يقود المسيرة من بعدي خدمة لمستقبل الاسلام».

وأود في هذه التأبين المختصر أن أعرّف القارئ العزيز ببعض الجوانب والشواهد الهامة في شخصية الفقيد «قدس» كما رأيته وعرفته عن قرب وأقول: انه كان عنواناً ومصداقاً حقيقياً للقلة من أولائك الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه. هذا أولاً.

ثانيا: كان مثالا حياً للعالم الرباني الذي اذا رأيته ذكرك بالله والآخرة والذي أشار اليه الرسول الاكرم في الحديث المروي عنه حيث قال : «قال الحواريون لعيسى : يا روح الله! من نجالس؟ قال: من يذكركم الله رؤيته، ويزيد في علمكم منطقه، ويرغبكم في الآخرة عمله»[2].

ثالثا: كان القيادة العلمية والاخلاقية والقدوة الحسنة بما تعنيه الكلمة من معنى. ولست هنا بصدد عرض ما رأيت أو ما سمعت في ذلك فكل من زاره في قم من عوام الناس فضلا عن العلماء الاجلاء قالوا ذلك في شخصه ومقامه الكريم..والمجال لا يتسع لذلك.

رابعا: كان انموذجاً حياً للورع والزهد والعبادة والتقوى ساعيا لاكمال فضائل نفسه وروحه وكان حقاً أحد أولئك المتقين ولا يمكنني حقيقة وصفه الا بما وصف به جده أمير المؤمنين علي  المتقين بقوله: «المتقون فيها هم أهل الفضائل. منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد ومشيهم التواضع. غضوا أبصارهم عما حرم الله عليهم، ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم. نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء. ولولا الأجل الذي كتب لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقا إلى الثواب، وخوفا من العقاب. عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم، فهم والجنة كمن قد رآها فهم فيها منعمون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذبون. قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة. وأجسادهم نحيفة، وحاجاتهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة. صبروا أياما قصيرة أعقبتهم راحة طويلة. تجارة مربحة يسرها لهم ربهم. أرادتهم الدنيا فلم يريدوها. وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها.. يمزج الحلم بالعلم. والقول بالعمل. تراه قريبا أمله. قليلا زلله. خاشعا قلبه. قانعة نفسه. منزورا أكله. سهلا أمره. حريزا دينه ميتة شهوته. مكظوما غيظه. الخير منه مأمول، والشر منه مأمون... يعفو عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه. بعيدا فحشه. لينا قوله. غائبا منكره. حاضرا معروفه. مقبلا خيره مدبرا شره. في الزلازل وقور، وفي المكاره صبور. وفي الرخاء شكور. لا يحيف على من يبغض. ولا يأثم فيمن يحب. يعترف بالحق قبل أن يشهد عليه.. وإن بغي عليه صبر حتى يكون الله هو الذي ينتقم له. نفسه منه في عناء. والناس منه في راحة. أتعب نفسه لآخرته، وأراح الناس من نفسه» نهج البلاغة - خطب الإمام علي .

يا خادم الجسم كم «تسعى» «تشقى» بخدمته=لتطلب الربح فيما فيه خسران

أقبل على النفس واستكمل فضائلها=فانت بالنفس لا بالجسم انسان

خامسا: لقد عاش سماحته غريباً عن الأوطان كأجداده الأطهار  فبعد تلك المرحلة التي عاشها الراحل الشهيد في كربلاء حيث مسقط رأسه انتقل بعدها خارجاً مجبراً إلى دولة الكويت بصحبة أبيه آية الله العظمى السيد محمد الشيرازي «قدس» ومنها إلى قم المقدسة. فاستحق الفقيد بهذه الغربة والجهاد في طلب العلم وسام شرف اسمه الشهادة ففي الحديث المروي عن الرسول الأكرم محمد  قوله: «من مات غريبا مات شهيدا.. من مات في طلب العلم مات شهيدا...»[3] .

وجاء في كتاب تحرير الأحكام- ج 1 للعلامة الحلي «قدس» قول النبي الأكرم محمد: «من خرج من بيته يلتمس بابا من العلم لينتفع قلبه ويعلمه غيره، كتب الله له بكل خطوة عبادة ألف سنة صيامها وقيامها، وحفته الملائكة بأجنحتها، وصلى عليه طيور السماء وحيتان البحر ودواب البر، وأنزله الله بمنزلة سبعين صديقا، وكان خيرا له إن لو كانت الدنيا كلها له، فجعلها في الآخرة».

وفي الختام أرفع أسمى آيات العزاء لمقام آيات الله العظام وفي مقدمتهم آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي والعائلة الكريمة وأخص العلماء منهم وأسأل الله إن يجبر مصابهم جميعاً وان يحسن عزاءهم وأن يلهمهم الصبر والسلوان ﴿ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ • أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ ﴾.

فالسلام عليك أيها السيد العارف بالله يوم ولدت ويوم مت ويوم تبعث حيا.. حشرك الله مع أجدادك الطاهرين..إنا لله وانأ إليه راجعون.. إلى روحه والى أرواح أسلافه من موتى المؤمنين والمؤمنات صيما موتى العلماء رحم الله من قرأ الفاتحة..

........................

[1]  سورة الأحزاب: 23.

[2]  تحرير الأحكام - العلامة الحلي - ج 1.

[3]  شرح اللمعة - ج 1 - الشهيد الثاني «قدس».