الحِكمة
السياسية في التسامح السياسي
جميل عودة
أكثر بلدان العالم عندما تنتقل
فيها السلطة من حكوماتها الاستبدادية إلى حكوماتها "الديمقراطية" تشهد
اضطرابات سياسية واجتماعية وثقافية؛ لأن التحول من الديكتاتورية إلى
الديمقراطية والحرية في كثير من الأحيان لا يتوقف عند حدوده الوسطى
وإنما ينطلق بالاتجاه المعاكس تماما، وهي أقصى ردة فعل متوقعة من شعوب
يحكمها حكامها بالقوة المفرطة.
وتواجه السلطة "الديمقراطية"
الجديدة في البلدان المتحولة جملة من التحديات ليس على المستوى
الاجتماعي الذي يعني لجوء بعض الجماعات إلى حالات العنف والفوضى، بل
أيضا على المستوى السياسي والقرار السياسي الجديد الذي يُراد له أن
يكون أداة للإصلاح وليس وسيلة للانتقام.
فكيف يمكن أن تعالج السلطة
المنتخبة ملفات بعضها يريد منها الرجوع إلى المربع الأول وهو يعني من
بين ما يعني الحفاظ على مكتسبات قيادات النظام السياسي المباد وتعزيز
نفوذها، وبعضها يطالب بالمزيد من قرارات رد الاعتبار ذات السمة
"الانتقامية" وتضيق الخناق على رموز الماضي وعناصره، ناهيك عن أن
الحرية التي تفسحها الديمقراطية تمثل فرصة للعصابات والجماعات المسلحة
لتحقيق مأربها في النهب والسلب وهتك الحرمات في دولة لم تستكمل منظمتها
القانونية والأمنية، في مقابل رغبة السلطة في تأسيس نظام عادل ومستقر
ومستقبل واعد.
إن تجربة العراق ونظامه
السياسي وحكومته المنتخبة بعد 2003 واحدة من تجارب العالم التي تحتاج
إلى مراجعة دقيقة بعد مرور خمس سنوات سميت بـ"السنوات العجاف" تشبيها
لها بسنوات مصر أيام يوسف الصديق (ع) وهي تحد خطير لنجاح أو فشل
التجربة الديمقراطية في العالم العربي والإسلامي، فهي مبدئيا يمكن أن
تكون نموذجا يحتذي به، كما يريد لها الرئيس الأمريكي جورج بوش دبليو،
ويمكن أن تكون نكسة لشعوب المنطقة في تحقيق حلمها في حياة ديمقراطية
حرة ومستقلة تتداول فيها السلطة بالوسائل السلمية من خلال الانتخابات
النزيهة والشفافة.
هناك مجموعة من الحِكم
السياسية التي يمكن أن نستقيها من التجربة العراقية وهي تعيش ذكرى
سنواتها الخمسة، الحكمة الأولى هي أن الشعوب في حركتها نحو المستقبل
تبحث عن سلطة صالحة تأتي برغبتها وإرادتها، وهي وإن صبرت ولكنها لم تعد
تصبر كثيرا على حكوماتها المستبدة و"المتفرعنة" فالشعوب المعاصرة لديها
خزين من المعرفة السياسية التي وفرتها لها الماكينة الإعلامية المتطورة
والسريعة، وهي تنظر بعين الارتياح إلى الشعوب التي تحكم نفسها بنفسها
ولها قدرة على إحداث التغيرات السياسية في هرم السلطة متى ما شعرت
بحاجتها إلى هذه التغيرات.
فالعراقيون كلهم حتى أولئك
الذين كانوا سلاطين وحاكمين في العهد السابق اعترفوا بأنه لا يمكن
للعراق بعد 2003 أن يحكم بالقوة المفرطة، وأن استبدادية الحكومة
ودكتاتوريتها لم توصلها إلا إلى زوالها واضمحلالها إلى الأبد، فلو قُدر
للبعثين العراقيين أن يحكموا العراق مجددا- وهو قدر لا نتمناه- فلن
يفكروا بالحكم البعثي بالطريقة التي حُكم بها العراق إبان صدام الحسين،
ولو فكروا فلن تكون الأوضاع الاجتماعية والسياسية والثقافية في العراق
تساعدهم على ذلك البتة.
الحكمة الثانية التي نأخذها من
التجربة العراقية في سنتها الخامسة هي أن مبادئ الديمقراطية والحرية
وتداول السلطة سلميا، وحكومة الأكثرية واحترام الأقلية، وحرية تأسيس
الأحزاب وممارسة العمل السياسي، ومنظمات المجتمع المدني لا يمكن أن
تصدر من دولة ديمقراطية إلى أخرى غير ديمقراطية على طريقة تصدير
المعلبات إلى دول الخليج والعراق؛ لان الديمقراطية نبتة تحتاج إلى
ظروف عيشها ونموها، وما لم تتوفر القابلية الثقافية لدى الشعوب على
تقبلها لن تتنفس الديمقراطية؛ وربما تتحول في لحظة حرجة كاللحظة الحرجة
التي يعشها العراق إلى عبء تنوء بحمله الفئات الاجتماعية المستضعفة
والتي تدفع فاتورته على شكل ضعف الأمن، وفقدان الخدمات العامة، وتوسع
نشاط العصابات والجماعات المسلحة.
إن الانتقال السياسي من ظل
حكومة دكتاتورية إلى فئ حكومة تأخذ بالنهج الديمقراطية له ثمن لابد أن
تدفعه الشعوب الطالبة للحرية والاستقلال، ولكن هذا الثمن له حدوده وله
محدداته الزمنية، والعراقيون من الأول كانوا يدركون جيدا أن رغبتهم
بالديمقراطية كما أنها ستأخذهم إلى إنفاق مظلمة اقلها الفوضى كانت
–أيضا- هذه الرغبة تتعارض مع القوى الإقليمية والدولية الراعية للأنظمة
المستبدة في العراق لاسيما نظام صدام حسين، وبالتالي، فان العراقيين
وضعوا أيدهم على قلوبهم عندما دخلت قوى أجنبية إلى بغداد لـ"تمنحهم
الحرية والديمقراطية" ولكن أن تستمر فاتورة الديمقراطية إلى خمس سنوات
فهذا ما لم يتوقه أحد.
الحكمة الثالثة من الحِكم
السياسية التي تشكل عبر للشعوب وللشعب العراقي بالذات، هو أن الصراعات
والنزاعات بين الطوائف العراقية بعنوانيها السنية والشيعة والكردية
والتركمانية وغيرها لن تكون مفتاحا للحل ولا جزء منه، إنما تشكل عبئا
إضافيا لا تنؤ به الأجيال الحالية بقدر ما تتحمل آثاره الأجيال
اللاحقة، فإذا ما قدر للعراقيين أن ينقسموا إلى مجموعتين أو أكثر
مجموعة تطالب بإرثها التاريخي في الحكم والسلطة والهيمنة، ومجموعة أخرى
تعيش هاجس الخوف والظلم الذي أصابها من سياسيات الحكومات الماضية، فان
العراق لن يشهد ولو بعد مائة سنة من الآن استقرار سياسيا أو اجتماعيا.
وبالتالي، فكلما تمعنت في
القضية العراقية أجد أن العراقيين ليس أمامهم إلا طريقا واحدا يحفظ لهم
وطنهم ويضمن استقرارهم ويوفروا لأجيالهم راحة البال، هذا الطريق هو
طريق التسامح والعفو والصفح، والتغاظي عن الماضي، والعمل من أجل
المستقبل في إطار حكومة الأكثرية واحترام حقوق الأقلية.
ففرصة التسامح السياسي مازالت
سانحة للقوى السياسية الممثلة للمكونات الاجتماعية العراقية، وهي قابلة
للتطوير والتفعيل ومد جسورها على المستوى الاجتماعي والثقافي من أجل
تعميمها على نطاق واسع وإلا فتجربة الخمس سنوات ستكرر نفسها خمس سنوات
أيضا.
إن من أسس السلام في الإسلام
الدعوة إلى التسامح بمختلف صوره، وفي القرآن الحكيم آيات متعددة حول
هذا الأمر، مثل قوله سبحانه وتعالى:
لاّ
يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ
وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرّوهُمْ وَتُقْسِطُوَاْ
إِلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ
إِنّمَا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدّينِ
وَأَخْرَجُوكُم مّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَىَ إِخْرَاجِكُمْ أَن
تَوَلّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلّهُمْ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ
سورة الممتحنة: 8-، ومن الواضح أن الآية لا تخص أهل الكتاب بل تشمل كل
من لم يكن مسلماً. فهل من يتعظ؟
وكل ذلك بحسب
رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا ودون تعليق.
المصدر:
shrsc
|