نفاق الغرب سيذهبها أدراج الرياح...قيم الحداثة مهددة بالنكوص الجماعي
د. برهان غليون
نفاق الغرب: نكوص عن قيم الحداثة
بيد أن ما
كانت ثقافة القرون الوسطى السياسية تختزنه، في كل المجتمعات، من إرث
الحيلة والاحتيال لن يزول من الوجود. إنه سوف ينمو ويتجمع ليتحول إلى
مادة أساسية في نظام توجيه الممارسة التي طبعت ولا تزال تطبع علاقة
الدول الغربية بالمجتمعات والبلاد الأخرى. فعلى هذا الإرث من القيم سوف
تستند الممارسة الاستعمارية التي أوقعت بالشعوب، وأدخلتها في شراكها،
وأخضعتها لمصالحها وأهدافها، من دون أن تتخلى لحظة في خطابها، أمام
الآخرين أو أمام جمهورها، عن مديح الحرية والمساواة والعدالة
الإنسانية. وفي قلب هذه الممارسة القائمة على الخداع وبموازاتها يتحول
النفاق إلى ممارسة كاملة، تقول غير ما تفعل، وتعلن غير ما تضمر، وتعد
بغير ما تقرر. وهذا وحده ما يفسر كيف أمكن لأصحاب المشروع الاستعماري
أن يجمعوا بين خطاب الإنسية وتلك الممارسات الوحشية التي رافقت وضع
اليد على أراضي القارات المختلفة، وتحويل شعوبها على مدى عقود طويلة،
إلى عبيد أو ما يشبه ذلك، أي أن يجمعوا بين منطق الدفاع عن تحرر
الإنسانية وانعتاقها والسقوط في بربرية العنصرية والإبادة الجماعية.
لم أذكر ذلك
لأكشف عن أحد مظاهر العطب والنقص الذي لا يزال يميز الحداثة ويفسر موجة
الاحتجاج والارتداد العنيفة عليها وعلى قيمها، في مناطق واسعة من
المعمورة، وليس في البلاد الإسلامية فحسب، وأعني بهذا العطب استمرار
قيام العلاقات الدولية بين المجتمعات على أسس "ميكيافيلية"، تضعف من
صدقية قيم الحرية والمساواة والعدالة التي تؤسس جوهر الحداثة فحسب. ولم
أذكره أيضاً لأشير إلى المأساة التي نجمت عن انتقال هذا الإرث
الاستعماري نفسه إلى النخب المحلية السائدة في البلاد التي استعمرت
سابقاً، وتبنيها له ولقيمه بالجملة. إن ما ذكرني به هو ما جرى ويجري في
غزة ومن حول مأساتها، والذي يشكل هو نفسه امتداداً لما جرى في المشرق
العربي من ممارسات أدخلت الشرق الأوسط بأكمله في متاهة لا مخرج منها،
وتهدد بتقويض أسس السلام العالمي نفسه. ولا أقصد هنا الإشارة إلى
السياسات الاستعمارية القديمة التي لا تزال هنا راهنة، وإنما إلى
الطريقة التي نظر بها الغرب، وأعني هنا بالغرب الحكومات والرأي العام
معاً، ولا يزال ينظر بها إلى المسألة الفلسطينية، والتي نشأت من رميه
بنتائج سياساته العنصرية تجاه اليهود على العرب، وعلى الفلسطينيين منهم
بشكل خاص.
كيف تعلن
الحكومات الأوروبية تأييدها للحقوق الفلسطينية، دون أن تعاقب إسرائيل،
بل تحتفي بها وتجعلها ضيف الشرف في المناسبات الدولية؟!
فكيف نفسر،
من دون هذا النفاق، نجاح إسرائيل التي ما كان من الممكن أن تقوم ولا أن
تبقى، باعتراف قادتها أنفسهم، من دون احتضان الغرب ودعمه السياسي
والأخلاقي والعسكري، في المراوغة المستمرة وتحدي "إرادة" الغرب الذي
يدعي الالتزام بالسلام والتسوية العادلة للقضية الفلسطينية؟ وكيف تعلن
الحكومات الأوروبية تأييدها للحقوق الفلسطينية، كما تقول، دون أن تتخذ
أي عقوبات ضد الدولة العبرية، بل على العكس من ذلك، تحتفي بها في
المناسبات الدولية وتجعلها، كما هو الحال هذا الشهر في فرنسا، ضيف
الشرف على معرض الكتاب العالمي، رغم ممارساتها اللاإنسانية، حسب عبارة
منظمات حقوق الإنسان الدولية، في غزة وغيرها من المناطق الفلسطينية؟
كيف نصدق أنه، لا الولايات المتحدة ولا أوروبا ولا روسيا ولا غيرها من
الدول الكبرى الصديقة والقريبة لاسرائيل، وكلها تدعي الإخلاص لقيم
الحرية والعدالة والمساواة، والصداقة للعرب والمسلمين أيضاً، لا تملك
أن تتخذ أي إجراء لثني إسرائيل عن ممارساتها العنصرية وحثها على الدخول
في منطق السلام والتسوية السياسية؟
ما الذي
يمكن أن نحسه غير الإحباط، أو أن نراه في هذه المواقف غير النفاق؟ وعود
تتكرر ولا تنفذ منذ قرن، ومبادرات سلام، أميركية أو أوروبية، تتوالى
دورياً دون جدوى، ومؤتمرات دولية تعقد وتموت دون أن تكترث إسرائيل
لقراراتها، وموائد حوار تنظم من دون ثمرة ولا إنجاز، ومشاورات عالمية
لا تتوقف، ومباحثات تعددية أو ثنائية يقوم بها مبعوثون للشرق الأوسط لا
تثير حتى فضول الصحافة المحلية، ومفاوضات لا تنتج غير البيانات المنمقة
التي لا تهدف إلا إلى خداع العرب وتسكين غضب الرأي العام! إلى متى
سيحتمل العرب مهزلة السلام الموعود، الذي أخذ الغرب ثمنه سلفاً بدمج
الدول العربية في الحرب ضد الإرهاب، ولهاث حكوماتهم وراء سراب حلول
ومبادرات، يعرف الجميع أن هدفها الفعلي ليس هدفها المعلن، وهي لا تفيد
إلا في إعطاء إسرائيل مزيداً من الوقت لتحقيق أهدافها، مع مراعاة مصالح
النظم العربية وحفظ ماء وجهها، وتصبير الفلسطينيين على جراحهم وآلامهم،
بانتظار أن تتحقق الغاية، ويصبح لا مناص لهم من الاعتراف بعدم وجود أية
إمكانية لإقامة دولة فلسطينية بالمعنى الحقيقي للكلمة، والقبول نتيجة
ذلك بما قسم لهم، أي بمجموعة من المعازل المقطوعة والمعدمة داخل
"إسرائيل الكبرى"، حتى لو أطلق على هذه المعازل اسم دولة، وربما
جماهيرية عظمى.
ثم ما
الفائدة من ترديدنا التحليلات نفسها، والتذكير بالمسؤوليات، والتحذير
من النتائج، مادامت سياسة الخداع والكذب والغش مستمرة، وطالما لم تدرك
الحكومات ورأيها العام، في الغرب والدول الصناعية الكبرى والعالم أجمع،
أن قيم الحداثة الإنسانية ليست نهائية ولكنها قابلة للارتداد، وأن
خيانتها المستمرة، على أي مستوى من مستويات العلاقات الاجتماعية
والدولية، ومن قبل أي طرف كان، تقود لا محالة إلى النكوص الجماعي عنها،
بما يعنيه ذلك من تعميم مشاعر الشك والخوف وقيم العنصرية والعدوان،
والتهديد بتوسيع دائرة حرب عالمية بدأ فتيلها يشتعل بالفعل، منذ الآن،
في أكثر من بقعة من بقاع المعمورة.
وكل ذلك بحسب المصدر المذكور نصا ودون
تعليق.
المصدر:alitiihaad-12-3-2008
|