روسيا والولايات المتحدة...هل سنشهد حرب باردة أخرى؟

 

محمود عوض

 

مناورات وتقلصات وانتخابات

مع أن انتخابات الرئاسة الأميركية لا يزال أمامها ثمانية أشهر قبل أن تجرى فعليا في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل إلا أن مراحلها التحضيرية تشغل الإعلام العالمي من الآن، وحتى من أسابيع سابقة. هي مرحلة التصفيات الداخلية للمرشحين في كل من حزبي السلطة والمعارضة. وإذا كنا عرفنا من الآن أن جون ماكين فرصته أكبر ليصبح مرشحا للرئاسة عن الحزب الجمهوري الحاكم، فإن خيار الحزب الديموقراطي لا يزال متأرجحا بين هيلاري كلينتون وباراك أوباما. العالم اعتاد سابقا الاهتمام بالحملات الانتخابية للرئاسة الأميركية خصوصا في مرحلتها الساخنة الأخيرة. لكن الجديد هو أن العالم أصبح يتابعها منذ مرحلة مبكرة بحيث أصبح السباق الحزبي (وليس الرئاسي) في هذه الولاية أو تلك (وليس على المستوى القومي) هو أيضا محل اهتمام.

بالطبع هذه ميزة مجانية تحصل عليها أميركا من العالم بسبب محورية وضعها في شؤونه، خصوصا منذ انتهاء الحرب الباردة. فبعد تفكك الاتحاد السوفياتي إلى 15 دولة منفصلة أصبحت أميركا تحتكر لنفسها عرش القوة العالمية لمرحلة انتقالية. اقتصادها هو الأكبر في العالم وآخر تأثيراته هي التداعيات التي تعاني منها دول عديدة نتيجة لضعف الدولار الأميركي وحالة الركود الاقتصادي الداخلي أخيراً. ميزانيتها الدفاعية أكبر من مجموع ميزانيات كل دول العالم، وسفنها البحرية تجوب كل المحيطات وقواتها العسكرية لها خمس قيادات إقليمية حول العالم أضيفت إليها مؤخرا قيادة إقليمية سادسة خاصة بإفريقيا. فإذا أضفنا إلى ذلك قيادتها العسكرية لمنظمة حلف شمال الأطلسي ـ وتضم 26 دولة ـ فإن هذا يعني عمليا أنها تقود أكبر تحالف عسكري في التاريخ. تحالف نشأ أساسا في العام 1949 من 12 دولة لهدف ثلاثي محدد هو: إدخال أميركا في أوروبا وإخراج الاتحاد السوفياتي من أوروبا وكبح جماح ألمانيا. ومنذ سنة 2001 غيرت أميركا من طبيعة الحلف ومسرحه الميداني بما جعل له قوات مشاركة في أفغانستان وقوات أخرى في العراق وإن تكن لدول فردية، وقوات أخرى في بقايا يوغوسلافيا السابقة.

في يوغوسلافيا تحديدا حرصت أميركا مبكرا على أن تجني ثمار تفكك الاتحاد السوفياتي وانزلاقه إلى هاوية الضعف والتحلل. للتاريخ هنا إيماءات موحية. فحينما أوشكت الحرب العالمية الثانية على الانتهاء في المسرح الأوروبي وأصبحت نهاية ألمانيا النازية في الأفق القريب اجتمع الثلاثة الكبار في «يالتا» لاقتسام الغنائم. الثلاثة كانوا الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت والزعيم البريطاني ونستون تشرشل والسوفياتي جوزيف ستالين. بعد الاتفاق على تقسيم مناطق النفوذ عبر قارة أوربا بين الشرق والغرب.. بقيت حالة يوغوسلافيا. وجه اللبس هنا هو أن المقاومة ضد الاحتلال النازي شكلها الشيوعيون أساسا بينما أميركا وبريطانيا وفرتا لهم الدعم والإمدادات. إذن لمن تصبح يوغوسلافيا بعد الحرب.. للشرق أو الغرب؟ حسب مذكراته يقرر لنا الزعيم البريطاني ونستون تشرشل أنه توفيرا لوقت الترجمة مع جوزيف ستالين فإنه ـ أي تشرشل ـ تناول ورقة بيضاء وكتب عليها بالقلم الرصاص رقمين اثنين هما: 50 في المئة ـ 50 في المئة بمعنى أن يتقاسم الشرق والغرب النفوذ مناصفة في يوغوسلافيا ما بعد الحرب فلا تصبح خالصة لأي منهما. لقد مرر تشرشل الورقة أولا إلى الرئيس الأميركي روزفلت فأومأ برأسه موافقا، ودافعا بالورقة إلى جوزيف ستالين الذي هز رأسه هو الآخر موافقا. هكذا تحدد مصير دولة يوغوسلافيا.. بهز الرأس.

في العام 1989 كان لابد من تغيير المعادلة التي عاشت بها يوغوسلافيا منذ 1945. وهكذا بغير مقدمات أعلن الرئيس اليوغوسلافي سلوبودان ميلوسيفيتش ـ صاحب العلاقات الأميركية النافذة من قبلها ـ إلغاء الحكم الذاتي المقرر لكوسوفو حسب دستور الاتحاد اليوغوسلافي القائم منذ 1947 واستمر محترما طوال رئاسة جوزيف بروز تيتو. كم تلك الشرارة بدأ تفكيك يوغوسلافيا الاتحادية قطعة قطعة من خلال حروب دامية ومآس مروعة جرى خلالها التلاعب بكل شيء من الدين إلى المذهب إلى القومية. وفي إحدى المراحل جرى التركيز على مسلمي البوسنة والهرسك حتى يتم استنهاض دول مسلمة لمساعدتهم بالمال والسلاح، لكن تحت إشراف ورقابة أميركية. في النهاية لم يتبق من الاتحاد اليوغوسلافي سوى جمهورية صربيا. وأخيراً قررت أميركا وبضع دول قليلة الاعتراف باستقلال إقليم كوسوفو عن صربيا. لم تكن كوسوفو (ويسميها أهلها: كوسوفا) تمتلك أي من مقومات الاستقلال، فسكانها أقل من مليونين و400 ألف ومواردهم محدودة تماما وأصلهم الألباني لن يساعدهم على الاتحاد مع ألبانيا المجاورة الفقيرة أصلا. لنفس هذه الأسباب بالضبط ستظل كوسوفو المستقلة الجديدة محمية أميركية من تحت غطاء حلف شمال الأطلسي، وهي آخر خطوة لإلغاء الصيغة الأصلية التي قامت بها يوغوسلافيا الحديثة بهز الرأس من روزفلت وستالين وباقتراح من تشرشل. فإذا نحينا المشهد في البلقان جانبا نجد أنه بالرغم من أن الحرب الباردة انتهت منذ سنة 1989 على الأقل، وبالرغم من أن روسيا الحالية هي دولة «مسخوطة» من بقايا الاتحاد السوفياتي السابق، فإن أميركا مستمرة في محاصرة موسكو حتى في طبعتها المختصرة الجديدة. وهي تفعل ذلك سواء مباشرة أو مرتدية قبعة حلف شمال الأطلسي. لماذا تتسع أميركا بحلف شمال الأطلسي شرقا باتجاه روسيا؟ لماذا تدفع كلا من بولندا وتشيكيا لاستضافة نظام صاروخي أميركي جديد مضاد للصواريخ؟ لماذا تحث كلا من جمهوريتي جورجيا وأوكرانيا على التقدم لعضوية حلف شمال الأطلسي. الشيوعية وكارل ماركس وفلاديمير لينين جرى دفنهم دفعة واحدة في 1989. لكن أوكرانيا تحديدا يعني استقلالها إلغاء خمسمئة سنة من التاريخ الروسي، وانضمامها إلى حلف عسكري يقوده الخصم المنافس يعني أن تصبح روسيا أضعف وأكثر انكماشا مما آلت إليه على أيدي ميخائيل غورباتشوف وبوريس يلتسن. وهذا بحد ذاته انقلاب فادح في ميزان القوى أول من يدرك فداحته هو المؤسسة العسكرية الروسية لأسباب عديدة. أولها أن الأرض الروسية تعرضت خلال قرن ونصف إلى ثلاث غزوات كبرى اقتحمتها من أوروبا ووصلت إلى أبواب موسكو ذاتها. في حالة نابوليون بونابرت كانت الطبيعة هي التي أنقذت روسيا. في حالة ألمانيا القيصرية كان المنقذ هو تنازلات فادحة قدمها لينين وفي ذيله الشيوعية. في حالة هتلر وألمانيا النازية كان الثمن هو عشرين مليون قتيل روسي. وحينما أصيبت المؤسسة العسكرية في موسكو بالذهول من التنازلات المروعة التي يقدمها ميخائيل غورباتشوف إلى أميركا والغرب، وسماحه بالانسحاب العسكري من أوروبا الشرقية مقابل قروض من ألمانيا (الغربية) يشتري بها لشعبه سكائر أجنبية، لم يجد ماريشال بارز في تلك المؤسسة حلا سوى أن يطلق النار على نفسه منتحرا في مكتبه.

ربما يفسر هذا جزئيا حرص فلاديمير بوتين في السنوات القليلة الأخيرة على رد الاعتبار إلى تلك المؤسسة من خلال أخذ همومها في الاعتبار. منذ شهر آب (أغسطس) الماضي مثلا أعاد بوتين إلى الطائرات الاستراتيجية الروسية حقها السابق في التحليق بالأجواء الدولية. في البداية علقت وزارة الدفاع الأميركية على هذا التطور باستهزاء قائلة «إنها طائرات استعراض قديمة ولا قيمة لها. في الأشهر الستة التالية استمرت تلك الطائرات في مهمتها الجديدة (القديمة) بحيث لم تترك بقعة واحدة في العالم لم تحلق فوقها، وذلك في إطار إعادة روسيا بناء قواتها الإستراتيجية المسلحة التي كانت توقفت عنها تماما منذ منتصف سنوات الثمانينات في عهد ميخائيل غورباتشوف. وفي شهر كانون الأول (ديسمبر) الماضي تغير رد الفعل الغربي، فصدرت الأوامر للطائرات البريطانية والنرويجية بمطاردة تلك الطائرات الروسية. هي لم تطاردها وإنما فقط حلقت بجوارها وتبادل الطيارون من الطرفين التحيات من الجو بالإشارة. أما على الأرض فقد كان الموقف مختلفا.

فمثلا في التاسع من الشهر الماضي اقتربت طائرتان روسيتان استراتيجيتان من حاملة الطائرات النووية الأميركية «نيميتس» في المحيط الهادي بالقرب من السواحل اليابانية. واقتربت إحدى الطائرتين من حاملة الطائرات الأميركية حتى أصبحت على ارتفاع ستمئة متر فقط حسب تقديرات الرادارات الأميركية. وأصيب طاقم الحاملة الأميركية بحالة شديدة من الرعب والفزع جعلتهم يطلقون صفارات الإنذار. بعدها جرت اتصالات ساخنة وسريعة بين واشنطون وموسكو للاستفسار. الروس أجابوا بأن ما جرى أمر عادى ومجرد تدريبات على الانخفاض والارتفاع. لكن لماذا بالتحديد الانخفاض فوق حاملة الطائرات الأميركية.. ولماذا التقاط الصور لها؟ العسكريون الروس ردوا بتساؤل مضاد: لماذا ينزعج الأميركيون منا الآن بينما أميركا تنشر منظومتها الصاروخية الجديدة في أوربا على مسافة 150 كيلومترا من حدودنا؟ على الأقل طائراتنا كانت تحلق في أجواء دولية والحاملة الأميركية كانت في مياه دولية.. وهذه وتلك ليست حكرا على أحد.

هناك أسئلة عديدة هنا: لماذا يفعل الروس ذلك؟ لماذا الآن؟ وما الهدلم يكن الوصف الصحيح هو «التهويش» فموسكو نفسها لم تكن ي التي أعلنت تلك الوقائع. كذلك لم يكن خطأ في الحسابات: فبوتين نفسه أول من يدرك أن روسيا ليست هي الاتحاد السوفياتي. لكن في ما يبدو فإن بوتين ـ الذي جاء إلى السلطة أصلا خلفا لبوريس يلتسن ـ قد تعلم في سنوات قليلة بضع دروس. تعلم أولا أن انهيار الاتحاد السوفياتي بدأ من أعلى. وتعلم ثانيا أن العقيدة الشيوعية استنفدت غرضها ولم تعد صالحة لعصر جديد مخالف. وتعلم ثالثا أن الضعف العسكري يمكن أن يتسبب في هزيمة الدولة، لكن الاقتصاد القوي هو الذي يستطيع تحويل الهزيمة إلى نصر. أما العكس فهو مستحيل. الضعف الاقتصادي لا يهزم الدولة فقط بل يحول الهزيمة العسكرية إلى قدر ومصير نهائي.

وكل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا ودون تعليق.

المصدر:daralhayat-9-3-2008