بين الواقع والخيال :
دعوة كبير أساقفة الكنيسة الإنجليكانية لتطبيق بعض أحكام الإسلام في
بريطانيا
نرجــس الأحمـدي
28- 2- 2008
أقاموا الدنيا ولم يقعدوها لدعوة كبير أساقفة الكنيسة الانجليكانية إلى
تطبيق بعض أحكام الشريعة الإسلامية في بريطانيا لحل بعض القضايا
الشخصية اوالعائلية بين مسلمي بريطانيا ... لمـاذا ؟ وكيف ؟ اين الرد ؟
وماهو العمل ؟ ومن المسؤول ؟
بات روان وليامز كبير أساقفة الكنيسة الانجليكانية المعروف بتنمية
الثقة بين الأديان ، والزعيم الروحي لسبعة وسبعين مليون انجليكاني في
العالم يواجه دعوات لإستقالته وذلك لإشارته الى ان السماح بتطبيق بعض
جوانب الشريعة الاسلامية في بريطانيا أمر لا يمكن تجنبه ، وذلك في
مقابلة مع هيئة الاذاعة البريطانية ( بي. بي .سي ) عن إستخدام الشريعة
الاسلامية لحل بعض القضايا الشخصية اوالعائلية بين مسلمي بريطانيا
لتدعيم وإسناد التماسك الإجتماعي حيث سئل عما اذا كان من المطلوب تطبيق
الشريعة الاسلامية في بعض الحالات من اجل تماسك المجتمع فقال وليامز :
"يبدو انه أمر لا يمكن تجنبه ."
طبعاً الكثير من الإنتقادات والردود لكبير الأساقفة كانت مفزعة ومروعة
وهيستيرية وقبل ذلك مفاجئة وغير متوقعة لأن المساواة أمام القانون أصل
ثابت ، والحق الذي دعا اليه ممنوح ومنذ أمد بعيد للجالية اليهودية في
بريطانيا ، والتي لا يتجاوز عددها المليون شخص بينما يتجاوز عدد
المسلمين المليونين هناك ، حيث فيها اليهود يمتلكون محاكمهم الخاصة
لبعض الأمور وهو في أشكال أخرى محقق لغيرهم فمثلاً بإمكان الأطباء
المسيحيين أن يطلبوا إعفاءهم من إجراء عمليات الإجهاض لأسباب دينية .
هذا وأستمرت الضجة حول تصريحات روان ويليامز الى درجة أقلقت حتى الملكة
البريطانية حيث نشرت صحيفة التلغراف في 13-2- 2008 بعنوان :
(( الملكة قلقة من الضجة حول الشريعة
)) مما جاء فيه : انها تتخوف من ان تهتز سلطة اسقف كانتربري
بسبب هذا الجدل ، وان تتأثر كنيسة إنجلترا سلباً بذلك.
ومما تجدر الإشارة إليه أن الملكة تقوم بتعيين كبير الأساقفة على رأس
الكنيسة الإنجليكانية اثر توصية من رئيس الوزراء ، وتحتفظ بمهمتها
كرئيسة للكنيسة.
والغريب أن البعض قد فسرَّ الدعوة بتشجيع الإرهابيين المسلمين ! ، وذلك
مثل صحيفة صن الشعبية البريطانية الواسعة الإنتشار التي شنت حملة
لإعفاء وليامز من منصبه متهمة إياه بتشجيع "الارهابيين المسلمين " في
الوقت الذي دعوة ويليامز ترتكز على وضع قائم فعلاًً للجالية اليهودية
وغيرها كما تقدم إضافة الى أنها تتمسك بذلك في إطار القانون البريطاني
وتستند الى أبسط مبادئ الديمقراطية التعددية بعيداً عن تعميم أعمى يشمل
ملياردي مسلم في العالم ، ومليوني مسلم في بريطانيا لسلوك إجرامي شاذ
ونادر ومرفوض ومدان لأربعة بريطانيين ينسبون أمراضهم الى الإسلام وأعني
الذين قاموا بتفجيرات يوليو- تموز عام 2005 التي استهدفت شبكة النقل في
لندن .
انها لأتمتة الناس وتجسيد العبودية الديمقراطية بواسطة الدعاية
الرمادية التحريضية المكثفة التي تخلط بين الإعلام والدعاية والإعلان
لذبح الإندماج التعددي البرئ من الإلحاق والتذويب ولإجهاض التماسك
الإجتماعي في بريطانيا وغيرها ، وللوقوف على ذلك نستعرض بإيجاز بعض
التعليقات المختلفة من الميدل ايست اونلاين على دعوة كبير الأساقفة
ويليامز :
- قال اللورد جورج كاري اسقف كانتربري حتى العام 2003، ان الاسقف
الحالي روان وليامز "روعته" ردود الفعل على التصريحات التي دعا فيها
الى تطبيق بعض احكام الشريعة الاسلامية في بريطانيا.
وقال كاري ان كبير اساقفة الكنيسة الانجليكانية "لم يتكهن بمضاعفات
تصريحاته واتفهم ان تكون ردود الفعل هذه روعته"! .
واضاف كاري : ان اسقف كانتربري الحالي "قد يكون قدم خدمة كبيرة
لبريطانيا باثارة قضايا تتعلق بالاسلام ، لكنني لا يمكنني ان اشاطره
رأيه بان بريطانيا ستقبل في نهاية الأمر بعض أحكام الشريعة الاسلامية".
واكد كبير الأساقفة الانجليكان السابق ان "قبول بعض القوانين الاسلامية
في إطار القوانين البريطانية سيشكل كارثة على الامة" !.
وانضم جورج كيري وهو كبير اساقفة سابق لكانتربري الى الانتقادات قائلا
في مقال بصحيفة الأحد : ان "قبول 'وليامز' لبعض قوانين المسلمين داخل
القانون البريطاني سيكون أمراً مفجعاً للامة."!!
وانتقد بعض الاساقفة وليامز ودعا عدة اعضاء في مجمع اساقفة الكنيسة
الانجليكانية الى استقالته.
وقال اليسون روف عضو مجمع الاساقفة لمحطة سكاي نيوز: "اعتقد انه لم
يعد الرجل المناسب لهذه الوظيفة ...ان ذلك في احسن الاحوال امر غير
لائق سياسيا وفي اسوأ الاحوال محض حماقة."
وهب زعماء اخرون بالكنيسة للدفاع عن وليامز.
وقال جورج كاسيدي اسقف ساوثويل ونوتنجهام انه شعر بحزن بسبب ما وصفه
بـ"رد الفعل الهيستيري" على تصريحات وليامز.
وكتب كيري في صحيفة نيوز اوف ذي وورلد الأحد انه على الرغم من انه لا
يتفق مع وجهة نظره بشأن الشريعة الاسلامية فانه يؤيد وليامز بشكل كامل.
وقال "اعرف ان ما حدث اصابه بالفزع."
ونفى بيان على موقع وليامز على شبكة الانترنت انه دعا الى تطبيق
الشريعة الاسلامية "كسلطة قانونية موازية للقانون المدني."
ولم يدل وليامز نفسه بتعليق على هذا الجدال. ولدى مغادرته قداساً
بكنيسة في كامبريدج هتف شخص "استقل" في حين اطلق بضعة اشخاص صيحات
استهجان وصفق له البعض.
وحاولت اسقفية كانتربري السبت تهدئة الجدل ونشر بيان تفصيلي "عما قاله
كبير الاساقفة فعلا" على الموقع الخاص برئيس اساقفة كانتربري.
وكان وليامز صرح ان على الناس التعامل بعقل منفتح مع الشريعة الاسلامية
، لافتا الى امكان التوصل الى "تسوية بناءة" حول عدد من القضايا.
واضاف البيان ان وليامز "لم يقدم اي مقترحات متعلقة بالشريعة على
الاطلاق كما انه لم يدع الى اعتماد قوانين
موازية للقانون المدني".
وبحسب مكتب كبير اساقفة كانتربري فان الاخير "لم يقترح نظاما قانونيا
موازيا لكنه اشار الى ان : "بعض احكام الشريعة
معترف بها في مجتمعنا وقانوننا".
وكتب كاري في صحيفة "صنداي تلغراف" ان "المسلمين يمثلون اقل من 3% من
سكان بريطانيا. وسئم المسلمون من كونهم محط الانظار لكن برنامجا طموحا
لادخال بعض احكام الشريعة في القانون المدني سيكون كارثيا ، ولا اريد
حتى تصور مضاعفاته على تماسك المجتمع" في بريطانيا.
من جهته قال الكاردينال كورماك مورفي اوكونور الزعيم الروحي لـ4.5
ملايين من الكاثوليك في انكلترا وويلز :
"لا اؤمن بمجتمع متعدد الثقافات"!! .
واضاف لصحيفة "صنداي تلغراف" انه "عندما يأتي الأفراد الى بريطانيا
عليهم ان يحترموا القوانين البريطانية".
وفي صحيفة الصنداي تايمز ( 10-2- 2008 ) نجد مقالا بعنوان
"أيها الأسقف، لقد ارتكبت خيانة" بقلم
الكاتبة مينيت مارين، تقول فيه تعليقا على قول الأسقف روان ويليامز "ان
القول ان هناك قانونا واحدا للجميع وهذا هو كل ما هنالك لهو شيء خطير"،
تقول " ما هو الخطير ؟ وبالنسبة لمن ؟ ان الخطر يكمن في الأسقف وفي
الذين يفكرون مثله".
وتتساءل الكاتبة قائلة :" ما هو الجيد والأساسي في مجتمعنا ؟ " وتجيب
:"انه المساواة أمام القانون".
وحملت افتتاحية صحيفة الاندبندنت في نفس اليوم بعنوان : "ليس هناك
قانون متحضر يقبل الاكراه" ومما جاء فيها :
المحاكم الشرعية ليست خير من تلجأ اليه للحصول على العدالة.
وفي صحيفة "الديلي تلجراف" لنفس اليوم تحمل الافتتاحية عنوان :
"المدافع عن الايمان بحاجة الى قدرة أكبر على
التقييم".
وبعد أن تعدد الافتتاحية مناقب الأسقف روان ويليامز تنتقل الى القول ان
التصريحات التي أدلى بها الأسبوع الماضي تعكس زلة في القدرة على
التقييم ، فبالرغم من أنه لم يكن يقصد اقامة نظامين قضائيين مختلفين
كما وضح لاحقا الا أن تعبيره عن نفسه افتقر الى الوضوح والدقة مما جعل
سوء فهمه واساءة تأويله ممكنا.
وتتابع الافتتاحية ان ستوديو البي بي سي ( حيث أدلى بتصريحه ) ليس قاعة
محاضرات ، من حيث ان ما يقال فيه يصل الى قطاع واسع من الناس على كافة
مستوياتهم ومشاربهم.
وتحمل الافتتاحية مسؤولية البلبلة التي حدثت في الاعلام نتيجة تأويل ما
قاله الأسقف له شخصيا بسبب تعرضه للموضوع بالشكل الغامض الذي سمح بهذا
التأويل.
وفي صحيفة التايمز بتاريخ 8- 2- 2008 وفي باب التعليقات نجد مقالا
بعنوان " "اسقف كانتربري ارتكب خطأ
شنيعا".
بعد أن يكيل كاتب المقال المديح لروان ويليامز أسقف كانتربري بسبب
"جهوده في تنمية الثقة بين الأديان" يعبر عن دهشته من الرأي الذي أبداه
الاسقف والذي يحث فيه على اتاحة المجال للمسلمين المقيمين في بريطانيا
لتطبيق الشريعة الاسلامية على بعض جوانب حياتهم.
يقول كاتب التعليق ان هناك قانونا واحدا في بريطانيا من المفروض تطبيقه
على الجميع ، وانه كان الأحرى بالاسقف الدعوة لمساعدة المسلمين الذين
لم يندمجوا في المجتمع البريطاني على أن يفعلوا ذلك ، خاصة وأن أتباع
الديانات الأخرى يلتزمون بالقانون المحلي ولا يطلبون استثناء أو تطبيق
قوانينهم الدينية الخاصة .
وحول نفس الموضوع تكتب صحيفة الديلي تلجراف بنفس اليوم وفي افتتاحيتها
ان الفكرة التي عبر عنها ويليامز ليست جديدة ، حيث هناك ما يعرف بـ"مجالس
الشريعة" التي يلجأ اليها المسلمون في بريطانيا طلبا للمشورة في
قضايا الأحوال الشخصية كالطلاق ، وكذلك بامكان اليهود المتدينين اللجوء
الى تشريعات الدين اليهودي فيما يتعلق بالأكل مثلا، بل وأكثر من ذلك،
بامكان الأطباء المسيحيين أن يطلبوا اعفاءهم من اجراء عمليات الاجهاض
لاسباب دينية.
اذن فدعوة ويليامز ترتكز على وضع قائم فعلا ، تقول الصحيفة ، ولكن
المشكلة هي في توقيتها وفي مصدرها ، فقد كان يجب أن تأتي من مجلس مشترك
للديانات السماوية الثلاثة.
والأغرب من الغريب حقاً في الصحافة العربية هو ما في صحيفة الحياة
بتاريخ 24- 2- 2008 بعنوان : (( الشيخ القرضاوي وقضاياه مجدداً ))
لمحمد الحداد :
(... كلمة أخيرة حول تصريحات أسقف الكنيسة الانجليكانية الأخيرة :
إني لم أر فيها تمجيداً للمسلمين ولا تعاطفاً معهم ، بل هي أقرب إلى أن
تكون عكس ذلك. الخلفية واضحة : المهاجرون المسلمون عجزوا على أن
يندمجوا في قوانين المتحضرين والمتمدنين ، اتركوهم يطبقون قوانينهم
وامنحوهم هذا الاستثناء كما تمنح الاستثناءات إلى أصحاب العاهات !!.
هذا موقف لا يمكن أن يسرني ولا أن اعتبره مكسباً لي .! )
والمقال لا يستحق الرد لأنه غارق في الدونية والإنهزامية وعدم تقدير
الذات عدا تذكير كاتبه المحترم بإشارة أمير بريطانيا وولي العهد في
خطاب له على شاشة التلفزيون في جامعة أكسفورد في عام 1993م :
إن الإسلام يعلمنا طريقة الفهم والعيش في الحياة وهذا ما تفتقده ، وفي
الإسلام نظرة متكاملة الى العالم إذ هو لا يفصل بين الإنسان والطبيعة
ولا العلم والدين ولا بين العقل والمادة .
الإسـتنتاجات :
1- الجاليات المسلمة في الغرب تعتبر حلقة وصل أساسية بين الغرب والشرق
للحوار والتعاون والتحالف ، ولذلك يجب وبعيداً عن التسييس الإهتمام
بمشكلاتها ، وتوعيتها بواجباتها الى جانب حقوقها ، وتفهم تلك المشكلات
لتكريس حقوقها أسوة بالأديان الأخرى ، وعلى أساس المواطنة والديمقراطية
التعددية ونبذ التمييز ، فذلك سيساهم إضافة الى ما تقدم في تطويق
الإرهاب ، وفي دعم التماسك الإجتماعي لأنه يخلق البنية التحتية
الضرورية للإندماج التعددي غير الإلحاقي وغير الذوباني .
2-
كما لابد من التعريف بالأليات الحضارية مثل مؤسسات المجتمع المدني
والتجمعات القانونية والحقوقية لتكريس تلك الحقوق وتمكينهم من تأسيس
وتفعيل تلك المؤسسات ، ولاسيما ان السلطات باتت تتوجه الى الجالية
المسلمة لكسب الأصوات في الانتخابات لأن المسلمين أصبح لهم ثقلهم فهناك
عموماً تقبل وإنفتاح وتفاعل نسبي ترافقه استثناءات من بعض المتطرفين
كبعض أعضاء الحزب القومي البريطاني المتشدد مما يستدعي رصد مواقف
ونشاطات امثالهم للإطلاع عليها ودراستها ونقدها بشكل إيجابي وبهدوء
وعقلانية وبما ينتزع من اولئك المتطرفين أوراق الوشاية والتشويش لدى
الحكومات البريطانية التي تشكو بدرجة اوباخرى مما تسميه عدم اندماج
الجاليات المسلمة في المجتمع البريطاني .
3- وعلى رأس تلك المؤسسات وللمثال لا الحصر تطوير وتفعيل المجلس
المشترك للديانات السماوية الثلاثة ، والمجلس اليمقراطي الأعلى
للمسلمين ، ومايعرف بـ"مجالس الشريعة" التي يلجأ اليها المسلمون في
بريطانيا طلبا للمشورة في قضايا الأحوال الشخصية .
4- الحضور الإعلامي الفاعل ففي خضم هذه المناقشات الطويلة العريضة
الظالمة كان صوت المسلمين وللأسف غائباً وباهتاً الى حد أكبر من الكبير
عدا الخذلان الذي نقلنا منه نموذجاً على سبيل المثال .
إن عدد المسلمين في المملكة المتحدة
ضخم مقارنة بالجاليات الأخرى حيث يقدر بمليوني نسمة أو أكثر من مجموع
عدد سكان بريطانيا البالغ نحو 60 مليون نسمة تقريباً .
فأيـن أصـواتـهم ؟
|