القطب الروسي يعزز دوره للحفاظ على مداه الحيوي
عفيف رزق
يلخص الجنرال
الروسي فلاديمير زاريتسكي موقف بلاده من الاحداث والتطورات على الساحة
الدولية بقوله: «كل فعل يجر بالضرورة، رد فعل»، ويضيف ان زمن التنازلات
المجانية قد انتهى، وأن على روسيا، كقوة عظمى لعب الدور الذي يتناسب مع
مصلحتها الوطنية ومع قضايا السلم والاستقرار الدوليين. ولكي يؤكد
التوجهات الروسية الجديدة، يرى أمام اصرار الادارة الاميركية على نشر
درعها الصاروخية المضادة للصواريخ في كل من بولونيا والجمهورية
التشيكية، على مقربة من الحدود الروسية، ان القيادة الروسية لن تتوانى
عن تزويد قواتها العسكرية البرية بصواريخ ارض -
ارض من طراز «اسكندر»، الذي تعمل القيادة الجوية الروسية على تطويره
ليصل مداه الى 500 كلم بدلاً من 280 كلم، وستنشر منظومة من هذه
الصواريخ في الجيب الروسي «كاليننغراد» الواقع بين بولونيا وليتوانيا.
وطبقاً لمعاهدة التعاون العسكري بينها وبين بيلاروسيا المعقودة عام
1999، سيصار الى تزويد الجيش البيلاروسي بنماذج من هذه الصواريخ.
ويعترف القائد
العسكري بأن هذا الإجراء يتناقض مع معاهدة «القوى النووية المتوسطة»
المعقودة عام 1987، والتي تتعلق بمنع نشر صواريخ ارض – ارض متوسطة
المدى على الاراضي الاوروبية. وعلى رغم التزام بلاده بها، الا ان ضغوط
أو مشاريع التحالف الاطلسي، والولايات المتحدة على رأسه، تفرض علينا
المحافظة على امننا الاقليمي والاستقرار في المنطقة. لا ينكر احد أن
روسيا، في عهد فلاديمير بوتين، حققت نقلة نوعية في مختلف الميادين.
فعلى الصعيد السياسي الداخلي، وبصرف النظر عن تقويمنا لهذا العهد في
هذا الميدان، استطاع بوتين تأمين الاستقرار السياسي بعد ان شلّ
التيارات السياسية المعارضة لحكمه، كما أمّن استمرارية حكمه لسنوات
مقبلة من طريق تحكمه بالمفاصل الرئيسة للسلطة، وأعاد الاستقرار الى
المناطق التي كانت ملتهبة طوال عقد التسعينات من القرن الماضي، خصوصاً
في القوقاز الشمالي، وما زالت قواته العسكرية تتمركز في المناطق
الانفصالية المقربة من موسكو في كل من اوسيتيا الجنوبية وأبخازيا –
جورجيا، وفي ترانسيستري – جمهورية مولدافيا. اما في الحقل الخارجي،
فتكفي الاشارة الى ان الحضور الروسي ضروري لمعالجة أي قضية دولية او
ازمة خارجية.
وفي الشأن
الاقتصادي برزت روسيا كقوة اقتصادية كبرى تشهد نمواً اقتصادياً لافتاً،
وتحولت من دولة ترزح تحت عبء الديون الخارجية ومن اقتصاد عبثت به
الفوضى لأكثر من عشر سنوات، الى دولة يكدس البنك المركزي فيها احتياطاً
من العملات الصعبة يقدّر بأكثر من 500 بليون دولار، كما تم استثمار
الثروات الطبيعية واستخدامها عبر ادارة وطنية مركزية متينة. ويكفي ان
نذكر في هذا المجال ان كثيراً من بلدان الاتحاد الاوروبي تتجنب إغضاب
موسكو لئلا تتوقف امدادات الغاز الطبيعي اليها. لقد أشار تقرير المجلس
الأوروبي للعلاقات الخارجية الصادر اخيراً عن الاتحاد الاوروبي الى مدى
تأثير موسكو في السياسة الاقتصادية لأوروبا عندما قال: «اصبحت موسكو
تحدد روزنامة العلاقات بينها وبين بلدان الاتحاد الاوروبي ليس في مجال
الطاقة فقط بل في مجال المواقف من القضايا الاقليمية والدولية»، ويذكر
على سبيل المثال تذبذب المواقف الاوروبية ازاء استقلال اقليم كوسوفو عن
صربيا.
تقتضي الثنائية
الدولية، كما عرفها العالم خلال الحرب الباردة، وجود قوة عظمى ثانية في
مقابل القوة الاولى التي هي الولايات المتحدة. من هذه الزاوية يجب على
الموقف الروسي ان يكون مشابهاً لما كان عليه الموقف السوفياتي السابق
في حده الادنى. صحيح ان روسيا دولة يسودها الاستقرار السياسي في
الداخل، وتتمتع باقتصاد مزدهر، وبتأثير اقليمي ليس خافياً على احد، لكن
نفوذها ضعيف ولا يقارن بنفوذ الاتحاد السوفياتي السابق، وكذلك
تحالفاتها، فلا وجود لحلف وارسو او ما يشبهه، ولا لكتلة من دول متماسكة
مؤيدة لها كالكتلة الاشتراكية، لقد وصل التحالف الاطلسي والاتحاد
الاوروبي الى الحدود الروسية عبر انضمام الكثير من دول اوروبا الشرقية
والوسطى الى هاتين المنظمتين، ما قلّص كثيراً من النفوذ الروسي
.تطبق القيادة الروسية حالياً المبدأ الذي ورد سابقاً، «كل فعل
يجر بالضرورة، رد فعل»، لتحافظ على مواقعها ونفوذها من الضغوط التي
تتعرض لها، ثم تتقدم خطوة جديدة لتثبيت الدور الذي تعمل من اجله.
فرداً على
محاولات الولايات المتحدة تطويق اوكرانيا وجورجيا، وهما من مؤيدي
السياسية الروسية، أجرت روسيا العام الماضي مناورات عسكرية ضخمة
بالاشتراك مع الصين شارك فيها 6500 جندي واستُعمل فيها مختلف انواع
الاسلحة. يسهب القادة الروس في شرح الأبعاد الاستراتيجية لهذه
المناورات، فضلاً عن الموقع المهم الذي تحتله الصين كقوة عظمى على
الساحة الدولية، ولتمتين العلاقات بين الجارين، يقولون ان المسرح
الدولي ليس حكراً على احد، وبالتالي ليس مقفلاً أمامهم. خطوة اخرى
اتخذتها روسيا تتعلق بسوق السلاح، حيث ان هذه السوق ممسوكة في جزء كبير
منها من الولايات المتحدة، وبعد الاصلاحات التحديثية التي ادخلها بوتين
على الصناعة العسكرية الروسية، توجه الى السوق الآسيوية حيث بلغت حصة
روسيا، العام الماضي، من صادرات الاسلحة 37 في المئة، في حين ان حصة
الولايات المتحدة لم تتجاوز الـ 25 في المئة. يردد الروس مقولة، في هذا
المجال، مفادها ان الأسلحة تجلب النفوذ، ونحصل اذاً على استراتيجية
مدفوعة الثمن. باب آخر طرقه الكرملين هو قيام القوات الروسية – الجوية
والبحرية - اوائل هذا العام بمناورات عسكرية
في المحيط الاطلسي بعد غياب دام ربع قرن من الزمن مع التلميح الى امكان
بقاء قسم من هذه القوات في هذا المحيط، بعد ان تمركز الاسطول البحري
الروسي في البحر المتوسط.
وفي ميدان
المعاهدات الدولية المعقودة بين واشنطن وموسكو، والتي ما زالت موسكو
تلتزم بها، تأتي معاهدة «القوات التقليدية في اوروبا» المعقودة عام
1990 ودخلت حيز التطبيق عام 1992 وتتعلق بتحديد نشر القوات التقليدية
لكل من حلفي وارسو والاطلسي بين جبال الاورال والمحيط الاطلسي،
واستناداً الى الأحداث التي جرت على الساحة الاوروبية جراء انهيار
الاتحاد السوفياتي، تم تعديل هذه الاتفاقية في اسطنبول عام 1999
بانتظار التصديق على النسخة المعدلة من الدول الثلاثين الموقعة عليها.
لقد اعلن الكرملين تعليق عضوية روسيا في المعاهدة بين امتناع دول
الاطلسي عن المصادقة، على رغم ان بوتين كان وجّه رسالة في تموز (يوليو)
الماضي يحضهم فيها على المصادقة. أسفت قيادة حلف الاطلسي للقرار
الروسي، في حين اعتبر الاوروبيون انهم فقدوا مصدراً مهماً وشفافاً
للمعلومات عن النشاط العسكري الروسي وخسروا معاهدة شكلت ركيزة مهمة
جداً من ركائز الامن والاستقرار في اوروبا. علماً ان موسكو هددت
بالانسحاب من معاهدة «القوى النووية المتوسطة» اذا لم تلتزم ببنودها
الادارة الاميركية وهكذا تستمر روسيا
الاتحادية في محاولاتها لشق طريقها نحو القطبية، مستعينة بما تملكه من
ثروات طبيعية ومن إرث سوفياتي غني بالخبرات العلمية. فهل تنجح مساعيها؟
وكل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر
المذكور نصا ودون تعليق.
المصدر:daralhayat-23-2-2008
|