المظلة الأميركية... وعبء السلعة الأمنية

 

بول كينيدي 

 

 

من رأيي أن كلمة Umbrella- المظلة - هي من الكلمات المثيرة للذهول في اللغة الإنجليزية، لصعوبة ترجمتها ترجمة دقيقة، أو حصرها في حدود معناها المعجمي الأصلي. غير أن للكلمة نفسها معاني شتى في اللغة الإنجليزية، إذ طالما تم توسيع معانيها واستخداماتها، لتشمل مجالات أوسع من الحياة اليومية، بما فيها السياسة والاستراتيجيات الكبرى. وأصبحت الكلمة تعني عموماً، شكلاً ما من أشكال الحماية، أي وسيلة لحماية مجموعة اجتماعية معينة من مصائب وويلات العالم الخارجي. كما تعني جمع كيانات متباينة مع بعضها البعض تحت سقف واحد، من شاكلة الحديث عن "مظلة سياسات تأمينية موحدة". ولكن لك أن تنظر إلى استخدامات الكلمة نفسها في مجال السياسات الدولية. فعلى سبيل المثال، يستطيع طلاب ودارسو فترة الحرب الباردة، أن يدركوا بسرعة أنه وفي سبيل درء عدوان سوفييتي محتمل حينئذ، فقد لجأت الولايات المتحدة إلى إقامة "مظلة استراتيجية" دفاعية فوق كل من دول حلف "الناتو" وأوروبا واليابان، مهددة بخوض الحرب عن هذه الدول، في حال تعرض سيادة أي منها للانتهاك أو العدوان من قبل الاتحاد السوفييتي.

وعلى وجه التحديد، ففي حال تهديد الاتحاد السوفييتي بإطلاق أي صواريخ ضد أي من الدول الغربية، فقد حذرت واشنطن مسبقاً بالرد على تلك الهجمات، بإطلاق صواريخ مضادة على الاتحاد السوفييتي. ولتحري الدقة أكثر من هذا، فقد كان هناك الدافع التكنولوجي الحربي، الذي غذته إدارة الرئيس الأسبق رونالد ريجان والإدارات التالية له، لتفادي هذا الدمار الحربي الأكيد المتبادل بين معسكري الحرب الباردة، وذلك ببناء نظام دفاعي من شأنه حفظ توازن قوى الحرب الباردة، قوامه إقامة مظلة مضادة للصواريخ البالستية فوق منطقة أميركا الشمالية أولاً، ثم تمديدها لاحقاً لتشمل جميع حلفاء واشنطن. إذ علينا أن نسلط اهتمامنا بدرجة أكبر هنا على الجهة التي توفر تلك المظلة الدفاعية الاستراتيجية، والدول التي تحظى بحمايتها. وفي هذا فلنأخذ بشكوى أعضاء الكونجرس الأميركي خلال العقود القليلة الماضية، من أن حلفاء واشنطن في كل من أوروبا واليابان،استفادوا كثيراً من الناحية الاقتصادية جراء تكفل الولايات المتحدة بتوفير الحماية الدفاعية اللازمة لهذه الدول، أي نتيجة عدم تكفل الدول المعنية نفسها ببناء نظمها الدفاعية الخاصة بها، والتعويل في هذا الجانب على واشنطن، بكل ما تمثله هذه الكفالة من تكلفة مالية باهظة على دافعي الضرائب الأميركيين.

والمعلوم أن نسبة 6 في المئة من إجمالي الناتج المحلي الأميركي، قد أنفقت على الميزانيات الدفاعية، قياساً إلى إنفاق أوروبا كلها لنسبة تتراوح بين 2-3 في المئة فحسب من إجمالي ناتجها المحلي على ميزانياتها الدفاعية، ونسبة 1 في المئة فحسب أنفقتها اليابان في المجال نفسه، على رغم حقيقة أن هذه الدول مجتمعة تواجه عدواً مشتركاً واحداً هو الاتحاد السوفييتي. وهكذا يقع على دافع الضريبة الأميركي عبء مالي غير متناسب، جراء تحمله لنفقة الميزانية الدفاعية العامة، في حين ازداد إنفاق الدول التي تشملها مظلة الحماية الدفاعية الأميركية، في المجالات الأخرى مثل البرامج الاجتماعية والسلع الاستهلاكية، بل حتى عمد بعضها إلى زيادة حجم مدخراته، في وقت غرقت فيه الولايات المتحدة في لجة ديونها. وهذا هو مصدر الشكوى مما رأى فيه الكثيرون ضرباً من "المجانية الدفاعية" التي تتمتع بها الدول الحليفة لواشنطن.

ومنذ قديم الزمان وحتى يومنا هذا، لا تزال الإمبراطوريات المهيمنة، تتحمل وزراً أكبر مما تحتمل، وتدفع ثمن ذلك تكلفة جد باهظة، قياساً إلى تلك الدول القابعة تحت مظلة حمايتها الاستراتيجية. فعلى سبيل المثال كان الفلاحون الموسرون في القرن الثاني الميلادي، ينعمون بكونهم جزءاً من "باكس رومانا" التي توفر لهم حماية دون مقابل تكلفة مباشرة تذكر. بيد أن مواطني الإمبراطورية الرومانية أنفسهم، ونتيجة لتوفير إمبراطوريتهم لـ"المنتجات الدولية العامة" المتمثلة في نشر السلام الطويل الأمد والتدفق التجاري المستدام، فإنهم يتمتعون كذلك بنمو خيرات وثروات الدول التابعة لإمبراطوريتهم خارجياً، ولم تكن المسألة برمتها بعيدة عن شعور الفخر والزهو لدى الإمبراطورية ومواطنيها على حد سواء، بامتياز التفوق هذا على الآخرين. وعليه فإنه ليس من الحكمة في شيء أن يتنازل المرء عن موقع الامتياز هذا، لمجرد أن بعض الفلاحين في الدول الثانوية التابعة، أصبحوا أكثر سمنة وغنى على حساب المواطن الإمبراطوري.

ثم تلا الإمبراطورية الرومانية الأولى، وريثها الثاني المتمثل في الإمبراطورية البريطانية العظمى، أي نظام "باكس بريطانيا". وعلى رغم أن بعض المؤرخين الأميركيين المنكفئين على ذواتهم، ربما لا يقرون هذه الحقيقة، إلا أن الذي لا ريب فيه أن أهم ما يمكن أن يفسر النهوض الذي حققته الولايات المتحدة الأميركية في القرن التاسع عشر هو بريطانيا العظمى. والذي يحملني على هذا القول، أن الأسطول البحري الملكي البريطاني، قد تمكن من إغلاق أي مداخل إقليمية أوروبية محتملة إلى الجزء الغربي من الكرة الأرضية، ما أتاح الفرصة لأميركا أن تخفض ميزانيتها الدفاعية إلى أدنى حد ممكن. وليس ذلك فحسب، بل تدفقت ملايين الجنيهات البريطانية لصالح تنمية المدن والسكك الحديدية وشركات التأمين والمزارع الأميركية في الوقت نفسه. وعلى سبيل المثال، فقد تكلفت بنوك اسكتلندا بتمويل الجزء الغالب من صناعات الماشية في الولايات المتحدة. وبالنتيجة فقد عمت الفائدة كلاً من البنوك الاسكتلندية وأصحاب المزارع ورعاة البقر الأميركيين معاً.

وبهذا نصل إلى الوضع الدولي الاقتصادي الراهن أخيراً. فاليوم تتكفل الولايات المتحدة منفردة -مثلما كان عليه حال كل من الإمبراطوريتين السابقتين الرومانية والبريطانية، بتوفير السلعة الأمنية العالمية تلك. فمن غيرها تمكن بالفعل من لجم كوريا الشمالية والحيلولة دون انزلاق شرق آسيا إلى هوة حرب إقليمية طاحنة؟ ولمن تعود تلك السفن الحربية المنتشرة في منطقة الخليج العربي، بكل ما توفره من أمن لناقلات النفط العملاقة المتجهة إلى كل من اليابان والموانئ الأوروبية؟ وفوق ذلك وقبله، على جيب من يقع العبء الضريبي الأكبر لقاء الحفاظ على عهد "باكس أميركانا" هذا، الذي تكفل بتوفير الأمن والسلم العالميين؟

لكن ماذا لو انفرط يوماً زمام العقد هذا بين طرفي المظلة، أي بين الدولة الحامية والدول المحمية؟ وهذا هو السؤال الذي أقدّر من جانبي أن تكثر إثارته في الحوار العام الذي ستشهده السنوات القريبة المقبلة. وقد بدأت إثارته سلفاً في عدد من الدوائر الأميركية الضيقة حالياً، لفهم تداعيات تضخم فوائض ثروات الدول الأجنبية، وكذلك لفهم أسباب ارتفاع تكلفة الحصول على المواد الخام المستوردة -لا سيما النفط- والضعف الذي طرأ على بنوك "وول ستريت" ومؤسساتها المالية، التي كانت من أكبر البنوك والمؤسسات المالية يوماً. كما بدأت إثارة الأسئلة نفسها في إطار محاولة فهم أسباب تنامي شراء الأصول الأميركية بواسطة الدول الآسيوية والشرق أوسطية الغنية.

وتقوم الحجة التي تبنى عليها هذه الأسئلة على الآتي: لقد أنفقت الولايات المتحدة إنفاقاً طائلاً مادياً وبشرياً معاً، في حربيها الدائرتين حالياً في كل من أفغانستان والعراق. وللبيت الأبيض قناعته ودوافعه الخاصة في خوضهما، بيد أن المستفيدين الرئيسيين من هاتين الحربين هم حلفاؤنا العرب والأوروبيون والآسيويون. وبما أن هذا هو واقع الحال، فما أطيب العيش في كنف المظلة الأميركية! على أن الحقيقة أن الخير يعم مثلما الشر هنا. فإذا كانت الدولة الوحيدة المعنية بتوفير هذه المظلة، تمر بمرحلة ضعف واضطرابات اليوم، فإن المؤكد أن الاضطرابات نفسها ستطال الدول القابعة تحت كنفها ومظلتها.

وكل ذلك بحسب المصدر المذكور نصا ودون تعليق.

المصدر:alitihaad-6-2-2008