مآزق سياسية ووجدانية !

 

عماد فوزي شُعيبي

 

 

كثيراً ما استوقفتني تلك الجرعة الحماسية والوجدانية التي يتكلم بها البعض من المثقفين وأجيال الطلاب ورواد المقاهي... من السياسة وقضايا المنطقة وبعض القضايا الداخلية.عشت التجربة مرتين: مرة من موقعهم ومرة من خارج الدائرة؛ بل من دائرة ثانية. دائرتهم فيها وجدان والدائرة الثانية فيها معطيات ومعلومات.الدائرة الأولى تحدد ما يجب أن يكون، والثانية تتحدث عن فن الممكن. في دائرة الوجدان كل شيء يمكن أن يتحقق، ولا يلزم إلا قليل من الإرادة والكثير من البراءة وجرعة إضافية من الشرف والأمانة.لا شيء أصعب على المرء من أن يعمل بالسياسة ويفتقد للدائرة الثانية؛ أي لمعطيات الواقع والصعوبات والتمايز بين الحاجات والإمكانات.

أتطلع أحياناً برثاء إلى أولئك الذين بلغوا سناً متقدماً ولا يزالون يتحدثون بلغة (ما يجب أن يكون). ربما يحتاج الأمر - فعلياً - لمن يُذكِّر المنغمس في (فن الممكن) بما (يجب أن يكون)، ولكن الغلو هو أن يتصور من هو في قطاع الوجدان أنه يمتلك الحقيقة، كل الحقيقة.أحياناً، من يعش المعطيات والتحديات والوقائع المختلفة، أي من يعش الممارسة السياسية، سرعان ما يضيق صدره من أولئك الذين يذكرونه، أحياناً من موقع الحاقد أو الناقد الشديد، بما يجب أن يكون، وكثيراً ما يرنو إليهم باحتقار، ذلك أنهما من موقعين مختلفين، تماماً كما كان يفعل نابليون مع مثقفي المقاهي الباريسية في نقد العلم، ثمة مصطلحات يتم استخدامها: الإكسيتوري والإيزيتوري ويقصد بهما للأول الذين ينتمون إلى من هم من خارج الاختصاص، وللثاني من هو داخل الاختصاص. فالطبيب داخل اختصاص الطب؛ فهو (إيزيتوري)، أما المريض أو حتى الممرضة فهما من خارج الاختصاص؛ فهما (إكسيتوري). ولا يحق لمن هم خارج الاختصاص أن يتحدثوا بلغة الاختصاص.

أخطر ما في الأمر هو أن يصف المريض لنفسه دواءً بعد أن يشخص المرض بنفسه وهذا هو حال رواد الوجدان في العمل السياسي. إنهم جميعاً (إكسيتوريين)، يمارسون فعل السياسة من خارج المنظومة كلها هؤلاء جميعاً قد يكونون أنقياء ووطنيين وشرفاء وغيورين... إلا أنهم ليسوا بسياسيين من ضمن المنظومة ؛ أي منظومة الممارسة السياسية.

هؤلاء الإكسيتوريون، على مختلف مشاربهم يبعثون أحياناً على الأسى. فأنت تتمنى أن يعلموا ما لا يعلمون لأنهم يشكلون احتياطاً استراتيجياً للعمل السياسي الوطني. كثيراً ما فكرت بمثل هذا. ولكن هذا التفكير اصطدم بدوره بحقيقة بأنه (أي هذا التفكير نفسه) ينتمي إلى حقل (ما يجب أن يكون)؛ إذ علمتني تجربة السياسة أنها بصرف النظر عن الرغبات تبقى تجربة نخبوية وأن تراتيب العمل السياسي تدفع نحو أن يكون المُعطى لدى الرأس ومن يعمل في ثنايا العمل السياسي التفصيلي ، وكل على قد مسؤوليته. إذاً، حتى الرغبة في إنقاذ الوجدانيين الإكسيتوريين من سذاجة تدخلاتهم الوجدانية، تصطدم بأنها ليست أكثر من مشروع طوباوي، لأن الحياة مقسمة فعلياً بين إكسيتوريين وإيزيتوريين. هل هذا هو ما يقف وراء الصراع (الأبدي) بين السياسيين والمثقفين، وذلك الفراغ بين السياسيين ورجال الأخلاق والقيم؟!... نعم.هذه الإجابة تضيرني كثيراً والاعتراف بها أكثر من مؤلم؛ لأن التضحية بالنخب الفكرية على مذبح الجهل المفروض من موقعين مختلفين أحدهما (داخل) والآخر (خارج) المنظومة يدفع نحو الأسى الوجداني والإنساني ولكن الإجابة على هذا تأتي من حقيقة القول: «ومن قال بأنه على مسار المسافة الممتدة من الثقافة إلى السياسة لا يوجد ضحايا؟!» هذا القول الواقعي البراغماتي مع كل ما يعبر عنه من وقائع... غير عادل. لغتان لا تتقاربا إلا كي تبتعدا من جديد. لغة الواقع ولغة الوجدان، لغة السياسة ولغة الفكر، لغة الإكسيتوري ولغة الإيزيتوري. كلاهما معه حق وكلاهما ليس معهما حق!!.

كثيراً ما حلمت بجسر الهوة بين الطرفين؛ تثميراً لإمكانات الأول، ودفعاً للظلم عن الثاني لأنه دائماً متهم بأنه خارج عن أخلاقيات ما يجب أن يكون، ولكن الحلم كان يصطدم بالواقع الذي سرعان ما يطوي صفحة هذا الحلم الجميل. كان ذلك جزءاً من طوباوية مثقف انتقل إلى موقع جعله يرى ويسمع المعطيات والوقائع، فكان يحنو على أقرانه (كما يحنّ الحديد على حاله) في وقت يرفع التحية للسياسي على معاناته أمام الوقائع الدائمة الحركة، حيث التعامل معها لايني يفرض نفسه. في ختام النوسان بين موقعين كان لابد من احترام المثقف ورفع القبعة للسياسي.

إحدى الأفكار التي عملت عليها كانت تطعيم السياسة بالثقافة. كانت الفكرة ضرباً من موقف وسطي بين الانفصال بينهما واقعاً والاندماج المستحيل. لكن هذه الفكرة التي راقت للبعض وقبلها بعض السياسيين دون تحفظ سرعان ما اصطدمت في لحظة من اللحظات مع وقائع الأزمات السياسية، حيث أن تطبيقها يتطلب أن يكون المناخ السياسي مرتاحاً في هذا البلد أو ذاك أما في الأزمات فلا مكان في لحظة القرار للإكسيتوريين، فالقرار لصاحب القرار أي الذي من داخل المعطيات نفسها ، وهذه هي طبيعة الأشياء. في غنيزيولوجيا المعرفة ؛ أي (نظرية المعرفة)، المثقف هو ذلك الشخص الذي يبقى يشك والذي يحشر أنفه في كل ئيء، ولكن في علم إدارة الأزمات لا مكان لدى قائد العمليات للشك، ولا يستطيع أن يتحمل في (لحظة الحقيقة) التردد وتنوع الأفكار. ولهذا، فإن مشروع التطعيم هذا لم يستطع أن يجد لنفسه مكاناً تحت شمس محرقة هي شمس الأزمات. وماذا بعد ؟ سؤال لا أجد له إجابة.

وكل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا ودون تعليق.

المصدر:daralhayat-7-1-2008