رؤية واقعية جديدة لعالم أفضل

 

بيل ريتشاردسون

 

 

بعد تجربة إدارة بوش الفاشلة في النهج الأحادي، تحتاج الولايات المتحدة مرة أخرى إلى بناء سياسة خارجية ترتكز إلى الواقعية والوفاء للقيم الأميركية. وينبغي لهذه السياسة أن ترفع التحديات التي يشهدها عالمنا اليوم عبر تدابير فاعلة، لا وعود ساذجة كما ينبغي لها توحيد الأميركيين لأنها مستوحاة من القيم العليا لأمتنا، لا من إيديولوجية رئيس ما. أميركا أمة عظيمة تعرف كيف تدافع عن نفسها. لكن عظمتها مبنية على أسس أقوى من القدرة على استيعاب الصدمات. إننا ندافع عن أنفسنا بجدارة عندما نقود الآخرين. ويكمن سر القيادة الفاعلة التي عُرفنا بها على مد القرون في استعدادنا للبحث عن قواسم مشتركة مع الغير وتوحيد مصالحنا مع مصالحه وإن استعادت أميركا مركز القيادة مجدداً، علينا أن نتذكر تاريخنا العريق وإعادة بناء قواتنا التي باتت اليوم ذات حجم مبالغ فيه، وإحياء تحالفاتنا، واستعادة سمعتنا كأمة تحترم القانون الدولي وحقوق الإنسان والحريات المدنية.

نستعد اليوم لدخول حقبة جديدة، فيها فرص وأخطار عالمية لم نشهد لها مثيلاً. هذه التحديات الجديدة تستلزم إيجاد مسار استراتيجي جديد للولايات المتحدة. ولبلوغ هذا الهدف علينا التخلي عن «التركيبات الإيديولوجية» السهلة وإعادة النظر بعمق في المزاعم التي ارتكزنا إليها في القرن العشرين. كما علينا التخلي عن النزوات الانعزالية التي جعلتنا نتراجع عن تعهداتنا في العالم، والتنازل عن نزوات المحافظين الجدد التي دفعتنا إلى تغيير وجه دول أخرى من طريق التطبيق الأحادي الجانب للقوة العسكرية الولايات المتحدة كذلك، يفترض تقبلنا للواقع، الإقرار بأن الاخفاقات التي عرفتها إدارة بوش، أدت إلى تراجع نفوذ الولايات المتحدة وزخمها إلى مستويات قياسية. وضرر هذا الواقع هائل، ففي زمن الإرهاب، حيث علينا جمع أكبر عدد ممكن من الأصدقاء، تجد الولايات المتحدة نفسها معزولة.

أضعفت سياسات إدارة بوش تحالفات الولايات المتحدة، وشجعت أعداءنا على الجرأة، واستنزفت خزينتنا، وأرهقت قواتنا المسلحة، وأوقدت غضباً من أميركا في العالم. ومن الاحتباس الحراري إلى أسلحة الدمار الشامل وعدد الجيوش التي سنحتاجها لإحلال السلام في العراق، يفضل رئيسنا الحالي النهج الإيديولوجي على الرؤى الواقعية.

ينبغي للرئيس الأميركي الجديد إعطاء رسالة واضحة للعالم بأن أميركا غيّرت مسارها، وستتولى مجدداً مقاليد القيادة بدلاً من تأدية دور الناسك المتفرد بالقرارات. وتحقيقاً لهذا المبتغى، على الرئيس الجديد إنهاء الحرب على العراق. نعم، علينا سحب كل جيوشنا وانتهاج سياسة استراتيجية حاسمة يشارك فيها كل دول المنطقة، فضلاً عن مجموعة الدول المانحة. وبهدف معالجة المشاكل الجديدة التي قد تعترضنا، علينا إعادة النظر في مزاعمنا السابقة، وكسر عاداتنا القديمة، واتباع مقاربات جديدة تساوي بأهميتها المهمات الجديدة الملقاة على عاتقنا.

هناك ستة تيارات من شأنها تغيير وجه العالم اليوم. التيار الأول هو الحركة الجهادية المتعصبة المنبثقة من الشرق الأوسط الكبير، حيث يتمدد العنف وعدم الاستقرار. إن هذا التيار موجود منذ سنين، لكن اجتياح العراق وانهياره ساهما في تضخيمه الى حد كبير والتيار الثاني هو ازدياد قوة وتطور الشبكات الإرهابية التي بات بإمكانها عرقلة الاقتصاد العالمي، والإتجار بأسلحة الدمار الشامل عبر قنوات خاصة أما التيار الثالث، فهو النشأة السريعة للاقتصاد والقوة العسكرية في آسيا. إذ يُرجح أن تصبح الهند والصين قوتين عالميتين في العقود المقبلة، الأولى بصفتها دولة ديموقراطية، والثانية لا. والتيار الرابع هو بروز روسيا مجدداً كلاعب إقليمي وعالمي حازم، ذي أسطول نووي كبير وسيطرة واسعة على مصادر الطاقة، وكدولة تميل إلى السلطوية والدفاع عن الهوية القومية. إن نهضة الهند والصين وبروز روسيا على الساحة الدولية، يستدعيان وجود قيادة أميركية استراتيجية لدمج هذه الدول القوية في نظام عالمي مستقر والتيار الخامس هو ازدياد اتكال الاقتصادات العالمية على بعضها بعضاً وتفاقم الاختلالات المالية، في غياب القدرات المؤسساتية الكافية للتعاطي مع هذه الوقائع. وجعلت العولمة كل اقتصادات العالم أكثر عرضةً للتأثر بندرة الموارد وبالصدمات المالية وراء الحدود.

وأخيراً، يتمثل التيار السادس في المشاكل البيئية والصحية الجسيمة التي يشهدها العالم اليوم. والخطر هو أن تغيّر المناخ والجائحات كمتلازمة نقص المناعة المكتسب (الإيدز)لا تبقى محصورة داخل حدود أي بلد. فالفقر والنزاعات العرقية ومشكلة التضخم السكاني، ظواهر تتخطى الحدود وتغذي الاقتصاد التحتي المتنامي بتبييض الأموال وما يمارسه الناشطون في عمليات التزوير والاحتيال والإتجار بالمخدرات والأسلحة والبشر.

وكي تصبح الولايات المتحدة فاعلة في العقود المقبلة، عليها تحديد الأولويات الآتية: ينبغي لنا أولاً إعادة بناء تحالفاتنا، إذ لا يمكننا قيادة دول أخرى نحو حلول فاعلة لمشاكل مشتركة، إن لم تثق هذه الدول بقدراتنا القيادية، ما يعني أن علينا احترام مضمون اتفاقات جنيف وروحها، والانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، وتوسيع عضوية مجلس الأمن ليضم ألمانيا والهند واليابان وبلداً من أميركا اللاتينية وآخر من افريقيا، بصفة أعضاء دائمين. كما علينا الامتناع عن المساومة بأي طريقة على احترام حقوق الإنسان في بلدنا. وعلينا مكافأة الدول التي تمتثل للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وإطلاق مفاوضات بناءة وصارمة مع الدول التي لا تتقيد به وعندما تحصل إبادات جماعية أو ترتكب أي انتهاكات أخرى جسيمة لحقوق الإنسان، على الولايات المتحدة توجيه مساعي دول العالم لكبح جماح هذه الممارسات. وأثبت التاريخ أنه في حال لم تتصدر أميركا المساعي الرامية لوضع حد للإبادات الجماعية، فلن يتولى أحد غيرها هذه المهمة.

علينا إشراك الصين وروسيا على نحو أكثر فاعلية واستراتيجية ونظاماً في جعل الأمن النووي أولى أولوياتنا، خصوصاً مع روسيا. وعلينا الاهتمام بالمنحى السلطوي المطرد في روسيا الذي يشكل خطراً محتملاً على أمننا القومي على المدى البعيد لكننا نحتاج إلى الإقرار بأن للقوى العظمى في العالم أيضاً تأثيراً محدوداً على السياسات الداخلية للدول الأخرى، وبأن علينا إعطاء الأولوية للمسائل التي باستطاعتنا التأثير عليها فعلاً ويجب أن تكون الأولوية الوحيدة للرئيس الأميركي الجديد هي الحؤول دون وقوع هجمات نووية إرهابية تذكرنا بيوم الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001.

إن محاربة الإتجار بالأسلحة النووية ستتطلب استخبارات بشرية أفضل، واستخبارات دولية أفضل، وتنسيقاً أفضل لتطبيق القانون. كما ستتطلب جهوداً ديبلوماسية دؤوبة وحازمة لإشراك دول العالم، بما فيها الصين وروسيا، في الجهود الرامية إلى احتواء الطموحات النووية لإيران وكوريا الشمالية، مع ضرورة إعطاء هذه الدول محفزات ومنحها آليات لحفظ ماء الوجه، من أجل حضها على التخلي نهائياً عن تطوير أسلحة نووية. وعلينا أن نتذكر أن لا دولة في العالم أُجبِرت سابقاً على التخلي عن برنامجها النووي، لكن العديد من الدول أقنِعت بالتنازل عن طموحاتها النووية. ومثال ليبيا يدل على أنه حتى الأنظمة ذات التاريخ الإرهابي، يمكن إقناعها بالتخلي عن الأسلحة النووية. وفي خطوة نادرة لجأت فيها إدارة بوش إلى الديبلوماسية، وبناءً على المشاورات التي أطلقها الرئيس بيل كلينتون في عهده، أقنعت الإدارة الأميركية الحالية العقيد معمر القذافي بالتنازل عن خطته لتطوير أسلحة دمار شامل، ووقف دعمه للإرهاب وبدلاً من التهديد بتغيير النظام، أقنعنا القذافي بأن بامكانه أن ينعم بمستقبل آمن إذا تخلى عن السلاح النووي. وبعد سنوات من التأخير، أُحرز بعض التقدم مع كوريا الشمالية أيضاً، على هذا الصعيد.

علينا مقاربة إيران بالأسلوب ذاته ووقف التهديد والوعيد والعمل في صــورة متواصلة مع المجتمع الدولي، لفرض عقــوبات جــماعية صارمة. وعلى الإيـــرانيين أن يعلموا أنه لن يكون لهم أي مــستقبل كدولة نووية، لأن المجتمع الدولي سيتحد ويتضامن لفرض عقوبات مؤلمة بتداعياتها. وعليهم أن يدركوا أيضاً أنهم لن يمنحوا المزايا التي أعطيت للــيبيا، إلا في حال تخلوا عن تخصيب اليورانيوم. وإذا تقيدت إيران بالمعايير الدولية للأمن، ســتلغى العــقوبات، وســيتمكن الإيرانيون من الولــوج إلى الوقود المخصب والمباع في الخارج إن التحديات التي نواجهها اليوم فريدة من نوعها، ولكن علينا أن نستخلص العِبر من الأخطاء التي اقترفتها إدارة بوش، واعتماد استراتيجيات مطورة في القرن الواحد والعشرين لحل مشاكل القرن الواحد والعشرين. وعلينا أن نرى العالم على حقيقته، لنتمكن من توجيه الآخرين نحو عالم أفضل وأكثر أمناً.

هذه هي الرؤية الواقعية الجديدة لسياسة حرة وفاعلة، كفيلة برفع تحديات حقبة جديدة. وهذه سياسة واقعية، وسياسة مبادئ تنظر إلى العالم نظرة اعتدال، إلا أنها مستوحاة من مبادئ حازمة.

*مرشح ديموقراطي للانتخابات الرئاسية الأميركية، السفير السابق للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة.

وكل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا ودون تعليق.

المصدر:daralhayat-27-12-2007