مقالات و محاضرات

 

 

فقهاء الأعاصير 

 

خليل علي حيدر

 

حقق إعصارا ''كاترينا'' و''ريتا'' انتصارات مجيدة لكل أعداء أميركا في العالمين العربي والإسلامي، بل شارك في التشفي والشماتة بعض المسيحيين الأميركان واليهود الإسرائيليين!

وقد أنزل إعصار ''كاترينا'' بالذات بمدينة نيوأورليانز دماراً واسعاً قدر بمئة مليار دولار، وغرقت أجزاء واسعة من المدينة بمياه البحر والأمطار، وتحولت الكارثة الطبيعية إلى كارثة سياسية لا يزال الرئيس الأميركي يدفع ثمنها الباهظ·

لقدعرفت الكرة الأرضية مختلف أنواع الكوارث من زلازل وحرائق وبراكين وعواصف على امتداد آلاف بل وملايين السنين· وقد تشكلت القارات والمحيطات والخلجان والجزر نتيجة لبعض هذه ''الكوارث''، كما نجم عن بعضها اختفاء الديناصورات وانقراض بعض الكائنات وانعزال البعض الآخر في قارات بعينها، كما هو الأمر مع حيوان الكانغارو في استراليا· ولبعض هذه الكوارث، كحرائق الغابات وحمم البراكين، دور مهم في تخصيب التربة وتجديد الحياة النباتية وتوازن الطبيعة وغير ذلك· ومما يشير إليه علماء الجيولوجيا عادة أن الكثير من الزلازل والانفجارات البركانية تقع في أعماق المحيطات ولا يشعر بها الناس· كما أن أعظم الزلازل والانفجارات المدمرة، كما قلنا، أصابت اليابسة والبحار قبل ظهور الإنسان والأديان، وقبل ظهور النبات والحيوان·

ولكن المسلمين والمسيحيين واليهود، وربما غيرهم، وضعوا كل معلوماتهم العلمية عن الكوارث الطبيعية جانباً، ليعلنوا ابتهاجهم برؤية الولايات المتحدة وهي ''تترنح'' على الحلبة أمام ضربات كاترينا، وصار كل من هؤلاء الثلاثة، يغني على ليلاه·

فأحد معارضي الاجهاض في أميركا صرح قائلاً: ''في اعتقادي أن الله قد حكم على نيوأورليانز بسبب خطيئة إهدار دماء الأبرياء عن طريق الاجهاض··· إن الله يعاقب على الآثام القومية بالكوارث القومية''· واعتبر أميركي آخر الإعصار رداً على الشواذ والسحاقيات الذين كانوا يزمعون على التجمع في المدينة للمشاركة في احتفال خاص بهم·

وفي إسرائيل فسر بعض الحاخامات الإعصار المدمر بأنه ''غضب إلهي يحل في أي مكان في العالم لا تُدرس فيه التوراة'' كما حذروا الرئيس بوش من كوارث قد تقع بأميركا، إذا ما استمرت واشنطن بممارسة ضغوط على إسرائيل وعلى رئيس وزرائها أرييل شارون بعد ''جريمة'' طرد اليهود من مستوطنات غزة·

ولم يتخلف بعض المتشددين الإسلاميين عن الركب، وكانوا بالكاد قد فرغوا من تفسير كارثة ''تسونامي'' التي ضربت آسيا، حيث اعتبروها عقاباً من الله للدول المنكوبة، لأنها ''أباحت الفسق والفجور والدعارة''، رغم أن الكارثة قضت على تجربة تطبيق الشريعة الإسلامية في مقاطعة ''آتشي'' في أندونيسيا، وقتلت عدداً لا حصر له من فقراء المسلمين وبسطائهم، ممن لا علاقة لهم بالفسق والفجور والدعارة·

أحد الإسلاميين الكويتيين كتب يوضح ''الحكم الربانية'' في كارثة تسونامي، فحددها بأربع هي:

1- إظهار العظمة الإلهية المطلقة والإرادة الربانية الشاملة·

2- تخويف العباد وتحذيرهم·

3- تأديب العباد وتهذيبهم لعلهم يراجعون أنفسهم ويعيدون حساباتهم مع ربهم بالتوبة والأوبة·

4- تذكير العباد بمشاهد يوم القيامة للاستعداد له، وأن ما حدث لا يعد شيئاً مع ذلك اليوم· غير أن الكوارث في الواقع، لا تصيب بقع الانحراف والفسق، ففي 12/9/،2005 بعد يوم واحد من ذكرى 11/9 السنوية، شهدت مكة المكرمة عدداً من الهزات الأرضية، شعر بها سكانها ولم يتأثر بها الحرم المكي، وبدأت الهزة الأولى بقوة 3,7 درجة على مقياس رختر، أعقبتها هزات ارتدادية شعر بها سكان حي ''العتيبية'' وأحياء أخرى· ويصيب مكة عادة العديد من الكوارث منذ قرون طويلة، قبل الإسلام وبعده· ''وقد مر على مكة أكثر من 71 سيلاً تاريخياً، فمنها ما هدم البيوت حول الكعبة ومنها ما هدم الكعبة ومنها ما أغرق الكعبة أو أجزاء منها، ومنها ما مات بسببه العشرات والمئات والآلاف، وآخر السيول ما حصل في حج العام الماضي 1425هـ''·

وقد تعرضت مكة والمدينة إلى زلازل عديدة عبر تاريخهما، حيث تضعضع عام 515 هـ مثلاً الركن اليماني وانهدم بعضه· كما ضربت الزلازل مدناً وقرى لا حصر لها في العالم الإسلامي في أفغانستان وإيران وتركيا ودول الشام ومصر والمغرب، ومات في تلك النوائب خلق كثير·

وفي عام ،1258 أي السنة التي سقطت فيها بغداد أمام المغول، وقع زلزال شديد هز المدينة المنورة هزاً شديداً، أعقبه انفجار بركان استمر ثائراً لمدة شهر· وذُكر أن النار ارتفعت منه إلى عنان السماء حتى ظهر دخانها في مدينة البصرة جنوب العراق· ولقد ذُعر سكان المدينة وتصوروا زوال الدنيا، مصداقاً لما ذكر في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم: ''لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء منها أعناق الإبل ببصرّى'' (عبدالحكيم العفيفي، 1000 حدث إسلامي، ص 256)·

وعرفت بلدان العالم العربي كذلك هجوم الأمراض الوبائية الفتاكة، كالطاعون والجدري والكوليرا· يقول العفيفي عن حوادث عام 1430: ''ظهر الطاعون في الديار المصرية في فصل الشتاء، وكان يأتي في فصل الربيع، واستمر لمدة أربعة أشهر متصلة، هلك فيها جمع غفير من المصريين والمماليك على حد سواء، وإن كان معظم ضحاياه من الأطفال والعزل· وذُكر أنه في يوم واحد فقط خرجت جنازة أربعة وعشرين ألف شخص، حتى حسب الناس أنهم جميعاً هالكون، فأخذوا يبكون ويودعون بعضهم بعضا (المرجع نفسه، ص 282)·

أثارت عاصفة ''كاترينا'' الأميركية كما قلنا أقلام الكثير من الإسلاميين في كل مكان، إلا أن الردود العقلانية توالت كذلك، وشارك فيها بعض الإسلاميين أنفسهم وبالذات د· اسماعيل الشطي، الذي ذكّر الإسلاميين بأن الغرب هرع بأمواله ورجاله ومعداته لنجدة الأندونيسيين في إعصار ''تسونامي''، على الرغم من اختلاف الديانة· وأضاف: إنني أعتقد أن حجم المساعدة التي أعلنتها الكويت (500 مليون دولار) يتناسب مع حجم الإسهامات التي قدمها الشعب الأميركي للبشرية·

وفي مقال عن الطبيعة وكوارثها، كتب يقول: ''منع الإسلام الاجتهاد في معرفة مقاصد المشيئة الإلهية في الحوادث المستجدة، إذ ليس من حق أحد أن يدعي الاطلاع على حكمة الله من الكوارث··· والذين يفعلون ذلك يتجاوزون حدود الإيمان''·

وكتب آخر من التيار الليبرالي: ''المحزن أن هناك من الهبل في هذا العالم الإسلامي من يريدون أن يفسروا عنفوان الطبيعة كما يشتهون''·

أما السياسي المصري محمود فهمي النقراشي، فقال في مقال نشرى في إحدى الصحف: ''تصاعدت وتيرة المهزلة فجاء دور فقهاء الأعاصير حين ضرب إعصار كاترينا أميركا··· ونسوا أن الأعاصير تحصد أرواح ملايين الأبرياء المسلمين قبل غيرهم، ونسوا أن أكبر دولة ينتشر فيها الإسلام وتبنى فيها المساجد في كل مدينة ويعيش فيها المسلمون في أمان هي أميركا''·

التفسيرات الغيبية الانتقامية للعواصف والكوارث الطبيعية التي تضرب أميركا وأوروبا، وربما الهند واستراليا كذلك، لن تنتهي بمثل هذه المقالات العقلانية المضادة· فالتفسير الكيدي ''يبرد القلب'' ويشفي الغليل ويطيب الخاطر، ويوكل للطبيعة دوراً أخلاقياً انتقامياً ينفس عن الكثيرين مشاعرهم المضغوطة ورغباتهم المكبوتة· وسيبقى هذا التفسير··· ما دام العجز الحضاري مستمراً!

المصدر : الاتحاد الاماراتية - 8-10-2005