مفهوم الدولة الفدرالية

 

رؤى حول أطروحة الفدرالية في العراق الجديد...

 المحامي جميل عودة*

 

مصطلح " federalism" يعني الاتحاد أو المعاهدة. وسواء كان إتحادا أو معاهدة، فهو يقوم بين طرفين متميزين أو أكثر، تجمع فيما بينهم روابط متينة، لها قدرة ذاتية على تحفيز الأطراف المعنية في سبيل البحث عن صيغة توافق مركب وحدوي قوي، فالفدرالية تعني تحرك الأفراد أو الجماعات المتميزة من ناحية، والمشتركة من ناحية أخرى، نحو تشكيل تجمع واحد يوفق بين رؤى الاتجاهات المتناقضة، انطلاقا من الشعور المشترك بالحاجة إلى الوحدة.

أما مصطلح "state federal" فهو يعنى " الدولة الاتحادية" أو"الدولة التعاهدية" والمعنى الأقرب هو الولايات المتحدة؛ لأن مصطلح المدينة أو الولاية هي المصطلحات الإدارية الأكثر تداولا في العهد الإغريقي القديم، بينما مصطلح الدولة مصطلحا معاصرا. ففي العهد القديم ظهر تلقائيا مدن متجاورة، أو ولايات متقاربة، وكان لكل مدينة أو ولاية سلطة خاصة بها، توجه سكان الولاية، وتنظم حقوقهم وواجباتهم، وتحافظ على ثغورها من غزو سكان الولاية الأخرى، وبالتالي كانت هذه الولايات تعيش في معظم أوقاتها حروبا دامية، وقليلا ما تعلن الصلح في أوقات محددة.

لكن في كل الأحوال لم تكن الولايات المتقاربة قديما، تعتمد في إقامة اتحاداتها على أصول دستورية وإدارية متحضرة تأخذ بنظر الاعتبار إرادة سكان الولايات بقدر ما كان منهج "الاتحاد القسري" هو المنهج السائد في تلك الحقبة الزمنية، وبالتالي لا يتطرق الباحثون في مباحث إدارة الدولة إلى النماذج الاتحادية الإغريقية أو الهندية، إلا بحدود إثبات قدم فكرة الفدرالية في نظام إدارة الدول.

وبناء على هذا يكاد أن يتفق هؤلاء الباحثون على أن النظام الفدرالي بصيغته القانونية، مفهوم حديث ومعاصر لا يتعدى تاريخه التطبيقي نظام الحكم الفدرالي للولايات المتحدة الأمريكية الذي ظهر الى الوجود عقب مؤتمر فيلادلفيا عام 1787م.

يذكر رجال القانون أن الدول الفدرالية تكونت إما من اتحاد كيانات مستقلة، أو من كيانات تنفصل من جسد دولة واحدة كبيرة، ثم تعقد العزم على الاتحاد ضمن صيغ قانونية واجتماعية جديدة. وهي كالتالي:

1- اتحاد ولايات متقاربة: تنشأ الدولة الفدرالية من إتحاد ولايتين أو عدة ولايات متقابلة تشترك شعوبها في ملامح اجتماعية وجغرافية وتاريخية، فتتنازل كل واحدة عن بعض سلطاتها الداخلية، وعن سيادتها الخارجية، ثم تتوحد ثانية لتكون الدولة الفدرالية على أساس الدستور الفدرالي، مثال الولايات أو الإمارات المتحدة: الولايات المتحدة الأمريكية عام 1787 والاتحاد السويسري عام 1874 وجمهورية ألمانيا الاتحادية عام 1949 واتحاد الأمارات العربية عام 1971.

2- تفكك دولة كبيرة: تنشأ الدولة الفدرالية من تفكك دولة كبيرة بسيطة، يعاني سكانها من مشاكل اجتماعية وسياسية واقتصادية، كاختلاف اللغة والعادات والثقافات والموارد والثروات، فيعمل شعبها على المطالبة باستقلال تام عن سيطرة الحكومة المركزية، وتقرير مصيرها دون تدخل من الآخرين، ثم تعمل الولايات المفككة على تشكيل دولة واحدة هي الدولة الفدرالية، وفق نظام إداري فدرالي. مثال الدولة الفدرالية الناشئة عن تفكك دولة بسيطة هي المكسيك 1857 والأرجنتين 1860 والبرازيل سنة 1891 وتشيكوسلوفاكيا سنة 1969 .

ملامح الدولة الفدرالية

تتميز الدولة الفدرالية عن غيرها من الدول البسيطة بأمرين:

1- الدولة الفدرالية دولة مركبة: تتصف الدولة الفدرالية بأنها دولة مركبة من أجزاء متميزة، وهذا التركيب هو الذي يميز الدولة الفدرالية عن الدولة البسيطة[1]، حيث تتكون الدولة الفدرالية من دولتين أو أكثر، أو من إقليمين أو أكثر، يكون لكل منهما نظامه الخاص، واستقلاله الذاتي، مثل أن يكون لكل ولاية أو إقليم دستور خاص، برلمان خاص، حكومة خاصة، وقوانين خاصة، وعسكر خاص، وموارد خاصة، ولغة خاصة بها.

2- الدولة الفدرالية دولة واحدة: تتصف الدولة الفدرالية بأنها دولة واحدة، كالدولة البسيطة تماما، من حيث وجود دستور اتحادي واحد، وحكومة اتحادية واحدة، وبرلمان اتحادي واحد، ومحكمة اتحادية واحدة، وجيش اتحادي واحد.

الدولة العراقية الفدراليةإن أطروحة الفيدرالية في النسيج الاجتماعي العراقي أطروحة حديثة العهد، ظهرت شيئا فشيئا في فترة التسعينات من القرن المنصرم، وذلك بعد غزو دولة الكويت وانتفاضة آذار 1991، حيث تحررت منطقة شمال العراق ذات الأغلبية الكردية من قبضة السلطة المركزية في بغداد بدعم من قوات التحالف الدولية.  

ففي 4/10/ 1992 اتخذ البرلمان الكردستاني قرارا بتبني النظام الفدرالي للعراق، الأمر الذي أثار جدلا واسعا من الناحية السياسية والفكرية حول الآثار المستقبلية المترتبة على العلاقات الاجتماعية للمكونات العراقية ودول الجوار.

منذ تلك الفترة كان مبدأ الفيدرالية يطرح بين الحين والآخر من قبل القوى الكردية لاسيما الحزبين الكبيرين الديمقراطي والاتحاد الكردستاني في المحافل والمؤتمرات والندوات والتحالفات التي كانت تجريها المعارضة خارج العراق، كان منتهاها مؤتمر لندن وهو آخر مؤتمر تعقده المعارضة العراقية في المنفى، هذا فضلا عن الندوات الفكرية والثقافية التي تتبناها النخب المفكرة الداعية للفيدرالية العراقية.

بعد سقوط النظام العراقي السابق، أُقر قانون إدارة الدولة العراقية المؤقت الفيدرالية، فقد جاء في المادة الرابعة: نظام الحكم في العراق جمهوري، اتحادي (فيدرالي)، ديمقراطي، تعددي، ويجري تقاسم السلطات فيه بين الحكومة الاتحادية والحكومات الإقليمية والمحافظات والبلديات والإدارات المحلية. ويقوم النظام الاتحادي على أساس الحقائق الجغرافية والتاريخية والفصل بين السلطات وليس على أساس الأصل أو العرق أو الاثنية أو القومية أو المذهب.

وفي المادة الرابعة والعشرين(أ) ـ تتألف الحكومة العراقية الانتقالية والمشار إليها أيضا في هذا القانون بالحكومة الاتحادية من الجمعية الوطنية ومجلس الرئاسة، ومجلس الوزراء وبضمنه رئيس الوزراء، والسلطة القضائية....

وجاء في المادة الثانية والخمسين: يؤسس تصميم النظام الاتحادي في العراق بشكل يمنع تركيز السلطة في الحكومة الاتحادية، ذلك التركيز الذي جعل من الممكن استمرار عقود الاستبداد والاضطهاد في ظل النظام السابق. إن هذا النظام سيشجع على ممارسة السلطة المحلية من قبل المسئولين المحليين في كل إقليم ومحافظة، ما يخلق عراقا موحدا يشارك فيه المواطن مشاركة فاعلة في شؤون الحكم ويضمن له حقوقه ويجعله متحررا من التسلط.

فهل تصلح الفيدرالية في العراق، كنظام حكم سياسي يوحد العراق ويؤلف بين مكونات المجتمع العراقي، وهل هناك مانع وطني أو شرعي من قيام الفيدرالية العراقية؟

يبدو من استقراء الساحة السياسية العراقية أن هناك لغطا كبيرا حول مبدأ الفيدرالية بين أنصاره ورافضيه ولكن الغالبية من الشعب العراقي يقفون موقفا محايدا لعدم وضوح الصورة.  

يرى الإمام السيد محمد الشيرازي أن تطبيق سياسة اللامركزية في أي بلد يحقق الكثير من المزايا، لعل أهمها: أنها ممارسة فعلية لمبدأ الاستشارية السياسية الذي يقوم على أساس اشتراك المواطنين لإدارة شؤونهم والمشاركة في صنع القرار بأنفسهم، وهذا ما يعبر عنه في السياسات الحديثة "بالديمقراطية" فإن النظام الديمقراطي السياسي يمنح الفرد السلطة عن طريق الآخرين الذين يمنحونه هذه السلطة، ولذلك فهي ذلك النظام الذي يستطيع من خلاله المواطنون تحقيق أهدافهم، عن طريق الحكم بواسطة الشعب، ومن أجل الشعب[2].

وبالتالي، فأن نقل السلطات إلى المحليات، ومنح المحافظين كافة السلطات والمسؤوليات دون الرجوع إلى سلطة مركزية في العاصمة، واختيار المحافظين من أبناء المحافظات، أو ما أشبه من الوحدات الإدارية أو الحكومات المحلية، هو تطبيق عملي للاستشارية بمفهومها الشامل لما في ذلك النظام من توافر للمبادئ التي تكفل له أعلى درجة من الاستشارية التي تستمد السلطة في صنع القرار من أبناء الشعب مباشرة بالمحافظات دون الرجوع إلى السلطة المركزية.

ونظام اللامركزية الإدارية كما هو مطلوب بالنسبة إلى المجال السياسي، كذلك هو مطلوب بالنسبة إلى سائر المجالات كالمجال الاقتصادي، فإن هذا النظام يعد دعامة أساسية لنهوض الاقتصادي والاجتماعي للمحافظات أو الحكومات المحلية، أو ما أشبه ذلك من خلال الاهتمام بالتنمية الإقليمية، وتطوير أداء الخدمات، وتحقيق برامج الأمن الغذائي، وما أشبه ذلك من سائر ما يكون مقوماً للحكم الشعبي، فإن هذا النظام هو في الحقيقة أقدر على التعرف على الاحتياجات الحقيقية لكل محافظة وتنسيق العمل داخلها، وتوجيه الجهود نحو إشباع رغبات واحتياجات المواطنين، والتيسير عليهم، والبدء في مرحلة جديدة من العمل لزيادة الإنتاج لتحقيق النمو والتقدم والرخاء.

ويرى الإمام الشيرازي بأنه إذا كانت للحكومة الاتحادية مساوئ ومحاسن، إلا أن محاسنها أكثر من مساوئها، فالحكومة الاتحادية هي مبدأ في التنظيم السياسي يسمح ابتداءاً للولايات المستقلة أن تتحد تحت حكومة مركزية مشتركة في حين تحتفظ ببعض سلطاتها ووحدتها، وهذا النظام يتصف بالمرونة في ضمن مفهوم الاتحاد الذي تضمنه بعض الدساتير في بعض الحكومات، ومع أن كلاً من المستويين من الحكومة يتمتع بقدر كبير من السلطة، فإن استخدام السلطات وأهميتها النسبية قد ينتقل بينهما استجابة لظروف العصور المتغيرة، خصوصاً الأمر بحاجة إلى المرونة بسبب البيئة إذا رافق التغيير النمو الضخم في عدد السكان، فإن من المعلوم أن زيادة السكان معناها زيادة الخدمات الحكومية، والزيادة بحاجة إلى تنظيم مختلف نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، خصوصاً إذا أريد تحول الأمة من مجتمع متخلف إلى مجتمع صناعي متقدم، إذ تنشأ فيه علاقات شديدة التعقيد مثل العلاقات بين العمال والإدارة وبين الصناعة المحلية والمجتمع المحلي وغير ذلك، ولا بد أن توائم الحكومة الاتحادية تغيرات أخرى، فإنه ينتج عن التصنيع نشوء المدن الكبرى والامتداد المستمر في مختلف البعاد، مثلاً يجب على الزراعة أن تجابه مشكلات المكننة والكهربة والضغوط على الائتمان، وتذبذب الأسعار، وتتطلب هذه المشكلات وغيرها الرقابة والخدمة في أحد مستويات الحكومة، أو في عدد منها.

وبالتالي، فاللازم على الحكومات المحلية والحكومة المركزية بصفة خاصة الإضطلاع بمزيد من ألوان النشاط والخدمات، وحيث أنه قد يقع التضارب بين المصالح أو بين الاجتهادات ، فإنه لا بد أن تقوم هناك محاكم لتفسير الدساتير الموضوعة، سواء في الحكومة المركزية أو في الحكومات المحلية، فإن لمثل هذه المحاكم وتفسيراتها الأثر الكبير في سير الإدارة في المستوى الاتحادي.

ويرى الإمام الشيرازي في مجال رؤيته حول آفاق تشكيل اتحاد فدرالي إسلامي بين الدول الاسلامية انه: علينا أن لا يهولنا كون بلاد الإسلام شاسعة تحتوي على ألف وخمسمائة مليون من البشر في رقعة فسيحة من الأرض وبمختلف اللغات والمناخات وغير ذلك، فإن الحكم المحلي يحل هذه المشكلة كما حلها في كل من الهند ذات تسعمائة مليون ، في الحال الحضر والصين ذات ألف وثلثمائة مليون في الحال الحاضر – على بعض التقارير – بل نلاحظ أن أمريكا تمكنت من حل المشكلة بتكثير المؤسسات الحكومية ففي أمريكا حسب إحصاء كتاب (الإدارة العامة) ترجمة (إبراهيم علي) مائة ألف وألفان وثلاثمائة وثلاث وخمسين وحدة حكومية محلية، وتداخل الكثير منها معاً، وهناك ما يبلغ (ثلاث آلاف مقاطعة) وأكثر من (سبع عشر ألف بلدية) مندمجة وكذلك أكثر من ( سبع عشرة ألف بلدية ومجلس بلدي ) و ( خمسين ألف منطقة مدرسة مستقلة ) ونحو أربع عشرة ألف منطقة خاصة ) والأخيرة تتكون من مناطق أو سلطات أنشأت لغرض خاص مثل توفير المياه والوقاية من الحريق أو جمع القمامة، ويكون لها مركز مستقل بدلا من أن تكون أجزاء إدارية من حكومات الولاية أو المقاطعة أو المدينة أو البلدية .

ومن ناحية أخرى فإن كثيراً من الحكومات المحلية تتمكن من أن تؤدي عملها على نحو أفضل إذا منحت حرية أفضل لوضوح أن الإقلال من الحكم الذاتي يترك الإدارة المحلية عاجزة عن الحركة، ويسمح للموظفين المحليين بأن يتهربوا من المسؤولية ويحول اهتمام ومناشط الهيئة التشريعية للولاية من الشؤون التي تهم الولاية بأسرع إلى تفاصيل المشكلات المحلية، فإذا أعطيت الحكومات المحلية حرية أكثر تمكنوا من الإدارة ولا تكون سعة الحكومة أفراداً وأراضي مشكلة أمام الحكومة الاتحادية المزمع إنشائها على الأراضي الإسلامية، وقد تقدم أن قلنا أنه إذا وجدت صيغة أفضل من ذلك فاللازم الالتجاء إلى تلك الصيغة، وإلا فهذه هي الصيغة التي يمكن إتباعها في الحكومة المرتقبة بإذن الله سبحانه وتعالى.

خلاصة تطبيق الفيدرالية في العراق، يعتمد على التالي:

- ضرورة وجود تعريف مستفيض للنهج الفيدرالي، ليتمكن الغالبية من الشعب من الوصول إلى قناعات ذاتية حول مدى صلاحية إقامة نظام فيدرالي في العراق.

- ضرورة عقد المؤتمرات والندوات العامة لتحديد المداليل العملية للنهج الفيدرالي العراقي.

- ضرورة وضع الضمانات الدستورية والإجرائية للحفاظ على وحدة العراق أرضا وشعبا.

- منح الحرية الكاملة لأبناء المحافظات في تحديد العلاقة الإدارية بين المحافظة والعاصمة بما يحقق الحد الأدنى من الانسجام في إدارة شؤون المحافظات.

 

*مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث

 

www.shrsc.com

 


[1] - تختلف الدولة الفدرالية في هذا الباب عن الدولة البسيطة، لأنها تكون مركبة من ولايات متحدة مع بعضها البعض، عكس الدولة البسيطة التي تتكون هي الأخرى من محافظات أو ولايات ولكنها ولايات مندمجة، أما الدولة الفدرالية فهي تتكون من ولايات منفصلة، وكل ولاية من هذه الولايات تتمتع باستقلال ذاتي إقليمي فلها حكومة ذاتية مستقلة تباشر سلطاتها على مواطني الولاية عن طريق هيئاتها الدستورية التشريعية والتنفيذية والقضائية.

[2] - يوصف أي نظام بأنه استشاري ( ديمقراطي ) بعد توفر شروط ومعايير معينة تتمثل في أهمية توفر مبدأ السيادة الشعبية الممثلة في وجود حرية للمواطنين في اختيار ممثليهم، وفي حرية المعارضة، وفي حرية التعبير عن الرأي، وفي الأخذ برأي الأغلبية، وفي وجود رقابة شعبية على صانعي القرارات.