الإمام الشيرازي الفقيه المتصدي والفقيه المجدد

 

د. ساعد الجابري

 

 

شهد التاريخ الاسلامي الحديث والمعاصر مصلحين كثيرين كجمال الدين الافغاني، ومحمد عبده، والمجدد والإمام الشيرازي، ومحمد تقي الشيرازي، وكاشف الغطاء، وشرف الدين، والبلاغي.. ومنهم من مارس الاصلاح بالفكر، ومنهم بالموقف، ومنهم بالفكر والموقف، وهم القلة من المصلحين الذين أثروا عالمنا الاسلامي بأفكارهم المضيئة، الذين قرنوا العلم بالعمل فكانت مواقفهم حلقة مكملة لأفكارهم.

والامام الشيرازي هو من المصلحين القلائل الذين وفوا لافكارهم ودفعوا ضريبة مواقفهم من راحتهم واستقرارهم. وربما لم نعط الحقيقة حقها لو قايسنا الامام الشيرازي ببعض المصلحين الذين نعرفهم، لأنه كان من نمط خاص قل نظيره في تاريخنا المعاصر، فقد جمع الفضائل والسمات وقام بالادوار والمسؤوليات خير قيام، فكان ملجأ للأمة في احلك ايامها، ومرجعا لها في دينها ودنياها، وكان المفكر الذي يكتب ويخطب ويحاور ويناقش. كان الاستاذ الذي ربى تلامذته على حب العلم والتمسك بأهداب الدين، وكان القائد الذي يقود الحركات ويؤسس المؤسسات ويقيم الجمعيات، وكان السياسي صاحب المواقف في مواجهة الانظمة المستبيحة للحرمات، وكان الأب الذي يرعى شؤون المجتمع كما يرعى شؤون ابنائه، وفي جميع هذه الادوار والمواقف كان ظهوره تاما بكامل صفاته وسماته، فهو في السياسة مرجع ديني، ترجع اليه الامة في امور دينها ودنياها، وكان الفقيه الموسوعي الذي احاط بأبواب الفقه بشمولية. وفي المرجعية الفقهية سياسي محارب للظالمين.

كان يدير مجتمعه كما يدير اسرته، وكما يدير التنظيمات التي اوجدها، كان الكل الذي يحرك اجزاءه بنسق متناغم، فلا يتقدم جزء على جزء، ولا يتخلف جزء عن جزء. من هنا كان الامام الشيرازي (قدس سره) النموذج الوضاء لرجل الاصلاح العتيد.

يستند الامام الشيرازي في عملية الاصلاح والتحديث الى قواعد عقلية ونقلية مؤكدا ان الاصلاح يجب ان يبدأ من فوق، لأنه اذا فسد العالِمُ فسد العالَم ـ كما ورد في المأثور ـ وبالعكس اذا صلح العالِمُ صلح العالم.. لكن من اين يبدأ اصلاح العالم؟

يبدأ من الفقه، والسبب هو: لما كان الفقه (الشيعي) وبسبب العزلة التي فرضت عليه اصبح منعزلا عن الحياة، وتحول الى فقه يدور حول الفرد، فأصبح يواجه تحديات كبيرة على صعيد حركة التغيير الاجتماعي، وبات من المسلم ان اكبر ما يعيق عملية التغيير هو دوران الفقه حول الفرد وعجزه عن مواجهة متطلبات المجتمع المتجددة.

من هنا انبرى عدد قليل من الفقهاء لحل هذه المعضلة، منهم الامام الشيرازي، فلم يكن من السهل تدوير دفة الفقه بزاوية تسعين درجة من الفرد الى المجتمع، لأنه من المحتم انه سيواجه تراكما من التراث الفقهي الذي يعيق هذا التدوير، لكن مما سهل للامام الشيرازي ذلك هو:

1 ـ الجرأة (الاجتهادية): حيث كان الامام الشيرازي ممن امتلك المقدرة الروحية والنفسية والعلمية، فكان اول فقيه يخرج عن مألوف الفقهاء ويستنبط احكاما في قضايا مستجدة، قضايا ممكنة الحدوث في المستقبل، ثم انه جمع هذه الاحكام واصدرها في كتاب باسم (المسائل المستجدة)، وقد اثار ظهور هذا الكتاب زوبعة في وسط الفقهاء في العراق فشنت عليه الغارات الظالمة، واعتبر البعض هذا العمل مروقا من الدين، لكن لم يمض وقت طويل حتى اضطر بعض الفقهاء تحت ضغط الحاجة ان يسلك السبيل نفسه، واذعنت الحوزة العلمية بأن الامام الشيرازي هو رائد التجديد، وهو اول من ابتكر هذا النهج غير عابئ باللوم والتقريع.

2 ـ الاحاطة الكاملة: اتصف الامام الشيرازي بهذه الصفة، فكان محيطا بكل العلوم الدينية والمعارف الشرعية، ملما بآراء الفقهاء وادلتهم، ومما زاد من سعة اطلاعه وقوة حجته انه كان يأخذ بالسيرة العملية للنبي صلى الله عليه وسلم والأئمة لتدعيم رأيه خلافا لبعض الفقهاء الذين اهملوا هذا الجانب، ولم يمنحوه دورا في التشريع، وكانوا يقولون عنه (حادثة في واقعة) بينما الامام الشيرازي اهتم كثيرا بتاريخ النبي صلى الله عليه وسلم والأئمة وأدخل وقائعهم الحياتية والاجتماعية والسياسية في الاحكام بعد ان استدل على حجية هذه الوقائع، وبهذا اضاف مصدرا مهما الى التشريع اهمله الفقهاء فزاد من الاستيعاب الفقهي واعطاه قدرة اكبر على العطاء، ومتسعا من المرونة في استنباط الاحكام والفقه المتأتي من كلام المعصوم وفعله والذي لا يحصر نفسه بكلام المعصوم فقط هو فقه اكثر حركية وقدرة على مواجهة اعباء ادارة المجتمع، وهذا هو اقرب الى روح الاسلام ومنهجه في اسعاد البشر، وهذا ما اتصف به فقه الامام الشيرازي.

كما ان الصورة التي رسمها الامام الشيرازي للفقيه تختلف عن الصورة المتعارف عليها، فقد تعارفت الحوزات العلمية ان الفقيه هو القادر على استنباط الاحكام الشرعية وحسب، بينما اضاف الامام الشيرازي الى هذه القدرة الكفاءة الادارية والاستعداد النفسي للتصدي وتحمل قضايا الامة.

وهذا جانب مهم من جوانب الاصلاح في فكر وحركة الامام الراحل، لأنه بدون فقيه متصد لأمور الناس لا يمكن القيام بأي عمل تغييري في المجتمع. وقد رسم الامام الشيرازي هذه الصورة عن الفقيه الواعي والفاعل في المجتمع من خلال ممارساته لامور المرجعية، فقد اعطى عن نفسه صورة مشرقة للفقيه الجامع للشرائط، ومن الشرائط بالطبع التصدي لقضايا الامة. وايضا من خلال النماذج التي يطرحها في كتبه عن المرجعية الصالحة، فقد ذكر عددا من الفقهاء كنماذج لعالم الدين المتصدي والواعي لزمانه ولمسؤولياته، من هؤلاء البروجردي الذي وصفه الامام الشيرازي: (من اعلام قم وشخصياتها، تصدى لزعامة الحوزة العلمية فيها، وذلك اثر دعوة كبار العلماء له، وبقدومه الى قم المقدسة ازدهرت الحوزة العلمية وتقدمت تقدما كبيرا وتطورت تطورا عظيما، حيث استطاع السيد البروجردي ايام مرجعيته تقوية الاعتماد على القرآن والحديث، وتضعيف الحكمة والفلسفة وحذفها من مناهج الحوزة العلمية، وفي هذا المجال قام بتأليف الموسوعة الحديثية الضخمة والجامعة).

ويقدم الامام الشيرازي نموذجا آخر من الفقهاء المتقدمين، وهو نصير الدين الطوسي الذي اوقف الزحف المغولي وحد من غطرسة هولاكو، بالاضافة الى ما قدمه من خدمات علمية..يقول عنه: (إن الخواجة نصير الدين لم يكن موفقا فقط في الحد من همجية المغول وبربرية هولاكو خان كبير المغول، بل سعى رغم الصعوبات والمشاكل التي كانت تعصف به الى حفظ التراث العلمي والكيان الاسلامي حتى لا تندثر المفاهيم الاسلامية ولا تنطفئ شعلة حضارته الوهاجة وحفاظا على ذلك فقد انشأ مرصد مراغة المعروف واشتغل بالتدريس، وتتلمذ على يديه ما لا يحصى من طلاب العلوم الدينية، واشتغل بالتأليف ايضا، وألّف كتبا قيمة وغنية).

وكل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا ودون تعليق.

المصدر:الشرق الأوسط اللندنية