« رؤية واشنطن » في النمو الاقتصادي

 

علي توفيق الصادق

 

أصدر «البنك الدولي» دراسة باللغة الإنكليزية في النصف الثاني من عام 2005 بعنوان: «النمو الاقتصادي في التسعينات: تعلُّم من عقدٍ من الإصلاح». وجاءت هذه الدراسة المهمة مصاحبة لتغير رئاسة البنك الدولي مع انتهاء ولاية جيمس ولفنسون التي استمرت 10 سنوات، ومجيء بول وولفوفيتز في حزيران (يونيو) 2005 لتولي رئاسة هذه المؤسسة الدولية المالية المهمة والفاعلة على المستوى الفكر الإنمائي.

إن هذا التوجه في استعراض تجارب المؤسسات الدولية ودراستها، وتقويم أدائها وتحديد مسارات جديدة ونشاطات متنوعة في ضوء التغيرات الدولية وبروز قضايا غير معهودة، يفتح آفاقاً جديدة تحتاج إلى معارف ومهارات متجددة تساعد على تحقيق الأهداف، جديدة كانت أو قديمة.

وعلى غرار «البنك الدولي»، أعد «صندوق النقد الدولي» في أعقاب تغير رئاسته في حزيران 2004 وثيقة عنوانها «استراتيجية متوسطة الأجل لصندوق النقد الدولي: مواجهة تحدي العولمة». وهذا التوجه على الساحة الدولية في دراسة الأداء وتقويمه والتعلم من التجارب وتحديد النجاحات وأسبابها، لتقويتها وتعزيزها وتسليط الضوء على القيود لفكها أو تجنبها، لم يلقَ صدى على الساحة العربية في إطار المؤسسات العربية الإقليمية، لأن رئاساتها لا تتغير وتظل راضية قانعة بما تقوم به من دون رقيب أو حسيب، ومنسجمة مع مقولة «لا تهزّ القارب».

وتتلخص الرسالة الرئيسة لدراسة «البنك الدولي» في التشديد على عدم وجود مجموعة كونية فريدة من القوانين يمكن أن تتبناها الدول، في سعيها الى تحقيق النمو المستدام. ويتمثل السبب في أن النمو المستدام يعتمد على وظائف أساسية يجب القيام بها مع مرور الوقت، مثل التراكم الرأسمالي المادي والبشري، والتوزيع الكفي للموارد، وتبني التكنولوجيا، وتعميم فوائد النمو الاقتصادي على أفراد المجتمع.

وهنا يبرز التساؤل: أي من هذه الوظائف يُعتبر الأعظم حرجاً أو قيداً في فترة زمنية محددة، وبالتالي أي سياسات تُتبع وأي مؤسسات تُنشأ لتنفيذ هذه الوظائف، وبأي تسلسل؟ لا توجد إجابة واحدة تطبق على كل البلدان وفي كل الأوقات، لأن ذلك يعتمد على أوضاع البلدان وثقافاتها وتاريخها.

وتصب هذه النتائج التي انتهت إليها دراسة «البنك الدولي» في مسار غير المسار الذي أوصى به الاقتصاديون الذين عملوا على مساعدة البلدان على إصلاح اقتصاداتها في المجالين الاستقراري والهيكلي، والذين طلبوا من القائمين على الشؤون الاقتصادية والمالية في الكثير من دول العالم تبني وتنفيذ برامج إصلاح تعتمد على توليفة ما عرف بـ «رؤية واشنطن» التي بشر بها الاقتصادي الأميركي جون وليمسون في بداية تسعينات القرن العشرين. وتتكون الرؤية من السياسات التي رأى فيها معظم اقتصاديي «البنك الدولي» و «صندوق النقد الدولي» أنها ضرورية لخلاص بلدان أميركا الجنوبية من دورات التضخم والنمو المخفوض.

وبذلك تطورت النظرة إلى النمو الاقتصادي من عملية مركبة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، كما كان ينظر إليها في الخمسينات والستينات، إلى عملية اختيار للسياسات المناسبة في التسعينات من القرن الماضي، على أساس «رؤية واشنطن». وتتضمن «رؤية واشنطن» 10 إصلاحات تتمثل في ضبط المالية العامة من طريق خفض عجز الموازنة، وترتيب أولويات النفقات العامة، والإصلاح الضريبي، وتحرير القطاع المالي، وتحرير التجارة الخارجية، وتحرير تلقي الاستثمارات الأجنبية المباشرة، والتخصيص، ورفع القيود، والمحافظة على حقوق الملكية.

ونفذت بلدان كثيرة منذ بداية تسعينات القرن الماضي، برامج إصلاح متسقة مع «رؤية واشنطن». ففي أوروبا الشرقية وفي الاتحاد السوفياتي السابق، تلت مرحلة الشيوعية إصلاحات السوق. وفي أميركا الجنوبية تمكنت البلدان من تحقيق الاستقرار لاقتصاداتها وقهر التضخم الجامح، وفتح أسواقها أمام التجارة الدولية ورأس المال، وتحويل المشاريع العامة إلى القطاع الخاص. وفي آسيا تخلت الهند عن التخطيط المركزي، وتبنت إصلاحات واسعة، واستمرت الصين في إصلاحاتها السوقية. وفي أفريقيا خُصصت مشاريع عامة، وقُلّص القطاع العام، وحُررت التجارة. وفي البلدان العربية نفذت الأردن وتونس والمغرب ومصر والجزائر واليمن برامج استقرارية وهيكلية تجسدت في خفض عجز الموازنة، وخفض التضخم، وتخصيص الكثير من المشاريع العامة وتحرير التجارة والأسواق المالية، وتشجيع الاستثمارات الأجنبية المباشرة.

وهكذا، شهدت تسعينات القرن العشرين إصلاحات غير مسبوقة من حيث الشمول والاتساع والعمق، وازداد عدد الاقتصادات المفتوحة في العالم النامي، وتقلص التضخم والعجز المالي، وباتت الحكومات أصغر حجماً، وخُففت القيود على نشاطات القطاع الخاص، وأصبحت قطاعات مال تعتمد أكثر على السوق. كذلك زاد عدد الديموقراطيات في العالم من 60 إلى 100 خلال التسعينات، كما أن الخدمات الاجتماعية، خصوصاً التعليم والصحة، تحسنت باستمرار.

لقد كانت النظرة في أوائل التسعينات أن هذه التطورات الحميدة، في ظل بيئة دولية مواتية من حيث استقرار أسعار السلع وسرعة نمو التجارة الدولية وغزارة تدفق رأس المال، ستمكن البلدان النامية من تعويض ما فقدته في الثمانينات والعودة إلى مسار النمو المستدام.

ولكن النتائج كانت غير محسوبة، إذ فاقت التنبؤات الواقع في بعض الحالات وانخفضت عنه في حالات أخرى. ففي شرق آسيا وجنوبها، إضافة إلى الصين والهند، كانت النتائج باهرة من حيث ارتفاع النمو وتقليص الفقر وتعزيز التقدم الاجتماعي. ولكن في الوقت ذاته، استمرت بلدان كثيرة في أميركا الجنوبية تعاني دورات الازدهار والانحسار. وفي بلدان الاتحاد السوفياتي السابق، كان الانتقال إلى اقتصاد السوق صعباً ومكلفاً.

وفي البلدان العربية برزت ظاهرتان مصاحبتان للنمو البطيء لمتوسط دخل الفرد المقدر بنحو واحد في المئة خلال التسعينات، وتجسدت الظاهرتان في ارتفاع معدلات البطالة ومستويات الفقر. إذ تعدى متوسط معدلات البطالة 13.5 في المئة عام 2000 وارتفع إلى نحو 25 في المئة، باستثناء دول مجلس التعاون الخليجي، التي بلغ متوسط نسبة البطالة فيها نحو تسعة في المئة. أما نسبة الفقراء، على أساس دخل يساوي دولارين في اليوم، فقدرت بنحو 25 في المئة. يُذكر أن نحو 47 في المئة من سكان المعمورة يعتبرون فقراء على أساس دخل يساوي دولارين في اليوم.

وفي ضوء ذلك جاء إعلان الألفية في شأن التنمية الذي تبنته الأمم المتحدة في أيلول (سبتمبر) عام 2000، الذي حدد ثمانية أهداف رئيسة، على أن تُحقق في عام 2015: القضاء على الفقر المدقع والجوع، وتعميم التعليم الابتدائي، وتعزيز المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة، وخفض معدل وفيات الأطفال، وتحسين الصحة النفسية، ومكافحة فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز) والسل وغيرهما من الأمراض، وضمان استدامة البيئة، وإقامة شراكة دولية من أجل التنمية.

ولكن اختلاف معدلات النمو في كل المناطق خلال التسعينات، على رغم تبني توليفة «رؤية واشنطن»، حفز «البنك الدولي» على إعداد هذه الدراسة لاستخلاص الدروس والعبر لعمله وعمل المهتمين في التنمية مستقبلاً. ويبدو أن الوقت حان لترك توليفة «رؤية واشنطن» وتبني توليفة جديدة وافقت عليها 16 شخصية اجتمعت في برشلونة في أيلول (سبتمبر) 2004 وأصدرت «رؤية برشلونة» التي سنتناولها في مقالة لاحقة.

مستشار اقتصادي في «المركز الكندي لدراسات الشرق الأوسط».

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور.

المصدر: الحياة اللندنية-25-6-2006