تفسير
آخر للأزمة المالية العالمية.. الإفقار المتعمد
همام
الشماع
إذا كانت الأزمة المالية
الحالية التي يمر بها العالم هي نتاج الإفراط والتفريط، الإفراط "في
التمويل لصالح الربح الوفير" والتفريط "بالأمان لصالح ركوب المخاطر
العالية"، فإننا نعتقد أيضا أن فقاعة الاقتصاد المالي التي نجمت عن
"الإفراط والتفريط" قد أدت إلى انتفاخ الاقتصاد الحقيقي الذي ظهر بشكل
ارتفاعات مغال بها في قيم الأصول بكل أنواعها الحقيقية والمالية،
والمادية الملموسة والكامنة، والظاهرة والخفية ولقد نجم عن هذا
الانتفاخ شعور بالإثراء لدى الدول والأفراد أفرز بدوره ميلا نحو نمو
الإنفاق والاستهلاك في الاقتصادات المتقدمة وانتقل منها إلى الاقتصادات
الناشئة عبر الطلب المتزايد على صادرات هذه الدول التي انتعشت
اقتصاداتها الحقيقية ولكن تأسيسا على فقاعة الاقتصاد المالي للدول
المتقدمة وهكذا كانت العولمة المالية وسيلة لنقل الفقاعة إلى كل
الاقتصاد العالمي. فالدول ذات الاقتصادات الناشئة مثل الصين والهند
اللتين تضمان أكثر من ثلث سكان الكرة الأرضية (بنسبة 37.1%) حسب بيانات
2009 بدأت تحقق بفضل انتشار فقاعة الاقتصاد المالي العالمية نموا
متسارعا نجم عن تزايد الطلب على صادراتها ومكنها من الحصول على فوائض
تجارية عالية رفدت وعززت النمو ونتيجة لهذا النمو الكبير في الناتج
المحلي العالمي الذي ارتفع إلى ما يقرب من ثمانية أمثال ما كان عليه
منذ 1950 مرتفعا من حوالي سبعة تريليونات دولار إلى ما يقارب الخمسين
تريليونا في 2008 في وقت تزايد السكان بأكثر من الضعف فقط من ثلاثة
تريليونات إلى 6.6 تريليونات في 2008، نتيجة لذلك فقد أصبحت المنافسة
على الموارد خصوصا الناضبة والمنافسة على السلع تشكل سمة جديدة
للاقتصاد العالمي، حيث بدأت نسبة الاستهلاك الأسري في العالم ترتفع
لصالح الدول النامية على حساب الدول الغنية التي كانت تستحوذ على 80%
في عام 1998 لتصبح هذه الحصة في أوائل العام الماضي 65%، في حين ارتفعت
حصة الاستهلاك الأسري للدول النامية والاقتصادات الناشئة إلى 35%
ولقد كان من أبرز تجليات هذه المنافسة الحادة على الموارد والسلع هو
الارتفاعات الجنونية في أسعار الموارد الرئيسية في أوائل العام 2008
حيث ارتفعت أسعار النفط والسلع الأولية والخام إلى مستويات قياسية غير
مسبوقة نتيجة المضاربات العفوية التي جرت في البورصات العالمية والتي
بدورها نجمت بشكل عفوي عن الشعور بأن الموارد شحيحة بعد أن بدأت قيمة
الدولار تجاه العملات الرئيسية في التراجع بشكل متواصل، حيث كان الهروب
من الدولار إلى السلع الحقيقية الحيثيات أعلاه تشير إلى أن فقاعة
الاقتصاد المالي التي بدأت من فقاعة الرهن العقاري وامتدت للائتمان
المصرفي، ربما تكون قد أسهمت في إيجاد حل مستقبلي للتنافس الحاد على
الموارد النادرة لصالح البلدان الأقوى وعلى حساب الضعيفة أو لنقل على
حساب المعتمدة في نموها على البلدان القوية اقتصاديا. فمن هي البلدان
المعتمدة في نموها على البلدان القوية اقتصاديا؟
هي دون شك الاقتصادات
المصدرة سواء للسلع المصنعة أو الخامات. ولعل ما سيترتب على الأزمة كما
يبدو لنا هو العودة نحو الحمائية التجارية بدرجات متفاوتة، والبحث
المتواصل عن الخامات البديلة وخصوصا النفط مقابل انحسار العولمة
المالية.البلدان المصدرة للفوائض المالية كالصين والدول المصدرة للنفط
بما فيها روسيا قد بدأت تعيد النظر في سياسات الاستثمار لصناديقها
السيادية وتتجه بدرجة أكبر نحو الاستثمار في داخل اقتصاداتها، كما أن
المصارف والمؤسسات المالية في أرجاء العالم والتي حضيت بدعم الحكومات
والمصارف المركزية إثر تراجع مستويات السيولة فيها بسب استثماراتها في
أصول لم تكن مأمونة (سامة) سوف تلتزم الحذر من الآن فصاعدا في سياساتها
الاستثمارية وستبحث عن التوظيف الآمن وعلى الأغلب في أصول محلية وفي
المقابل فإن أكبر اقتصاد في العالم الولايات المتحدة التي كانت
المستورد الأكبر الذي يحفز الطلب على السلع الصينية والهندية والآسيوية
وعلى المواد الخام بما في ذلك النفط معتمد على عجز الميزان التجاري
الذي كان يقابله ويموله تدفق فوائض الدول المصدرة المستثمرة في
الصناديق السيادية في الأسهم وخصوصا في سندات الخزانة الأميركية، هذا
الطلب الأميركي سوف يتراجع إلى حدود كبيرة كنوع من الرد (العفوي أو
المقصود) على سياسة دول الفوائض المالية في التوجه نحو الاستثمار
الداخلي.
تراجع الطلب على سلع
البلدان النامية المصنعة والخام سيؤدي حتما إلى تراجع معدلات نموها
التي فاقت لدى البعض منها الرقم الأحادي لتصل إلى 11% في الصين، بحيث
أصبح معدل النمو السنوي لصادراتها الصناعية إلى الولايات المتحدة يهدد
التوازن الاقتصادي الدولي، كما أن هذا النمو القوي في الصادرات رشحها
بفضل الفوائض العالية لأن تحقق نموا عاليا في الناتج المحلي ومعدل دخل
الفرد الذي أصبح مرشحا للاقتراب من مستويات الاستهلاك الفردي الأميركي
خلال بضعة عقود وهذا هو ما يصنع الرعب في الدول الغنية، إذ إن شح
الموارد بالقياس إلى نمو السكان ونمو المستوى المعيشي لهم في
الاقتصادات الناشئة يهدد بعملية إفقار شاملة في العالم تطال مستوى
معيشة ورفاه الفرد الأميركي التي يتفاخر بها الشعب الأميركي ويباهي بها
كل شعوب العالم، وذلك عبر آلية التضخم الذي يخفض من مستويات المعيشة
للأغنياء عبر آلية ارتفاع الأسعار وانخفاض قيمة النقود وأسعار الصرف
ولقد اقترب الغرب والولايات المتحدة من الشعور بهذا الإفقار في صيف
2008 عندما ارتفعت أسعار النفط والسلع المختلفة رغم أن هذا الارتفاع قد
لا يعني شيئا بالقياس إلى الإفقار الذي كان متوقعا إذا استمر نمو
صادرات الدول النامية من حيث القيمة والكم فبدون الأزمة المالية
العالمية فإن أسعار النفط كانت مرشحة لأن تتجاوز حاجز المائتي دولار
وتستقر فوقه إلى فترة طويلة. في نفس الوقت فإن ارتفاع أسعار النفط كان
سيساهم في رفع أسعار السلع المستوردة في الولايات المتحدة وأوروبا من
الصين والهند، ناهيك عن الارتفاع المتوقع لأسعار كل المواد الأولية
والخام نتيجة ارتفاع مستويات المعيشة في الدول ذات الفوائض المالية
والتي سيزداد طلبها على هذه المواد.كان هناك اطمئنان لدى الكثير من
الاقتصاديين إلى أن الوضع آمن ولا توجد مخاطر تهدد علاقات الاقتصادات
العظمى بالدول النامية طالما أن الفوائض المالية يتم تدويرها في أصول
في مختلف أنحاء العالم وأنها في النهاية تستقر في الأصول المالية
الأميركية وتؤدي وظيفتها في تمويل الرفاه الاقتصادي الأميركي القائم
على الاستهلاك الذي يموله عجز تجاري مزمن يغطى بالتوظيف المالي في أصول
أميركية منها سندات الخزينة لقد كان العالم مستسلما لفكرة أن لا مجال
لنزع أسباب القوة عن الأغنياء بل مقتنعا بفكرة أن غناهم هو الذي يؤمن
استيراد السلع المصنعة من الصين والهند وسائر الدول النامية ويؤمن
استيراد النفط بالأسعار المرتفعة من الدول المنتجة للنفط، ولولا هذا
الغنى المفرط لما استطاعت الدول النامية أن تصدر لهم السلع المصنعة
والمواد الخام.طوال كل تلك السنين لم تكن فكرة الإفقار أو لنقل نظرية
الإفقار قد تبلورت بعد لتثير المخاوف من إجراءات احترازية وحتى قمعية
يتخذها الأغنياء للحد من إثراء الفقراء الذي ينافس غنى الأغنياء ولكن
السؤال الذي بدأ يطرح نفسه بعد الأزمة المالية العالمية هو: هل تم دس
السم بالسمن؟ أي هل أن الأصول المسمومة التي تم نشرها في كل أصقاع
المعمورة كانت مدسوسة عن عمد وعن سبق إصرار في النظام المالي الأميركي
ومنه إلى النظام المالي العالمي؟
مهما حاولنا أن نسوق أدلة
الإثبات فإن هناك ما يفوقها من أدلة النفي خصوصا عندما نتتبع السياق
التاريخي لظهور أزمة الرهن العقاري. فكل المؤشرات تؤيد الرأي القائل
بأن ما حدث هو في أسوأ الأحوال كان مجرد إفراط في التمويل جريا وراء
الربح كما أنه أخطاء ترتبت على تبني أفكار الليبراليين الجدد والتي
تدعو إلى حرية بدون حدود وتدعو للعودة عن الأفكار الإصلاحية للكنزية
منقذة اقتصاد السوق من الأزمات، إضافة لكونها سلوكا غير مسؤول اتخذته
السلطات الاقتصادية الرقابية في الولايات المتحدة والتي اتخذت نفس
الموقف الفكري الذي سمح بهذا التدهور ولأن هدف هذه المقالة ليس إثبات
وجود نظرية المؤامرة بقدر ما تهدف إلى توضيح بعض النتائج المحتملة
للأزمة، فقد برزت أمامنا نظرية الإفقار المتعمد كتفسير آخر ممكن للأزمة
المالية العالمية. فالعبرة يجب أن تكون بالنتائج وليس بالنوايا التي
أدت إلى هذه النتائج. ويكفي للتدليل على واحد من أهم النتائج وهو
انحسار العولمة المالية بسعي الدول الغربية للتقليل والحد من ظاهرة
تنقل رؤوس الأموال بين الدول بحثا عن ملاذات آمنة للمتهربين من الضرائب
في العالم والواقع أن أحدا لم يسمع كثيرا عن الملاذات الآمنة إلا بعد
الأزمة المالية والتي تُستهدف بها الآن كمرحلة أولى كل من سويسرا
ولوكسمبورغ والنمسا ولربما في مرحلة لاحقة دول الخليج التي تخلو من
الضرائب حيث يمكن أن يطلق عليها أيضا ملاذات آمنة مستقبلا.
من النتائج المترتبة على
الأزمة، تنامي النزعة الحمائية التي ستمتد آثارها فترة طويلة لما بعد
انتهاء الأزمة. هذه النزعة ستتسبب بأضرار بالغة وخراب ستتحمله الصناعة
التصديرية للأسواق الناشئة، التي صُممت أصلا للتصدير إلى الأسواق
الغنية، مما قد يؤدي إلى الإغلاق والإفلاس للعديد منها ويحول بالتالي
دون إمكانية استعادة موقعها السابق في السوق العالمية وذلك لأن الأسواق
الغربية والسوق الأميركية خصوصا سوف تتكيف في ظل النزعة الحمائية
الجديدة على الاعتماد على المنتجات المحلية التي يجب أن تستعيد نشاطها
لتوفير فرص العمل التي فقدتها السوق الأميركية خلال الأزمة فمعلوم أن
الاقتصاد الأميركي قد فقد ملاين الوظائف خلال الأزمة بسب تراجع الإنفاق
الاستهلاكي الذي تعتمد عليه في توليدها نسبة تزيد عن 65% من الناتج
المحلي الإجمالي وخصوصا في قطاعي الصناعة والخدمات مما يدفع إلى تراكم
المخزونات الذي بدوره يؤدي إلى تراجع التجارة العالمية إلى أدنى
مستوياتها في 80 عاما ولهذا فحتى لو تعافى الاقتصاد الغربي من أزمة
الائتمان فإن الصناعة الأميركية والأوروبية عموما التي تلقت الإعانات
والدعم الحكومي في مواجهة الأزمة سوف تعمل المستحيل يساندها في ذلك جهد
حكومي واضح وصريح على استعداد لنسف كل أسس منظمة التجارة العالمية ولكن
إذا ما تخندق الاقتصاد العالمي في بوتقة الحماية التجارية وتراجع حجم
التجارة العالمية وتبعا لذلك صادرات الأسواق الناشئة وفوائضها المالية
ومن ثمة نموها، فإن من المؤكد أن يتراجع طلبها على مختلف السلع والمواد
الخام المستوردة بما في ذلك النفط الخام الذي بفضل طلبها إياه ارتفعت
أسعاره في السنوات الأربع الماضية بسب التنافسية العالية التي أفرزها
النمو في الأسواق الناشئة من هنا نصل إلى غاية أخرى لعملية الإفقار
المتعمد، وهي سحب بساط الثروة من تحت أقدام الدول المنتجة للنفط وتقليل
تنافسيتها ليس على الموارد المتناقصة فحسب، بل أيضا على مقدرتها في
استقطاب الاستثمارات والسيولة إلى دولها.
* خبير اقتصادي عراقي
وكل ذلك حسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصاً ودون
تعليق .
المصدر: aljazeera.net
|