هل انخفاض أسعار النفط من مصلحة الدول المستهلكة؟ (1 - 2)

 

د. أنس بن فيصل الحجي

 

 

انخفاض أسعار النفط تحت حد معين يتعارض مع سياسات ومصالح وآمال وطموحات الدول المستهلكة. بالإضافة إلى ذلك فإن الآثار السلبية لانخفاض أسعار النفط على الدول المستهلكة أكبر بكثير من الآثار السلبية لارتفاع أسعار النفط عليها. قبل أن يظن البعض أن هناك خطأ مطبعيا في الجملتين السابقتين، ويظن أن المقصود هو الدول المنتجة للنفط، أؤكد أن الحديث في هذا المقال عن الدول المستهلكة للنفط .لاشك أن هناك آثارا إيجابية لانخفاض أسعار النفط على اقتصادات الدول المستهلكة، خاصة في فترات الكساد و الأزمات الاقتصادية، بما في ذلك الفترة الحالية ولا يخفى على أحد أن انخفاض أسعار النفط من نحو 150 دولارا للبرميل إلى أقل من ثلث ذلك، و الذي نتج عن انخفاض كبير في الطلب على النفط، يمثل أكبر عملية تحفيز اقتصادي شهدها التاريخ، وتتجاوز كميتها كمية الأموال التي قررت الحكومة الأمريكية إنفاقها أخيرا. فالوفورات التي حققتها الولايات المتحدة من انخفاض أسعار النفط من مستوياتها القياسية إلى المستويات الحالية تجاوزت المليار دولار يوميا لهذه الوفورات أثر أكبر في الاقتصاد من عمليات التحفيز التي أقرتها حكومة بوش أو حكومة أوباما لأنها تذهب مباشرة إلى جيوب المستهلكين الذين يدفعون الآن نحو 1.75 دولار لجالون البنزين بدلا من 4.25 دولار للجالون في بداية الصيف الماضي.

أما أموال عمليات التحفيز فإن جزءا بسيطا منها قد يذهب إلى جيوب الشعب الأمريكي. باختصار، استفادت كل عائلة أمريكية من الانخفاض الكبير في أسعار النفط، بينما لن تستفيد كل عائلة أمريكية من النفاق الحكومي الهائل الذي يهدف إلى تحفيز الاقتصاد ولكن ما ذكر سابقا هو من الأحداث النادرة في التاريخ، وتأثيرها سينتهي خلال فترة قصيرة. إن أي آثار إيجابية لانخفاض أسعار النفط تقتصر على المدى القصير، وعلى الجانب الاقتصادي فقط، لكن انخفاض الأسعار ليس من صالح الدول المستهلكة على المدى الطويل، ويعرض الجوانب الأخرى، خاصة الأمن القومي والبيئي للخطر. إن مطالبة الساسة الغربيين "أوبك" بزيادة الإنتاج وتخفيض الأسعار يتفق مع المصالح الخاصة لهؤلاء الساسة الذين يريدون أن ينجحوا في الانتخابات المقبلة، ولكنه يتعارض مع مصالح بلادهم. وليس هناك دليل أكبر على ذلك من مطالبة البعض فرض ضرائب ضخمة على المنتجات النفطية بهدف رفع أسعار هذه المنتجات لمنع شعوب الدول المستهلكة من زيادة اعتمادها على النفط "المستورد" و"الملوث للبيئة". لو كانت أسعار النفط المنخفضة مفيدة لهم، فلماذا يقومون بفرض ضرائب ضخمة على المنتجات النفطية؟ إن انخفاض أسعار النفط ليس في مصلحة الدول المستهلكة، ويتعارض مع سياسات الطاقة، وسياسات الأمن القومي، والسياسة الخارجية، والسياسة البيئية لهذه الدول لأن من نتائج انخفاض أسعار النفط ما يلي:

 زيادة الاعتماد على النفط على حساب مصادر الطاقة الأخرى

كل سياسات الطاقة التي تبنتها الدول الصناعية خلال 35 سنة الماضية تهدف إلى تخفيض الاعتماد على النفط وزيادة الاعتماد على مصادر الطاقة الأخرى، خاصة المتجددة منها. ويرى صانعو القرار في الدول الصناعية أن زيادة الاعتماد على مصدر واحد للطاقة، مهما كان، يهدد الأمن القومي والاقتصادي، لذلك لابد من تبني الحكومة لمشاريع الطاقة البديلة ودعمها إلا أن انخفاض أسعار النفط يؤدي إلى زيادة الاعتماد عليه على حساب مصادر الطاقة الأخرى رغم التدخل الحكومي. فانخفاض أسعار النفط يزيد من تكلفة التدخل الحكومي بشكل كبير، والذي يؤدي بدوره إلى رفع الضرائب على المستهلكين، و بالتالي خسارة السياسيين مناصبهم. بعبارة أخرى، لن تصمد السياسات الحكومية المعادية للنفط أمام ضغوط قوى السوق، وهو الأمر الذي تؤيده البيانات التاريخية حيث زاد استهلاك النفط وتوقفت مشاريع الطاقة البديلة أو تباطأت مع انخفاض أسعار النفط. كما تؤيده بيانات الأشهر الثلاثة الماضية، حيث توقفت بعض المشاريع، وهناك الكثير من مشاريع الطاقة المتجددة التي ستعلن إفلاسها قريبا. وهنا لابد من التلميح إلى أن إنفاق بعض الدول الخليجية مليارات الدولارات على مشاريع الطاقة المتجددة لن يؤول إلى نتائج ملموسة، وقد ينتهي هذا الاستثمار إلى أكبر عملية إفلاس في تاريخ دول الخليج، وكل ما أتمناه أن لا تتحول هذه الاستثمارات إلى شركات مساهمة تسبب كارثة أخرى في أسواق الأسهم الخليجية.

2 ـ زيادة الاعتماد على واردات النفط

تشير البينات التاريخية إلى أن من أهم نتائج انخفاض أسعار النفط زيادة اعتماد الدول المستهلكة على النفط المستورد. هذه الزيادة تتعارض مع أحد مبادئ سياسات الطاقة في هذه الدول والذي يقول إنه يجب تخفيف الاعتماد على النفط المستورد. كما تتعارض هذه الزيادة مع سياسة الأمن القومي الرامية إلى تخفيف الاعتماد على واردات النفط حتى لا تصبح السياسات الداخلية والخارجية للدول المستهلكة رهينة متطلبات الدول المصدرة للنفط. ويرى العديد من المحللين والكتاب أن هناك تكلفة اقتصادية واجتماعية تصاحب واردات النفط والتي عادت لا تنعكس في أسعار هذه الواردات. ويرى هؤلاء أن الدول المستهلكة قد تضطر إلى تغيير سياساتها الخارجية فيما يخص بعض الأمور للوصول إلى تسوية سياسية بسبب ضغط الدول المصدرة للنفط. وبالنسبة لهؤلاء فإن زيادة الاعتماد على واردات النفط يعني المزيد من التنازلات السياسية وارتفاع التكاليف الاقتصادية والاجتماعية لهذه الواردات. وتتمثل التكاليف الاجتماعية بقيام بعض مستهلكي النفط بدفع سعر أعلى في حال انقطاع الإمدادات (سواء كان من الدول المستهلكة أو المصدرة, وسواء كان مقصودا أولا), على الرغم من أنهم لا يستهلكون نفطاً مستورداً. أما التكاليف الاقتصادية فإنها تتمثل في التضخم والبطالة الناتجين عن انقطاع الإمدادات وارتفاع أسعار النفط. وفي محاولة لدراسة أثر انقطاع إمدادات النفط, قام مكتب التقييم التكنولوجي الأمريكي بإعداد تقرير في عام 1984 يتضمن محاكاة لحالة يتم فيها انخفاض واردات النفط فجأة بمقدار ثلاثة ملايين برميل يومياً. واستنتج التقرير أن الناتج القومي الإجمالي سينخفض بمقدار 5 إلى 9 في المائة, وأن التضخم سيزيد بمقدار 2.7 إلى 5.4 في المائة، وأن البطالة سترتفع بمقدار 1.7 إلى 2.4 في المائة. كما استنتج التقرير أن الاستثمار الخاص والاستهلاك سينخفضان. وأوضحت دراسة أخرى أن زيادة الاعتماد على واردات النفط ستؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط, وانخفاض معدلات النمو الاقتصادي, وزيادة التوتر السياسي على المستوى العالمي. باختصار، انخفاض أسعار النفط يتناقض مع مصالح الدول المستهلكة، وسيتم استعراض بقية النتائج في المقال القادم بإذن الله.

وكل ذلك حسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصاً ودون تعليق .

المصدر: aleqt.com