سنغافورة... نموذج لمجتمع غير مسيس

 

د. عبدالله المدني

 

أثبتت الانتخابات العامة الأخيرة في سنغافورة، أن سكان هذه البلاد لا يزالون غير مسيسين، ولا يكترثون بالسياسة قدر اكتراثهم بالمسائل الاقتصادية والمعيشية. وهذا بطبيعة الحال أحد أسرار نهضتهم الاقتصادية. إذ لو كانوا مثل مجتمعاتنا العربية المنغمسة طولا وعرضا في الجدل السياسي الفارغ والمناقشات الأيديولوجية العقيمة، لما حققوا معجزتهم الراهنة، ولكانت أحوالهم شبيهة بأحوالنا.

ففي انتخابات الأسبوع الماضي التي عدت بمثابة أول امتحان شعبي لرئيس الحكومة لي هسيان لونغ (54 عاما)، ابن لي كوان يو مؤسس سنغافورة الحديثة ومهندس معجزتها، والذي كان قد خلف رئيس الحكومة السابق غوه تشوك تونغ في أغسطس 2004، حقق حزب "العمل الشعبي" الحاكم بقيادة لونغ فوزا ساحقا بحصوله على 82 مقعدا من مجموع مقاعد البرلمان الأربعة والثمانين، فيما ذهب المقعدان المتبقيان إلى حزبين من أحزاب المعارضة الرئيسية الثلاثة. وبهذه النتيجة تكرر ما حدث في انتخابات عام 2001، على الرغم من تميز الانتخابات الأخيرة بجملة من الأمور، منها أولا أن نسبة المقترعين كانت هي الأعلى في تاريخ هذه البلاد التي تفرض الاقتراع الإجباري (1.15 مليون مقترع من أصل 1.22 مليون يحق لهم المشاركة). ومنها ثانيا أن الانتخابات أجريت في ظل مناخ جديد مغاير لكل الانتخابات السابقة بما في ذلك انتخابات العام 2001 التي أحاطتها إجراءات أمنية صارمة بسبب تداعيات أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وتأثرت نسبيا بمواقف السنغافوريين من ذوي العرق الملايوي الرافضة لخطط الحكومة بشأن تقييد المعاهد الإسلامية ومنع ارتداء الحجاب (تودونغ) في المدارس. ومنها ثالثا تنافس أحزاب المعارضة لأول مرة منذ عشرين عاما على أكثر من نصف عدد المقاعد البرلمانية.

كان بإمكان المقترعين مثلا أن يحجبوا أصواتهم عن الحزب الذي حكم بلادهم دون انقطاع منذ عام 1959 وأرسى ما يشبه النظام الديكتاتوري الصارم على مدى نصف قرن، سعيا للتغيير أو تأثرا بما يجري في أماكن أخرى من العالم أو استجابة لما نادت به المعارضة من إطلاق الحريات السياسية بشكل أوسع وتحرير وسائل الإعلام من سطوة الحكومة وتغيير القوانين الانتخابية واشتراطاتها الصعبة. غير أن الناخب السنغافوري غير المولع بالسياسة وتسييس الأمور بصفة عامة، فضل أن يصوت للاستمرارية، منطلقا من حسابات معيشية واقتصادية بحتة، لاسيما وأن قضايا مثل فرص العمل وسياسات الإسكان وكلفة المعيشة ونوعية البرامج التعليمية والرعاية الصحية والتأمين ضد البطالة... احتلت الحيز الأوسع من المناقشات الانتخابية.

وخلافا لبعض التوقعات التي أشارت إلى احتمال تأثر خياراته بما شهدته البلاد في السنوات الأخيرة من تراجع نسبي في معدلات الدخول وتقلص فرص التوظيف في القطاع الصناعي وارتفاع كلفة المعيشة والعلاج والمواصلات، فإن الناخب السنغافوري أدرك بوعيه وثقافته أن هذه التحولات ليست بسبب سياسات حكومية خاطئة أو كنتيجة لفساد أو إهمال إداريين بقدر ما هي نتيجة لعوامل خارجية مرتبطة بظاهرة العولمة والتجارة الحرة والصعود الاقتصادي للعملاقين الصيني والهندي والمنافسة المتنامية من قبل دول الجوار.

وهو لئن تذكر هذا وقت الاقتراع، فإنه تذكر أيضا أن ما تحقق في بلاده من معجزات اقتصادية مبهرة، كان بفضل سياسات الحزب الحاكم ورجاله ممن أقاموا إدارة هي اليوم ضمن أقل الحكومات فسادا في العالم، بشهادة البنك الدولي ومنظمات الشفافية العالمية، وصعدوا بالبلاد إلى المرتبة الثانية في آسيا بعد اليابان لجهة نصيب الفرد من إجمالي الناتج الوطني، وساهموا في إقامة أفضل البنى التحتية وتقديم أجود الخدمات العامة، الأمر الذي رفع حجم الاستثمارات الاجنبية من 5.4 مليار دولار في عام 1965 إلى 109 مليارات دولار في عام 2005.

ويشار في هذا السياق إلى أن نسبة البطالة في سنغافورة تقل عن 3.5 بالمئة وأن عدد من يمكن وصفهم بالفقراء لا يتجاوز 120 ألفا من أصل عدد السكان البالغ 4 ملايين نسمة، وأن 8 بالمئة من عدد السكان فقط يحصلون على دخول شهرية تقل عن ألف دولار أميركي، وأن 3 بالمئة من السكان فقط يعيشون في مساكن مكونة من غرفتين، وأن 40 بالمئة من العمالة الوطنية حاصلة على الأقل على مؤهلات ما بعد الدراسة الثانوية. وفيما يعتبر أكثر من 80 بالمئة من السنغافوريين أنفسهم في عداد الطبقة الوسطى، فإن الإحصائيات المصرفية تؤكد نمو أعداد الأثرياء باضطراد، بدليل وصول عدد من يملكون مليون دولار في عام 2004 إلى 50 ألف مواطن بزيادة قدرها 22 بالمئة عن عام 2003.

لقد بذلت أحزاب المعارضة جهدا خارقا لاستمالة الناخب السنغافوري، مستخدمة وسائل وتكتيكات قديمة وجديدة. فهي لئن راهنت على اختراق الحصار الإعلامي المفروض عليها من قبل الحكومة باللجوء إلى استخدام الإنترنت كوسيلة لشرح برامجها وحشد الجماهير خلفها- خاصة في ظل ولع الفئات الشابة بالإنترنت وندرة خلو المنازل السنغافورية من خدماته– فإنها أيضا راهنت على استدرار عطف الناخبين من خلال تصوير نفسها كضحية لجبروت الحكومة وتمرس الحزب الحاكم في تشديد الخناق على خصومه، مشيرة في هذا الصدد إلى العديد من القضايا التي رفعتها الحكومة أمام القضاء ضد رموز المعارضة وفازت بها، لكن دون اعترافها بأنها هي من تسببت في بعض تلك الحالات بإطلاقها التهم دون دليل وتعمدها القذف والتشهير الصريحين.

إلى ذلك استغلت المعارضة قيام الحكومة مؤخرا باستخدام الفوائض المالية المتحققة في السنوات الأخيرة في دعم من تأثروا بارتفاع أسعار السلع والخدمات من ذوي الدخول الدنيا، لتصور الأمر على أنه رشوة حكومية مبكرة للناخبين. وساعدها في ذلك أن الحزب الحاكم لم يعرف عنه سابقا استخدام الأموال العامة في مسائل الدعم والرعاية على النمط الاشتراكي، بل كان طوال تاريخه أقرب إلى الخط الرأسمالي التقليدي، بدليل أنه حال دائما دون وضع حد أدنى للأجور، تاركا أمر تحديدها للمساومة وكفاءة العامل ومهاراته.

غير أن كل هذا لم يفلح في تغيير خيارات الناخب واهتماماته التي ظلت محكومة بقاعدة "خبز أكثر مقابل حريات أقل". ولا يعني هذا أن السنغافوريين لا يتطلعون إلى جرعة أكبر من الحريات، لكنهم ببساطة لا يريدون التصويت للمجهول الذي قد يعني انتكاسة أحوالهم الاقتصادية، لا سيما وأن أحزاب المعارضة برهنت على أنها لا تزال غير ناضجة ومفتقدة إلى التجربة. ولا بد هنا من الإشارة إلى سنغافوريين كثر باتوا اليوم أكثر تفاؤلا بحدوث انفراجات سياسية مع الوقت تحت إدارة رئيس الحكومة الحالي الذي برهن خلال الفترة الماضية، من خلال تواصله مع الجماهير والاستماع إلى همومهم ومداعبتهم، أنه مختلف عن والده في نظرته إلى الكثير من الأمور وينتمي إلى عصره لا إلى عصر أسلافه.

باحث ومحاضر أكاديمي في الشؤون الآسيوية

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور.

المصدر: الإتحاد الإماراتية-14-5-2006