الإخوان المسلمين  في رسالة الباحثة الألمانية إيفيزا لوبن

 

 

أكدت باحثة ألمانية أنّ الإخوان المسلمين يمثلون قوة سياسية واجتماعية هامة في المنطقة العربية الإسلامية ككل، مشددة على أنّ الإمام حسن البنا ليس أباً للأصولية بل هو مؤسس أول حركة اجتماعية عربية حديثة وتشدد الباحثة إيفيزا لوبن على أنّ جماعة الإخوان المسلمين قد أثّرت ومؤسسها حسن البنا تأثيرات حاسمة على الخطاب الإسلامي، كما كان التأثير الإخواني ملحوظاً على التطورات الاجتماعية والثقافية والأيديولوجية في العالم الإسلامي أجمع وكانت الباحثة الأكاديمية إيفيزا لوبن قد ألقت محاضرة في القاهرة مؤخراً بهذا المضمون، في إطار فعالية الهيئة الألمانية للتبادل العلمي، أقيمت تحت عنوان "تجارب الإصلاح وحوار حول أوجه الإصلاح المختلفة في العالم العربي". كما نشر أطروحتها هذه في موقع على الإنترنت ترعاه الحكومة الألمانية. الانتخابات المصرية الأخيرة ودلالاتهاوتشير إيفيزا لوبن إلى أنّ "الانتخابات البرلمانية المصرية (التي جرت) في تشرين الثاني (نوفمبر) 2001 جاءت بأكبر المفاجآت للمراقبين، ألا وهي النجاح المعقول نسبياً للإخوان المسلمين". فبالرغم من ما سمته "التدخلات الضخمة لقوات الأمن، وأيضاً رغم حملة الاعتقالات الجماعية والمحاكمات التي استهدفت أعضاء الجماعة منذ منتصف التسعينيات، والتي غالباً ما طالت أنشط الكوادر الوسيطة؛ حصل الإخوان على سبعة عشر مقعداً في البرلمان ومع أنّ هذا العدد لا يمثل سوى خمسة في المائة من مقاعد البرلمان، إلا أنه يزيد عما حصلت عليه أحزاب المعارضة مجتمعة"، كما تقول في المحاضرة التي نشر نصها الذي ترجمه إلى العربية الدكتور عبد السلام وحيد وراجعته الباحثة؛ في موقع ثقافي جديد على شبكة الإنترنت يحمل عنوان "القنطرة"، ترعاه الحكومة الألمانية.وتلاحظ إيفيزا لوبن أنّ "لهذه النتيجة قبل كل شيء معنى رمزياً، يتجاوز كثيراً الوزن البرلماني الفعلي للإخوان المسلمين. فقد كشف هذا للرأي العام أنّ الإخوان يمثلون القوة المعارضة الوحيدة الحقيقية في مصر. بل يمكن القول أنها القوة الوحيدة الفاعلة اجتماعياً، التي تتمتع بنفوذ جماهيري يتجاوز حدود النخبة السياسية والثقافية في مصر، وهذا بالرغم من الحظر الذي فرض عليها منذ أيام عبد الناصر ولمدة تزيد عن نصف قرن من الزمان"، كما تذكر.

وما يسترعي انتباه الباحثة أنه "إذا ما أخذنا بالاعتبار أنّ عدد الأعضاء العاملين بالإخوان بلغ نحو نصف مليون عضو في نهاية الأربعينيات؛ فإنها تمثل منذ ذلك الحين وحتى الآن أقوى المنظمات المستقلة في تاريخ مصر الحديثة، وإحدى أقوى الحركات الجماهيرية في الشرق الأوسط". قوة سياسية واجتماعية هامة في المنطقةلا تتردد لوبن في الإقرار بأنّ "الإخوان المسلمين لا يمثلون قوة سياسية واجتماعية هامة في مصر فحسب؛ بل في المنطقة ككل"، على حد تعبيرها وعلاوة على إشارتها إلى "وجود تنظيمات إخوانية، شرعية (مُشرّع لها قانوناً بالعمل) أو غير شرعية، في بلدان كثيرة؛ من أهمها التنظيمات الموجودة في لبنان والكويت واليمن والسعودية والجزائر والمغرب والسودان و ..."، فإنها تلفت الانتباه أيضاً إلى "أنّ الكثير من إخوان الجيلين الأول والثاني يعملون كمستشارين سياسيين في العديد من البلاد الإسلامية من المغرب وحتى ماليزيا.

ومن بين الإخوان أعضاء مؤسسون في الشبكات الدولية للبنوك الإسلامية. ومن بين هذين الجيلين أيضاً من بنى مؤسسات الإغاثة الإسلامية العاملة على المستوى العالمي. ومن بينهم أيضاً من وضع أسس تيار أسلمة العلوم، خاصة في ماليزيا والولايات المتحدة الأمريكية. فضلا عن التأثير الحالي الملحوظ للإخوان المسلمين على الجاليات الإسلامية في أوروبا والولايات المتحدة".

وفى ما يتعلق بالواقع في مصر، فإنّ لوبن تلاحظ أنّ "أولئك المتأثرين سياسياً وأيديولوجيا بتيار الإخوان المسلمين، سواء كانوا ملتزمين بفكر الجماعة أو مجرد متعاطفين معها، وبغض النظر عن طبيعة العلاقات التي تربطهم بالقيادة الحالية للجماعة؛ يضطلعون بأدوار هامة سواء في النقابات المهنية أو في المساجد أو البنى الاقتصادية أو كمثقفين أو أعضاء في السلك القضائي أو في الشبكات الاجتماعية غير الرسمية"، حسب قولها.وتمضي لوبن إلى القول "لقد أثّرت حركة الإخوان المسلمين ومؤسسها حسن البنا تأثيرات حاسمة على الخطاب الإسلامي. ومن خلال هذا أثّروا (الإخوان) تأثيراً ملحوظاً على التطورات الاجتماعية والثقافية والأيديولوجية في العالم الإسلامي أجمع.

وفى غالب الأحيان حدثت هذه التأثيرات دون الرجوع علنا إلى اسم الجماعة أو الاعتماد على حسن البنا. فالخطاب يميل عادة إلى إعادة إنتاج نفسه تاركا خلفه المؤلف في دائرة النسيان"، وفق تعبيرها.  فجوة بحثية ومعرفية في الغرب عن الإخوان قبل أن تقدم لوبن فرضياتها الخاصة؛ عمدت إلى تسجيل بعض الملاحظات النقدية على ما تم تقديمه بشأن الإخوان المسلمين في الأوساط الأكاديمية والثقافية والإعلامية حتى الآن في الغرب وكذلك في العالم العربي، وخاصة مصر.وأولى هذه الملاحظات تتمثل في إبداء الباحثة لاستغرابها لأنه "على عكس المتوقع، لا تكاد توجد أية كتابات (...) (عن الإخوان وتاريخهم ومبادئهم وتوجهاتهم ومواقفهم) خارج العالم العربي. فهناك فيض من الكتابات حول الإسلام كدين، والإسلام السياسي، والأصولية الإسلامية، والإرهاب الإسلامي، والمرأة والإسلام .. إلخ، بينما لا يتجاوز عدد الدراسات التي يمكن أخذها بجدية حول أهم واكبر حركة إسلامية جماهيرية في القرن العشرين عشر دراسات تقريباً"، كما تقول.

وتضيف لوبن قولها "صحيح أنّ الكثير من الكتب التي تتناول موضوع "الأصولية الإسلامية" تتناول ضمنياً جماعة الإخوان المسلمين في عدة صفحات أيضاً؛ لكن إذا ما دققنا النظر قليلاً سنجد أنّ أحداً لم يكد يرجع إلى المصادر الأصلية العربية، كرسائل حسن البنا ذاتها على سبيل المثال، فالكل ينقل عمن سبقه، وبالتالي يبتعد الخطاب المُصاغ حول الإخوان المسلمين أكثر فأكثر عن الواقع التاريخي الفعلي. ويظل العمل الموسوعي الوحيد المتوفر عن هذا الموضوع حتى الآن هو رسالة الدكتوراه التي أعدها ريتشارد ميتشيل Richard Mitchell في نهاية الستينيات، وقد ترجمت إلى لغة واحدة فقط وهي العربية"، بحسب الباحثة.وتستنتج إيفيزا لوبن من خلال ذلك أنّ "هناك إذن فجوة بحثية ومعرفية واضحة حول حركة الإخوان ومؤسسيها، سواء في الأدبيات العلمية أو في وسائل الإعلام.

وعادة ما يتم ملأ هذه الفجوة بتخمينات وأسطرة إسقاطات متعسفة"، على حد وصفها. بين فرضية التهميش .. وإسقاط العام على الخاص وتطرقت الباحثة إلى عدة أمثلة انتقدت من خلالها تناول الباحثين في الغرب، وحتى بعضهم في العالم العربي، لجماعة الإخوان المسلمين. ومن بين ذلك إشارتها إلى أنّ "فرضية التهميش كانت، ومازالت، إحدى النماذج التفسيرية المفضلة بصدد تحليل نشأة الجماعات الإسلامية الراديكالية. فوفقاً لهذا النموذج التفسيري تجتذب الأصولية صبية مهمّشين، وشباباً لا يتوفر لهم أفق للتحقق في المستقبل. ووفقاً لهذا المنظور تبدو الأصولية أيديولوجية حثالة البروليتياريا والبرجوازية الصغيرة المحبطة". وتستطرد إيفيزا لوبن فتقول "ينطلق رينهارد شولتسه Reinhard Schulze مثلاً، الذي يُعدّ أحد الدارسين الجادين للإسلام في المناطق المتحدثة بالألمانية، من هذه الفرضية، وذلك في سياق حديثه عن نشأة الإخوان المسلمين. فحسن البنا، طبقاً لما أشار إليه شولتسه في دراسته عن الإسلام في القرن العشرين؛ كان مُحبَطاً لأنه لم يحصل بعد تخرجه سوى على وظيفة مدرِّس في الإسماعيلية، أي في أحد الأقاليم وليس في القاهرة. ومن ثم يعتبر شولتسه أنّ تجربة الإحباط هذه، وإحباطات أخرى متعلقة بطفولته؛ كانت أحد العوامل الذاتية التي دفعته لتسييس الإخوان المسلمين"، كما تنقل عنه بتعجب.وتعقِّب الباحثة الألمانية على ذلك بالقول "سوف تختلف الصورة تماماً عما ذكره شولتسه؛ إذا ما قرأنا الخطابات التي أرسلها حسن البنا ابن الثالثة والعشرين من الإسماعيلية إلى والده. فالشاب كان فخوراً بحصوله على راتبه الأول، ومن ثم طلب حضور أخيه الأصغر إلى الإسماعيلية حتى يعتني بتربيته ويخفف من حمل والديه. واستطاع البنا فضلاً عن ذلك أن يندمج وبسرعة في النخبة المحلية للإسماعيلية، وأن يتزوج من ابنة أحد التجار المرموقين بالمدينة"، وتقطع لوبن جراء ذلك بخطأ نظرية شولتسه، "فالأمر إذن أقرب إلى أن يكون قصة نجاح وليس إحباطا كما أشار شولتسه".ثم تلاحظ الباحثة الألمانية أنه "في أعمال أخرى يتم إسقاط الموضوعات الإسلامية العامة على الجماعات المفردة. فاندرياس ماير Andreas Meier، الذي حرّر بالألمانية مجموعة من نصوص مصادر الحركات الإسلامية، يطرح السؤال الآتي: لماذا تمكنت الناصرية من الهيمنة الأيديولوجية مقارنة بالبرنامج الإسلامي للإخوان؟. وتقول إجابته: إنّ الإخوان أرادوا أن تكون حركة التحرر من الاستعمار البريطاني في إطار الخلافة العثمانية التي يجب استعادتها، بينما أراد الضباط الأحرار أن يكون هذا التحرر في إطار الدولة القومية، وفى النهاية نجحت خطتهم الأقرب إلى الواقع".بدورها تعلق لوبن على ذلك بإثارة التساؤل "إذن هل كان الهدف الحقيقي للإخوان هو استعادة الخلافة؟!"، دون أن تتردد في الإدلاء بدلوها في الإجابة بالقول "صحيح أنّ قضية الخلافة كانت موضع نقاش حيوي في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي؛ لكن الإخوان كانوا بعيدين عن تلك الحوارات بل وتجاهلوها. ولقد ناقشها البنا في صياغات حذرة ومهذبة، وهو الأسلوب الذي اعتاده البنا في تعامله مع خصومه وحلفائه على السواء؛ دون استخدام هجوم لفظي قاس"، كما تذكر له واستطردت لوبن مضيفة "نقول إنّ البنا ناقش مسألة عودة الخلافة في المؤتمر العام الخامس (للإخوان المسلمين) عام 1939 بوصفها أمراً غير واقعي، محيلاً إياها إلى مقعد انتظار التاريخ حتى لا يُعاد الحديث عنها مرة أخرى. ولدينا الكثير من الأمثلة لهذا النوع من الاستقراء المنطقي وتعميم العام على الخاص".وتشدِّد الباحثة على أنّ "هذا التعميم يصبح وخيم العاقبة في الحوارات العامة بعد 11 أيلول (سبتمبر)، وبالتحديد فيما يخص قضية العنف ففي أغلب الدول الغربية ترسخ تصور يأخذ بهذا التطابق السهل: الإسلامية = الأصولية = العنف. وعلى أساس مثل هذه الصورة رأى بعضهم أنه من المشروع اتخاذ مواقف تمييز بدون تفرقة ضد كل أشكال الإسلام السياسي وتجريمها في المجال العام، بل أخذ الرأي العام نفسه يطالب بذلك". ولفتت الكاتبة الأنظار في هذا السياق، على سبيل المثال، إلى الحوارات المتعلقة بإمكانية حظر جماعة "ملِّى غوروش" التي قالت إنها قريبة من الإخوان المسلمين، والتي تعد أكبر جماعة إسلامية تركية في ألمانيا. مشكلات البحث في الشأن الإخواني .. وتناقضات رفعت السعيد ولدى انتقال إيفيزا لوبن إلى المناظرات الجارية في مصر؛ قالت إنها تجد نفسها إزاء معضلة من نوع آخر، "فلقد صدر في مصر، ولازال يصدر، عدد لانهائي من الكتب حول جماعة الإخوان في مراحلها الأولى.

 لكن نشر أكثر هذه الكتب يُعدُّ جزءاً من الصراعات السياسية الحالية، لذا تكون تلك الكتب مؤدلجة بشدة. والقليل من هذه الأعمال ما يلتزم بالمعايير العلمية. وتأتى هذه المؤلفات لتبرير الموقف السياسي الخاص بالمؤلف، سواء كان مع الإخوان أو ضدهم". وتسجل الباحثة أنّ هذا ما أدى إلى "أشياء متناقضة ومثيرة للضحك بمعنى الكلمة أحياناً ومن بين الأمثلة التي توردها ما يتمثل في رفعت السعيد، السكرتير العام لحزب التجمع اليساري، وأحد أبرز من انتقد حركة الإخوان. "فعندما يتحدث (السعيد) إلى مستمعيه اليساريين فإنه يتهم الإخوان بأنهم كانوا عملاء للبريطانيين. وهنا يشير إلى اتصالات جماعة الإخوان المسلمين بالسفارة البريطانية إبان الحرب العالمية الثانية. وعندما يريد أن يبرِّر مطاردة الحكومة لأعضاء الجماعة، فإنه يشير إلى الهجمات التي قام بها بعض الإخوان في الأربعينيات على المؤسسات البريطانية وعلى العناصر المؤيدة للبريطانيين، وذلك بهدف التدليل على الجذور الإرهابية للجماعة"، على حد ما تقول لوبن.

وترى الباحثة أنّ "هناك أيضاً مشكلة بحثية أخرى تتعلق بالمنهجيات المستخدمة؛ فالأبحاث حول الحركات الاجتماعية، والنقابات المهنية والتيارات الشبابية، أو حول تغيرات الخطاب السياسي، يتم عادة إنجازها داخل حقل البحث الاجتماعي. ولأجل ذلك تم تطوير أدوات بحثية كاملة سواء للدراسات النظرية أو الإمبريقية. أما الأبحاث حول الحركات الإسلامية فقد بقيت في الغالب خارج حقل السوسيولوجيا، إذ تم التعامل معها على أنها حكر للعلوم الإسلامية التي تعتبر نفسها علوم فقه- لغوية تستهدف النص فحسب، وتميل بالتالي إلى النظر إلى كل الظواهر الاجتماعية في البلدان الإسلامية من خلال منظور ديني" وتؤكد الباحثة الألمانية، التي تنتشر في بلادها العشرات من معاهد العلوم الإسلامية والدراسات الشرقية ضمن نطاق الجامعات والمؤسسات الأكاديمية، أنه "كثيراً ما لا توجد لتلك العلوم الإسلامية أية علاقة بالواقع الاجتماعي الذي تنشأ وتتطور فيه الحركات الإسلامية وما تنتجه من خطاب، وعليه لا يصبح بإمكان تلك العلوم الإسلامية تفسير المعنى الاجتماعي لهذا الخطاب"، على حد تقديرها. حركة اجتماعية حديثةوبعد أن تزيح الباحثة من طريقها الكثير من الأحكام المسبقة؛ تبدأ في تقديم قراءتها لجماعة الإخوان المسلمين بوصفها "حركة اجتماعية حديثة".

وتلاحظ ابتداء أنّ "حسن البنا أسّس جماعة الإخوان المسلمين (...) عام 1928 في مدينة الإسماعيلية. وكانت الإسماعيلية آنذاك مقراً لشركة قناة السويس التي يسيطر عليها البريطانيون. من هنا كانت المدينة في نظر الكثير من المصريين رمزاً للوجود الاستعماري بحي فيلاّت الأجانب والأحياء الفقيرة التي تأوي العمال وأسرهم من أبناء البلد". وتربط الباحثة هذه الظروف بما ظهر بوضوح في ما قالت إنه "قسم الولاء لأول مجموعة إخوانية"، وحسب الاستنتاجات التي تستخلصها لوبن؛ فقد كان الإمام حسن البنا يطمح إلى تأسيس نظام اجتماعي إسلامي ودولة إسلامية تقوم على قيم أساسية مثل "الأخوة" و"النهوض بالرجل والمرأة معا" و"تأمين الحق في الحياة والتعليم والملكية والعمل على العناية الصحية" وكذلك على "الحرية والأمن"، وهو ما شرحه في رسالة "بين الأمس واليوم" أما الاهتمام بالسياسة الخارجية فقد تمثل لديه بداية في تحرير مصر من نير الاستعمار، كما تسجل الباحثة.وتمضي لوبن في مسعاها لتتبُّع ملابسات النشأة والامتداد، إذ "نمت جماعة الإخوان المسلمين في وقت قصير، حتى أصبحت نوعاً جديداً تماماً من التنظيمات الاجتماعية. ولم يأت هذا من فراغ؛ فلقد انطلق البنا من الأشكال الموجودة بالفعل للتنظيمات الاجتماعية بغرض إعادة صياغتها والوصول بها إلى مستوى أعلى للفاعلية والتدخل الاجتماعيين".وتشير الباحثة في هذا المجال إلى أنه "في نهاية الأربعينيات أصبح لدى الإخوان المسلمين في كافة أنحاء البلاد مراكز يضمّ كلٌّ منها مسجداً ومدرسة، وكثيراً ما كان يضم أيضاً ورشاً لتشغيل العاطلين والنساء والفتيات.

وكانت فرق الجوالة تنظم المسابقات الرياضية والرحلات والمعسكرات الصيفية. كذلك افتتحوا (الإخوان) مراكز صحية، وامتلكوا بعض الصحف ومطبعة وأسسوا بعض الشركات الاقتصادية في شكل شركات مساهمة. علاوة على ذلك قاد الإخوان أول حملة لمحو الأمية على مستوى مصر. كما وضعوا أنفسهم ضمن القوى التي تخوض حركة النضال ضد الاستعمار. من هنا تطور إحساسهم بأهمية دورهم حتى أنهم أرسلوا مصطفى مؤمن إلى نيويورك عام 1947 بوصفه صوت الشعب المصري في مشاورات مجلس الأمن حول مستقبل مصر"، كما تسرد الباحثة.ولا تتردّد لوبن في تأكيد إحدى أهم الخلاصات الجوهرية في مشروعها البحثي، إذ تقول "في اعتقادي مثلت حركة الإخوان أول حركة اجتماعية حديثة في تاريخ مصر، سواء من حيث أساسها الاجتماعي، أو من حيث طروحاتها ومبادئها".وتوضح الباحثة خلفية هذا الاستنتاج الهام بقولها؛ "فالحركات الاجتماعية نتاج للتغير ومنتجة له في الوقت ذاته.

هكذا كتب يواخيم راشكا في عمله الأساسي حول الجماعات الاجتماعية. فهي من ناحية نتاج للمجتمعات الحديثة، فعمليات التصنيع ومحو الأمية والتمدين أفرزت إشكاليات لم يكن من الممكن التعامل معها من خلال الأشكال السياسية التقليدية أو المفروضة من قبل الدولة السلطوية ما قبل الرأسمالية. ومن ناحية أخرى تتمثل محاولة إنجاز هذا التغير الاجتماعي بوصفها فعلاً جماعياً نافذاً".

 أما ما يميز جماعة الإخوان المسلمين في ذلك عن الحركات ما قبل الحديثة فهو، في تقدير الباحثة، "وضعها لأطر عقلانية الهدف والفعل. فالأهداف تُفهم من خلال أسبابها، إذ تُحدّد في سياق إيديولوجي شامل وتطوير استراتيجية عقلانية، قصيرة المدى وبعيدة المدى، لأجل التغلب على تردى الواقع"، كما تسجل الباحثة. بروز الخطاب الإسلامي الحديث عبر "طبقة الأفندية"وفي تحليلها لنشأة الجماعة تستدعي الباحثة الظرف الاجتماعي بإشارتها إلى أنّ "تأسيس الإخوان المسلمين جاء في عصر شهد تغيراً اجتماعياً سريعاً، وتكوُّن طبقة وُسطى ذات أفق برجوازي أطلق عليها "طبقة الأفندية وكان ذلك في سياق توسع نظام التعليم الحكومي وجهاز الإدارة في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى. وتشمل "طبقة الأفندية" موظفي الجهاز الحكومي، والمدرسين، والأكاديميين أصحاب المهن الحرة مثل الأطباء والمحامين والتجار، وكذلك طلبة المدارس العليا". وتضيف لوبن "ثم إنّ الأفندية المنحدرين غالباً من البرجوازية الصغيرة المدينية التقليدية، ومن الطبقة الوسطى في الريف؛ أخذوا يبحثون عن توسيع وجودهم تدريجياً داخل المجال العام الذي كان أعضاء الطبقة الأرستقراطية العليا "طبقة الباشوات" يهيمنون عليه حتى ذلك الوقت. هذا في الوقت الذي كانت فيه الجاليات الأجنبية تسيطر على الجزء الأكبر من الاقتصاد.

من هنا كانت "طبقة الأفندية" ترى في نفسها طليعة الشباب الذين يتطلعون إلى امتلاك مستقبلهم".وتلاحظ الباحثة أنّ "صعود هؤلاء الأفندية، الذين انتقلوا غالباً على المستوى الشخصي من تنشئة اجتماعية أسرية تقليدية إلى طريق حديث للصعود متضمناً تحوّل الخطاب السياسي؛ أدى إلى بروز أكبر للخطاب الإسلامي في الخطاب العام، لكن ذلك الخطاب الإسلامي لم يكن إسلام الأزهر أو الإسلام الشعبي. فالطبقة الوسطى الجديدة اعتبرت كلا الشكلين للإسلام أحد أسباب التخلف الاجتماعي للبلاد، من ناحية بسبب الجمود الأرثوذكسي للمذاهب الإسلامية الرسمية، ومن ناحية أخرى بسبب الاعتقاد في الخرافات اللاعقلانية للإسلام الشعبي"، بحسب تعبير لوبن.وإذا كانت الباحثة قد رأت أنّ "الأفندية كانوا يريدون تحديث الإسلام وأسلمة التحديث حتى يجعلوها مقاربة لنموذجهم الفكري والثقافي الخاص"؛ فإنها تمضي إلى بيت القصيد عبر استنتاجها الذي مفاده أنّ "حسن البنا كان نموذجاً لطبقة الأفندية هذه.

قضى طفولته في قرية المحمودية التي تقع في دلتا النيل وعلى أحد فروعه؛ فرع رشيد. وكان والده يعمل ساعاتياً، وفى أوقات فراغه يعمل إمام مسجد وعالماً خارج الهيئة الدينية الرسمية. فيما بعد انتقلت الأسرة إلى القاهرة كي يتمكن حسن، وكان الابن الأكبر بين خمسة أطفال، من مواصلة دراسته في كلية المعلمين الجديدة "دار العلوم"، ومنها انتقل إلى شغل وظيفته الأولى مدرساً في الإسماعيلية. وعندما أنشأ البنا هناك جماعة الإخوان؛ كان لم يزل في الثالثة والعشرين من عمره.

 وعندما انتقل عام 1932 إلى القاهرة أصبحت جامعة فؤاد ذات الطبيعة العلمانية (جامعة القاهرة الآن) وليس الأزهر أو المعاهد الدينية مركز التجنيد الرئيس للجماعة"، حسب توثيق الباحثة لتطورات النشأة من خلال المحطات الفاصلة في حياة المؤسس.وعطفاً على ذلك؛ تمضي الباحثة إلى الاستنتاج بأنّ "موجة صعود طبقة الأفندية انعكست على إيمان البنا بالتقدم. فقد دعا المسلمين إلى فهم القرآن بوصفه علامات هادية على طريق الفعل. لم يكن البنا يدعو إلى الرجوع إلى إسلام ماضوي، وإنما كان يدعو أتباعه إلى فهم القرآن بالتعمق في معانيه ومعايشتها فعلياً في حياتهم الاجتماعية. فالفهم، والعمل؛ مصطلحان يترددان بصفة دائمة في رسائله. لقد كان يدعو إلى إحياء روح الإسلام وعزم الصحابة، والنظر أثناء ذلك إلى الأمام للمستقبل؛ بنفس التفاؤل الذي نظرت به الطبقة البرجوازية الأوروبية إبان صعودها"، على حد تعبيرها.وتضيف لوبن "ينتشر مصطلح "النهضة الجديدة" أو "النهضة الحديثة"، التي ينبغي أن تشمل كافة جوانب الحياة، في كل كتابات حسن البنا.

 ومن هنا يتحدث بصورة متبادلة عن "التقدم" و"الرقى" و"العمران" و"بناء المستقبل" و"تكوين الأمة". والتطلع، على سبيل المثال، إلى نظام تعليمي "لرجل المستقبل" الذي سيحمل "النهضة الحديثة" على كتفيه". أحلام اليوم حقائق الغدفي ما يتعلق باجتياز النهضة بالنسبة لحسن البنا؛ تسجل الباحثة أنّّ "قضية التقدم تُنجز في مراحل متتابعة متعاقبة. فالأمم التي تتطلع، كما يرى البنا، إلى نهضة حديثة، لا بد وأن تجتاز مرحلة انتقالية تبنى فيها حياتها المستقبلية على أساس متين يضمن للجيل الناشئ الرفاهة والهناءة. وفى سياق عملية التقدم يتكامل المجتمع والعلم. فقد أكد علماء الاجتماع أن حقائق اليوم هي أحلام الأمس، وأحلام اليوم هي حقائق الغد.

 فمحور تقدم الإنسانية وتدرجها مدارج الكمال هي حقائق أساسية. وقد أبرز البنا تفاؤله بالمستقبل مدركاً وملاحظاً أنّ الكثير من الاكتشافات والاختراعات العلمية المعروفة اليوم؛ كانت في العصور المبكرة غير ممكنة التصوُّر حتى لخيرة العلماء آنذاك. ومن خلال تبنيه لمفهوم التاريخ الخطي الصاعد، وكذلك من خلال انتقائه لمصطلحاته، يريد البنا أن يجد لمعانيه ومصطلحاته مكاناً في خطاب التحديث النهضوي القائم على التنوير"، حسب استنتاج الباحثة.لكن، إذا كان قانون حركة التاريخ يُعدُّ عند البنا قانوناً عاماً وكونياً، كما تقول الباحثة؛ فإنه شدّد بالمقابل على ضرورة أن تعتمد نهضة الشعوب الإسلامية على نظام القيم الموحى به في القرآن، وعلى ربط روحانية الدين بالتطبيق العملي إذ على هذه الشعوب أن تهتدي في نهضتها بالقيم الإسلامية الأساسية مثل العدل والأخوة، كما ينبغي عليها محاربة الفساد الأخلاقي وعدم السماح بخرق الحدود التي سنها القرآن، حسب ما تسجل أيضاً.وساقت الباحثة الألمانية أمثلة تبين "كيف كان البنا يريد أن يطبِّق روح الإسلام على الحقل السياسي والاجتماعي". وقد سجلت في هذا السياق ملاحظة منهجية هامة "فبعض المؤلفين اتهموا البنا بأنه، مختلفاً في ذلك عن غيره من المفكرين الإسلاميين؛ لم يقدم نموذجاً سياسياً اجتماعياً شاملاً.

وهنا يقع هؤلاء، فيما أرى، في سوء فهم لوظيفة أيديولوجية الحركات الاجتماعية"، حسب قولها. وفي معرض تعزيز رؤيتها هذه تشير إلى ما كتبه راشكا، الذي أشير إليه من قبل، عن وظيفة أيديولوجية الحركات الاجتماعية: "إنها مثل خريطة للاهتداء بها في عالم شديد التعقيد. فالتبسيط، والتركيز على نقاط معينة تدفع الجوهري إلى مركز الاهتمام. فأيديولوجية حركة ما تبرز تناقضات معينة بوصفها أسباب لعدم الرضى، وتخطط صورة للواقع خالية من التناقضات. وترى الحركة بوصفها القوة الوحيدة لتجنب هذه التناقضات وتضيف الكاتبة من جانبها أنه "كذلك توجد أسباب أخرى تفرض على خطاب أي حركة اجتماعية أن يكون مفتوحاً؛ لا بد وأن يحدث الخطاب نوعاً من الاندماج والتكيف داخل الحركة، وأن يبني جسراً للتواصل مع حلفاء محتملين، وأن توجد لديه القدرة على تفهم واستيعاب الحركة التاريخية".ولفتت الباحثة الانتباه إلى أنّ "حسن البنا أكّد آلية الإجماع الاجتماعي. وكان يفضل أن تُترك الأسئلة المتخصصة للمختصين. وسعى إلى إحياء مبادئ الإسلام، لكنه كان يؤمن في ذات الوقت بمبدأ الاختلاف ويدعمه علناً".

هل كان البنا أصوليا؟في محطة أخرى حاسمة سيكون السؤال "هل كان البنا أصوليا؟"؛ بمثابة أحد الأسئلة الشائكة التي تتصدى لها الباحثة. ولا تكمن الجرأة في الإجابة على هذا السؤال بالنسبة لباحثة ناشئة في وسط يعجّ بمن يُعرفون في ألمانيا بـ"خبراء الإسلام" ومن بينهم من اتهمهم الوسط الأكاديمي المختص بترويجهم للأحكام المسبقة؛ بل تأتي الجرأة في مجرّد الإقدام على طرح السؤال ذاته على ما يعتبر من المسلّمات. وبغض النظر عن ما "تعتبره كثير من الأدبيات من أنّ حسن البنا أبو الأصولية الإسلامية"، فإنّ الباحثة تطرح هذه التسمية للتساؤل.

وتشدد لوبن، وعبر تعزيز استنتاجها بالأمثلة، على أنّ "البنا لم يكن يقف معترضاً طريق التحديث، ولم يكن يستنبط نموذجه الاجتماعي من المرجعيات النصية الدينية مباشرة. وبهذا المعنى أعتقد أنه لم يكن أصوليا"، على حد قولها.ومن الواضح أنّ الباحثة توجهت إلى نقض صفة الأصولية ذات المنشأ الغربي، وهي الصفة المشبعة بالسلبية، وذلك بمعزل عن التطرق إلى صفة الأصولية من جهة التكوين الشرعي الإسلامي في علم أصول الفقه. ثم إنها تكون هنا قد حددت اختيارها باعتبار الأصولية متعارضة بالضرورة مع التحديث، وهي قضية يصعب حسمها طالما لم يُحدّد بدقة مفهوما الأصولية والتحديث المثيرين للجدل. وأيا كان عليه الأمر؛ فإنّ الباحثة تنطلق إلى مزيد من الاستنتاجات التي تصبّ في ضوء الرؤية التي تدافع عنها بقوة، "ففي طروحاته في مجالي السياسة الاقتصادية والسياسة الاجتماعية، على وجه الخصوص، نجد البنا يشير باستمرار إلى روح الإسلام.

فهو يدعو إلى نظام أخلاقي يقوم على الحق والعدل والأخوة، مشتقاً تلك القيم من الإسلام كما يتصوره. وفى تلك الحالات الخاصة التي يوجد بشأنها نص قطعي واضح الأحكام، يطالب البنا بالالتزام بها، والطريق إلى هذا الالتزام يكون برجوع الفرد إلى دينه والتطهر الروحي". وبناء على ذلك ترى الباحثة أنّ "البنا يمثل الانتقال من التقليدي إلى الحديث، على اعتبار أنه انتقال تاريخي، وأنه انتقال أيديولوجي أيضاً. فهو يدخل إلى مفاهيم التحديث من خلال مصطلحات تقليدية، ويملأ في نفس الوقت المفاهيم التقليدية بمضامين حديثة، ويستبدل على نحو تدريجي جزءاً من المفاهيم التقليدية بمفاهيم حديثة. أما نقده للنماذج الاجتماعية الغربية فانه يبدأ عندما يتعلق الأمر بالأحكام الأخلاقية وبالوحي الإلهي حول الدولة والمجتمع"، كما تلاحظ الباحثة.يبقى القول إنّ إيفيزا لوبن، التي درست السياسة والاقتصاد في مدينة بريمن الألمانية، ودرست العربية في دمشق، وعملت ولسنوات طويلة صحفية حرة؛ قد نجحت على ما يبدو في قطع منتصف الشوط المعاكس للتجاهل القائم والأحكام التعسفية السائدة بعد أن عبّرت عن رؤيتها هذه، التي تمثل تطوراً نوعياً في فهم متقدم ومختلف للحالة الإسلامية في المنطقة الناطقة بالألمانية أما النصف الآخر من الشوط فسيكون ميعاده بمجرد فراغ لوبن من رسالة الدكتوراة التي تعكف عليها حالياً، والتي خصصتها للإمام حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين.

islaminthewest.net