الـبــحـــث الـعـلـمــي بـيــن الــواقــع والمــأمـــول

 

 

عبدالجليل زيد المرهون

 

لقد كتب الكثيرون عن أزمة البحث العلمي في الوطن العربي، وهو موضوع يستحق الكثير من العناية والاهتمام، ذلك أن مكانة البحث العلمي من التقدم الحضاري للأمم تعد بمنزلة القلب من الجسد. اذ لا تطور مدني أو عسكري دون تطور معرفي ولا سبيل لنهضة معرفية دون بحث علمي جاد، محكم المواصفات والمعايير.

لم يعد بالمقدور النظر الى البحث العلمي، سواء التطبيقي منه أو النظري، باعتباره مجرد اضافة معززة للانجاز البشري، بل هو شرط جوهري من شروطه وهذا الأمر صحيح منذ أمد طويل، لكنه اليوم أكثر صحة ومنطقية في ضوء النمط الجديد من التحديات، المتعددة المنابع، التي تواجه الأمم والشعوب ولا غرو، والحال هذه، أن نسمع بأن هناك وزارة متخصصة تحت عنوان وزارة البحث العلمي فمديرية تابعة لوزارة معينة لم يعد بمقدورها استيعاب القاعدة المتسعة باطراد لاهتمامات البحث العلمي، الذي يجب أن يكون حاضرا في المدرسة والجامعة والمصنع وحتى في حقول الزراعة، والوزارات المدنية والسياسية والأمنية، كما في قلب مؤسسات المجتمع المدني، على اختلاف اهتماماتها الفكرية والاجتماعية.

ان البحث العلمي يعد منطلقا للتطوير الوطني وأداة لقياس التطور ذاته، ومن دونه تسير الأمم دون ضوء أو شعاع، أو لنقل دون ادراك لمكانتها وموقعها في مسيرة العصر وحينها يقف التطور، وتغدو الأمة عالقة في مؤخرة الركب والبحث العلمي ليس حاجة ملحة للدول النامية دون المتقدمة أو الفقيرة دون الغنية، بل هو مسألة ضرورية لجميع الأمم والشعوب، ذلك أن التطور لا حدود ولانهاية له وعلى الرغم من ذلك، فان الدول الأقل نموا تبدو حاجتها مضاعفة للبحث العلمي، من أجل أن تردم ما يمكن ردمه من فضاء الفجوة الحضارية التي تفصلها عن الأمم المتقدمة والبحث العلمي ليس ضرورة حيوية على مستوى العلوم التطبيقية وحدها، بل الاجتماعية أيضا، ذلك أن تطور الأمم لا ينهض استنادا الى علم دون آخر. فالضرورة تبقى واحدة ان على صعيد التطوير الصناعي أو الزراعي أو السياسي أو العسكري، تماما كما البناء الاجتماعي وتنمية أدواته المختلفة كالاعلام ومؤسسات التربية والتعليم.

في سبيل الريادة

ان توطين التكنولوجيا لا يمكن تحقيقه دون مختبرات ومؤسسات بحثية ذات أنظمة متطورة وامكانات كبيرة وتمويل واف. كذلك، فان الأمن الغذائي، الذي هو جزء أصيل من الأمن القومي للدول، لا يمكن انجازه دون سلسلة من مراكز الأبحاث المتخصصة في التربة والمياه والمناخ والنباتات والتصنيع الغذائي واقتصاديات الغذاء وفي ميدان العلوم الاجتماعية لا يمكن، على سبيل المثال، بلورة سياسة خارجية قادرة على خدمة المصالح الوطنية دون مجموعة من مراكز الأبحاث المتخصصة في القانون الدولي والعلاقات الدولية وقضايا الجيوبوليتيك والنزاعات الاقليمية وانتروبولوجيا الشعوب وتاريخ الدول والاقتصاد الدولي. أي أن هناك حاجة لسبعة مراكز أبحاث متخصصة، كحد أدنى، مهمتها رفد السياسة الخارجية للدولة.

توطين الجامعات

هذه المسألة قائمة اليوم في عدد من دول العالم، بما فيها تلك القليلة الحضور في الساحة الدولية. واذا سعت دولة ما لأن تكون رائدة وطليعية في قطاع الخدمات، فستكون بحاجة الى سلسلة من مراكز الأبحاث المتخصصة في الدعاية والاعلان والعلاقات العامة، والترويج السياحي، وتفعيل الاستثمارات الدولية - بما في ذلك توطين الجامعات والمشافي والمؤسسات ذائعة الصيت، وعليها انجاز الدراسات الخاصة بانشاء الجسور والقنوات والطرق الدولية القادرة على جعل البلاد ملتقى اقليميا لا غنى لأحد عنه.

كذلك، اذا أرادت دولة ما الدفع باتجاه تمكين المرأة سياسيا، فستجد نفسها معنية بتشييد مراكز أبحاث متخصصة في التاريخ الاجتماعي، وتحليل الظواهر السوسيولوجية ومدى صلتها بالدين، وطرق ومناهج التأثير في الرأي العام. هذا فضلا عن سبل التنشئة السياسية والمعرفية العامة للمرأة أما صيانة الأمن القومي للدولة في اطاره العسكري، فيجب أن تعنى به سلسلة من مراكز الأبحاث المتخصصة في قضايا التسلح والصناعات الأمنية، وأمن المعلومات، وتحليل القدرات العسكرية والتوازنات الاستراتيجية، ومقاربة التحالفات القائمة والمحتملة، ودراسة الظواهر الخطرة العابر للدول والقوميات.

حفظ الموارد

في المجمل، ان الدولة، أية دولة كانت، بحاجة الى مئات المراكز البحثية المتخصصة، التي ترفد مشاريع التنمية والتطوير الوطني. ومن دون ذلك تكون البلاد قد أضاعت على نفسها فرص النهوض وتعزيز المكانة الدولية والاقليمية وقد يقول قائل ان طرحا كهذا يعد أمرا مبالغا فيه، لأنه لن يكون سوى نزفا لخزينة الدولة ومواردها المالية. لكن مثل هذا القول لا يمكن الأخذ به لسببين رئيسين: الأول، لأن عمل مؤسسات الدولة دون استناد الى قاعدة علمية متينة ومتماسكة، وبالتالي دون تخطيط بعيد المدى، يعني هدرا لا طائل منه لموارد البلاد، ويعني دورانا لا نهاية له حول الذات، بدلا من السير الى الأمام بخطى واثقة أما السبب الثاني لرد مقولة نزف البحث العلمي لموارد الدولة، فيتمثل في حقيقة أن البحث العلمي الجاد والرصين يعد بحد ذاته مصدرا مستقلا للدخل المالي. فالمعرفة باتت اليوم سلعة تسوق في أنحاء العالم.

ثمة مصطلح جديد دخل قاموس الاقتصاد هو مصطلح «تصدير الخبرات». وتصدير الخبرات قد يكون عبر بحث خاص بمعالجة قضية محددة، وقد يكون عبر ندوات، أو زيارات استشارية يقوم بها خبراء الى دولة معينة، أو مؤسسة معينة، من طرف مركز بحثي ذي صلة باحتياجات هذه الدولة أو المؤسسة ولكننا لن نتحدث هنا عن تنمية الثروة المالية من خلال مراكز الأبحاث، انما سنؤكد على الحفاظ على هذه الثروة من خلال تشييد مراكز بحثية ذات جدارة، قادرة على تلبية احتياجات الدولة والقطاع الخاص، أو القسم الأساسي من هذه الاحتياجات.

تنمية دول الخليج

بالنسبة لدول الخليج، على وجه التحديد، ثمة حاجة لمراكز أبحاث وطنية وأخرى اقليمية على مستوى مجلس التعاون الخليجي، ترتبط فيما بينها بمستوى متقدم من التعاون والتنسيق، ذلك أن مشاريع التكامل الاقليمي التي تنشدها هذه الدول لابد أن ترتكز، حالها حال المشاريع الوطنية، على قاعدة علمية صلبة ومتماسكة، يؤسسها البحث العلمي الجاد والرصين والأكثر من ذلك، ثمة حاجة لمراكز أبحاث متخصصة في قضايا التكامل الاقليمي ذاته، والتحديات الاقليمية الطابع، ومسائل الأمن الاقليمي والقضايا الاستراتيجية الكبرى المرتبطة بهذا الأمن ان دول الخليج معنية اليوم باستثمار جزء من فوائضها المالية من أجل بناء قاعدة متينة للبحث العلمي، وهي اذ تفعل ذلك فانما تستثمر عاليا في ثروتها البشرية، وتؤسس لحياة أكثر قدرة على مواكبة العصر ومواجهة تحدياته المتعاظمة.

وكل ذلك بحسب المصدر المذكور نص و دون تعليق .

المصدر: alqabas