السُّمنة: و"قصف"... ثلث العمر

 

 

د. أكمل عبد الحكيم 

 

 

ندرك جميعاً مدى انتشار وباء السمنة في جميع مناطق العالم دون استثناء، وخصوصاً في دول منطقة الخليج. ولكن ما هي الأسباب، التي دفعت بأبناء الجنس البشري خلال العقود الأخيرة لتخزين ملايين الأطنان من الدهون والشحوم؟ فالسمنة من المنظور الطبي، هي الفارق بين الداخل والخارج من السعرات الحرارية، وهو الفارق الذي يضطر الجسم لتحويله من خلال عمليات كيميائية مُعقدة إلى دهون وشحوم ولذا يمكن إعادة صياغة السؤال السابق بالشكل التالي: ما هي الأسباب التي جعلت ما نتناوله من سعرات حرارية، أعلى مما نستهلكه؟ أول ما يتبادر إلى الذهن للإجابة على هذا السؤال هو النهم المرتبط بقلة الحركة والنشاط البدني. هذا المنطق يلقي باللوم فيما يتعلق بوباء السمنة على عاتق الأفراد، مصوراً إياهم كنهمين مفرطين في الطعام، وفي نفس الوقت ككسالى "بلداء".

ولكن بما أن الإحصائيات تشير إلى وجود أكثر من 1600 مليون شخص مصابين بزيادة الوزن، بالإضافة إلى 400 مليون آخرين مصابين بالسمنة المفرطة، فهل يعقل أن ثلث أفراد الجنس البشري تحولوا فجأة إلى أشخاص "نهماء كسلاء"؟ هذا التساؤل لابد وأن يدفع بنا للبحث عن أسباب أخرى خلف وباء السمنة، بخلاف المسؤولية الفردية.

ولعل أفضل مثال على ضرورة التحول نحو تغير جوهري في منطق البحث عن أسباب السمنة، يتجلى في سمنة الأطفال. فلدى هذه الفئة العمرية، يتزايد الاعتقاد حالياً بأن السمنة هي نتيجة خطأ الأبوين وليست ذنب الطفل.

خطأ الأبوين هذا، يظهر من خلال عدة ممارسات سلبية. مثل الإصرار على تغذية الطفل بشكل مستمر - قسراً أحياناً- لضمان أنه "متختخ" - كما يُقال بالعامية - وبصحة جيدة، أو كنتيجة لعدم بذل الأبوين للجهد اللازم لجعل الخضروات والفواكه جزءاً رئيسياً من طعام الأطفال اليومي. أو عبر الاستسلام لرغبات الطفل في الحصول على الأطعمة المحتوية على كميات كبيرة من السكريات، مثل الحلويات والمياه الغازية، بدعوى أنك لا تستطيع حرمانهم منها، أو أنك لن تتمكن من منعهم من تناولها.

أو من خلال تجاهل احتياجات الطفل في اللعب خارج المنزل في الحدائق والأماكن المفتوحة وممارسة الرياضات البدنية، واستعاضة الأهل عن هذه النشاطات بالتليفزيون، كحل سهل وسريع لشغل وقت الطفل. في جميع هذه الحالات، لا يمكن أن نلقي بالمسؤولية على الطفل أو الفرد، بل تقع المسؤولية هنا على عاتق الأسرة، إلى درجة أن بعض أفراد المجتمع الطبي أصبحوا مؤخراً يطالبون بمعاملة سمنة الأطفال، كنوع من الإهمال الجسيم ومن إساءة المعاملة من قبل الوالدين، تماماً مثل الضرب المبرِّح أو الاعتداء الجنسي، لما لها من آثار وخيمة على صحة الطفل المستقبلية.

المتهم الآخر خلف وباء السمنة العالمي، هي التطورات التكنولوجية التي شهدها العصر الحديث. ففي الوقت الذي حققت فيه الميْكنة الزراعية زيادة هائلة في إنتاجية المحاصيل، مما جعل الغذاء متوفراً بكميات كبيرة وبأسعار زهيدة، قللت هذه التكنولوجيا من حجم المجهود البدني الذي أصبح أفراد الجنس البشري يبذلونه فمفهوم الرفاهية حالياً، أصبح مرتبطاً ببذل أقل مجهود ممكن، من خلال استخدام الآلات الميكانيكية والكهربائية.

مثل الانتقال من مكان إلى آخر بالسيارة، أو صعود المباني باستخدام المصاعد، أو تغيير قنوات التليفزيون من خلال "الريموت" وحتى تجهيز الطعام، أصبح عملية سهلة تتم بأقل مجهود، من خلال الخلاطات والسكاكين الكهربائية وأجهزة الميكروويف و"البوتجازات" الأتوماتيكية وبالطبع، تتمثل هذه الوفرة الغذائية التكنولوجية بشكل جلي، من خلال صناعة تعليب وتصنيع الأغذية، والتي تمكنك من خلال رحلة قصيرة للسوبرماركت، أن تحصل على عشرات الآلاف من السعرات الحرارية الجاهزة للتناول خلال دقائق معدودة.

وإذا ما انتقلنا لمسؤولية المجتمع، فسنجد أنها تأخذ أشكالاً متعددة، تصب جميعها في اتجاه زيادة وزن الأفراد. فبداية هناك تخطيط أو هندسة المدن، الذي لا يأخذ في الاعتبار توفير مساحات كافية للتمشي والتنزه، أو عدم تخصيص مسارات خاصة لراكبي الدراجات الهوائية، أو تجاهل توفير أماكن لممارسة الرياضات الشعبية من قبل أفراد الأسرة ومجموعات الأصدقاء والشباب وبعيداً عن هندسة المدن، نجد أن سياسات التعليم، وهو مسؤولية مجتمعية إلى حد كبير، لا تضع ممارسة الطالب للنشاطات الرياضية ضمن أولوياتها. حيث ينظر للطالب الممتاز على أنه الذي يلتصق بمقعده خلا ساعات الدراسة، لينكفئ بقية ساعات اليوم عندما يعود لمنزله لتقضية واجباته اليومية. وفي نفس الوقت، تعتبر هذه السياسات التعليمية أوقات النشاط البدني، على أنها مجرد حصة ألعاب لا تحسب في التقييم النهائي لأداء الطالب.

ولن ندعي في المساحة المخصصة هنا، أننا قد استطعنا استعراض أهم الأسباب خلف وباء السمنة العالمي، أو حتى جزءاً يسيراً منها. وكل ما نحاول أن نحققه، هو التنبيه لضرورة تحليل هذه الأسباب بنظرة أكثر شمولية، تخرج عن الحيز الضيق للمسؤولية الفردية، لتناقش مسؤولية كل من الأسرة والمجتمع والتعليم والتكنولوجيا.

هذا الاتجاه أصبح حالياً ضرورة ملحَّة، في ظل الفشل المتصاعد للنصيحة الثنائية البسيطة (قلل أكلك ومارس رياضة أكثر)، وهو الفشل الذي يتجسد في الزيادة المستمرة واللانهائية في أعداد من يصنفون كأشخاص زائدي وزن، أو كمصابين بالسمنة المفرطة. وخصوصاً إذا ما أدركنا أن زيادة الوزن "تقصف" تسع سنوات من عمر الفرد، بينما تقلل زيادة الوزن المفرطة ثلاثة عشر عاماً من العمر.

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق.

المصدر:الإتحاد الإماراتية-1-11-2007