الأمراض والأوبئة في زمن العولمة

 

د. أكمل عبد الحكيم

 

يشير مصطلح العولمة في مفهومه الأساسي إلى نوع من التواصل والتكامل والاعتماد المتبادل بين الدول والشعوب في العديد من المجالات، مثل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية والثقافية والسياسية والبيئية. ورغم أن العولمة أتت بالعديد من الفوائد لأفراد الجنس البشري، فإنها حملت أيضاً معها حزمة من الآثار السيئة، وطائفة واسعة من الجوانب السلبية المتعددة. أحد هذه الجوانب، هو الدور الذي لعبته العولمة على صعيد انتشار الأمراض والأوبئة بين قارات ومناطق العالم المختلفة والمتباعدة. أهمية هذا الجانب السلبي للعولمة، دفعت بمنظمة الصحة العالمية هذا الأسبوع، إلى إصدار تقرير خاص بعنوان "الأمن الصحي العالمي" (International Health Security)، ضمن فعاليات الاحتفال بيوم الصحة العالمي، والذي تحل ذكراه في السابع من أبريل من كل عام. وبخلاف أن التقرير يطرح مفهوماً جديداً، متمثلاً في الأمن الصحي العالمي، وبشكل مماثل لمفاهيم الأمن السياسي والاقتصادي والغذائي، فإنه يلقي الضوء أيضاً على جوانب العلاقة بين تصاعد ظاهرة العولمة وتزايد انتشار الأمراض والأوبئة. فالعولمة بطبيعتها، تعتمد على زيادة حركة البضائع والأشخاص بين مناطق ودول العالم المختلفة، وهو بدوره ما يسهل أيضاً من انتقال الجراثيم والميكروبات بين تلك المناطق والدول. فعلى مدار التاريخ، دائماً ما حقق تباعد المسافات، ووجود العوائق الجغرافية من جبال ومحيطات، نوعاً من الحجر الصحي الطبيعي، عمل على بقاء الأمراض والأوبئة في نطاق محلي في الكثير من الأوقات. ولكن في زمن العولمة، تلاشت المسافات، واختفت العوائق الجغرافية، وأصبحت الأوبئة منذ لحظة ولادتها، دولية الصفة وعالمية المخاطر.

وعلى عكس الاعتقاد الشائع بأن العولمة ظاهرة حديثة نسبياً، يرى المتخصصون أن العولمة بدأت بالفعل مع عصر الاستكشاف، خلال الفترة ما بين القرن الخامس عشر والسابع عشر. ففي هذه الفترة، أدت التطورات الهندسية في بناء السفن وفي تكنولوجيا الملاحة، إلى تمكين الأمم والشعوب من الخروج عن المناطق المعروفة لها سابقاً في العالم القديم، وإعادة استكشاف مناطق العالم الجديد. وللأسف لم يحمل هذا الاستكشاف معه البضائع والمنتجات الجديدة فقط للعالم القديم، بل حمل معه أيضاً أمراضاً وأوبئة للعالم الجديد لم يعهدها سكانه من قبل. فعلى سبيل المثال، كان السل الرئوي والجدري يستوطنان القارة الأوروبية منذ قرون طويلة، وهو ما سمح للأوروبيين بتوليد مناعة نسبية ضد هذين المرضين. ولكن عندما حمل المستكشفون هذه الأمراض إلى العالم الجديد، دفع السكان المحليون ثمناً فادحاً لها، بسبب عدم تمتعهم بأية مناعة ضدها، وهو ما أدى إلى انقراض مجتمعات وحضارات عن بكرة أبيها. ولذا يُظهر تاريخ هذه الحقبة بالذات، ما يمكن أن تؤدي إليه العولمة من آثار على الأمن الصحي القومي، عن طريق تسهيلها لنقل أمراض وجراثيم جديدة على المجتمعات المحلية. وفي التاريخ الحديث، نجد أن سهولة السفر والترحال، مكنت فيروس الإيدز من الانتقال من أدغال القارة السمراء إلى معظم مناطق العالم، بحيث أصبح من الصعب العثور على بلد أو مدينة لا يتواجد فيها الفيروس. وخلال أقل من ثلاثة عقود، تمكن فيروس الإيدز من قتل أكثر من خمسة وعشرين مليون شخص، بينما يوجد خمسة وثلاثون مليون شخص آخرون يحملون الفيروس في دمائهم حالياً. ومازالت الذاكرة مفعمة بمظاهر الرعب الذي اجتاح العالم قبل بضعة أعوام، مع ظهور مرض "السارس" في دول جنوب شرق آسيا. فرغم أن هذا المرض لم يقتل حتى الآن إلا 774 شخصاً، فإن السرعة التي انتشر بها عبر الدول والقارات من خلال السفر الجوي، كانت هي السبب الرئيسي في التوتر الشديد الذي أصاب الجهات الصحية الدولية، من احتمال ظهور وباء عالمي يفتك بالملايين. وأخيراً هناك وباء أنفلونزا الطيور، والذي توقع علماء "مبادرة الصحة الدولية" التابعة لجامعة هارفارد (Harvard Initiative for Global Health)، أنه سيتسبب في مقتل 62 مليون شخص إذا ما وقع عام 2007، وخصوصاً بين أفراد شعوب الدول الفقيرة. فبناء على تعداد سكان العالم حالياً، أظهرت التقديرات الإحصائية أن وباء مستقبلياً من الإنفلونزا، سيتسبب في مقتل ما بين 51 إلى 81 مليون شخص. هذا العدد الهائل من الضحايا، لن يقع في بلد أو قارة واحدة بمعزل عن بقية الدول والقارات. بل يتوقع له أن ينتشر في جميع أصقاع العالم من دون استثناء، عبر آلاف الرحلات الجوية اليومية التي تحمل مئات الآلاف من المسافرين يومياً، في واحد من أهم مظاهر العولمة الحديثة.

كل هذه الأمثلة تظهر لنا بشكل جلي، أنه في عالم اليوم سيعتمد الأمن الصحي الدولي بشكل رئيسي، على مدى فعالية التعاون والتنسيق بين الحكومات مع بعضها بعضاً، وبين السلطات الصحية داخل الدول وبقية الجهات المعنية، بما في ذلك مؤسسات المجتمع المدني، ومؤسسات القطاع الخاص، ووسائل الإعلام، وغيرها. ففي زمن العولمة، لن يكون في مقدور جهة واحدة، أو دولة بمفردها أن تقف في وجه التهديدات الصحية القومية، الناتجة عن انتقال الجراثيم والأوبئة عبر الحدود والقارات. فمن خلال التعرف على مصادر الأوبئة، والإعلان عنها في مراحلها الأولى، ثم تفعيل التنسيق على نطاق واسع بين الحكومات والجهات الصحية الدولية، يمكن فقط للجنس البشري أن يحقق أكبر قدر من الأمن الصحي الدولي، وأن يتجنب سقوط الملايين من أفراده ضحايا لمثل تلك لأمراض الوبائية.

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق.

المصدر:الإتحاد الإماراتية-9-4-2007