صياغة البرلمان والمشاركة الشعبية في الدستور العراقي الدائم

 

المهندس فؤاد الصادق 

 

 

إن قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الإنتقالية الحالي قد أقرَّ للعراق نظاماً هو أقرب للنظام البرلماني منه إلى النظام الرئاسي، ولما لَمْ يكن برلمانياً تماماً قال فيه بعض فقهاء القانون الدستوري: أنه يخلط بين النظامين البرلماني والرئاسي خلطاً، بينما وصف آخر ذلك بأنه خلط غريب، وعلى كل التقادير يبدو وكما تقدم أن القانون المذكور أقرَّ للعراق نظاماً سياسياً قريباً مِن النظام البرلماني لضرورات يمليها الواقع العراقي القائم في الوقت الحاضر، وهذا يحمل في طياته أمرين:

الأول: الأهمية غير العادية للبرلمان أو المجلس الوطني في العراق.

الثاني: ما تمَّ إقراراه كان إستجابة لضرورات عديدة مرتبطة بالحاضر المتميز بجِدة الديمقراطية، ومنظومة الأحزاب والمؤسسات و.... الخ.

لكن الحاضر سيتغير، لا لأن التغيير بحد ذاته متواصل، بل وإضافة لذلك، لأن الدستور مؤقتاً كان أمْ دائماً يُنّظِّم سيرَ النظام مِن جهة، ويُحدِث تغييرات، ويُفرِزُ وقائع وَسمات جديدة.

وبناءاً على ذلك لابد مِن إهتمام الفائق مع صياغة الدستور الدائم بالبرلمان حجماً ودوراً وصياغة ودعماً بقاعدة شعبية عريضة متآتية مِن مشاركة واسعة فيكون البرلمان مرآة واقعية لمكونات الشعب العراقي وتطلعاته وآماله، الأمر الذي عادة تبتعد عنه لعوامل منها النظام الإنتخابي المتمادي في نسبيّة التمثيل أو التمثيل النسبي المفرط الذي ربما يجعل النظام السياسي نظاماً أقرب إلى الديمقراطية غير المباشرة، أو نظاماً أقل ديمقراطية، فلابد للدستور الدائم الإهتمام البالغ بما يرتبط بهذه الجوانب، وعلى رأسها إقرار النظام الإنتخابي الأفضل للعراق على المدى المنظور على الأقل، وذلك بتناول أسس ذلك، علاوة على طرق وسبل تغيير أو تعديل النظام المستقبلي لحماية مصادرة الديمقراطية الناشئة، أو دفع دائرة تأثيرها نحو العدم أو مقاربته، فذلك يتصدر ما تمليه وبإلحاح جِدة الديمقراطية، ومواصفات الأحزاب والمنظمات والمؤسسات والقوى والأعراف والعادات التي زرعتها الممارسات السابقة، ولذلك نؤكد بأن الديمقراطية وسيلة تمتلك تقنيات لتنظيم الحرية، وتجسيدها، وحمايتها، والإنتخابات لضمان التداول السلمي للسلطة لا تُمثِل إلا مدخلاً للديمقراطية، فيمكن أن تنجح، ويمكن أن تكون غطاءاً، وإذا نجحت نسبية تمثيل ما تفرزه نتائج الإنتخاب لآراء الناخبين يمكن أن يكون كبيراً أو صغيراً، أو معتدلاً، ويرجع ذلك لأمور عديدة منها مثلاً نوع النظام الإنتخابي الذي خضعت له الإنتخابات، ولا يرتبط ذلك بالعراق، فحتى في بعض الدول التي بدأت مسيرتها لديمقراطية قبل فترة طويلة تُسمع نداءات لجعل نظمها السياسية أكثر ديمقراطية بسوقها نحو الديمقراطية المباشرة أو الديمقراطية الأكثر مباشرة تحت عناوين مختلفة منها: المواطنة القوية، والتي تقابل الدولة القوية، أو الدولة القوية مع المواطنة القوية.

وعلى ذلك فنظام الإنتخابات هو الذي يُحدِد درجة ديمقراطية النظام السياسي، والمقدار الذي تعكسه نتائج الإنتخابات عن دور الناخبين، فمثلاً نظام التمثيل النسبي التفضيلي يعكس آراء الناخبين في نتائج الإنتخابات أكثر مِن نظام التمثيل النسبي غير التفضيلي، لأن الأول يمنح الناخب حرية أكثر في الإنتخاب، فيكون الرئيس الفائز أكثر تمثيلاً لآراء الناخبين، وهكذا الأمر بالنسبة للبرلمان بعد إنتخاب أعضائه، وليس المراد هنا تقييم الأنظمة الإنتخابية، لكن القصد الإلفات إلى الدور المحوري الذي يمكن أن تلعبه الأنظمة الإنتخابية في ولادة البرلمان، وموقعه، وتفاعله، ومدى تمثيله لآراء الناخبين، وعليه:

لا يصحّ تعويم أو تسطيح إختيار النظام الإنتخابي الذي سيتم العمل به في العراق بعد تدوين الدستور الدائم، فالنظام الإنتخابي يعتبر واحداً مِن أهم المؤسسات السياسية التي تفرض قواعد اللعبة التي تحكم ممارسة الديمقراطية، وفي الغالب يمكن القول بأن المؤسسة الأكثر عرضة للتلاعب، عن قصد، أو غير قصد، وبقصد نبيل، أو بقصد آخر هي النظام الإنتخابي، والحاجة تصبح أكثر إلحاحاً في ظلّ نظام برلماني، وديمقراطية فتية، وضرورة ماسة لبرلمان وسلطة ذات ديناميكية عالية تتلائم مع التركة الثقيلة للنظام السابق في كل المجالات وعلى مختلف المستويات، وكلما كان النظام الإنتخابي الذي يُصار إليه أكثر ديمقراطية كلما كان أكثر تمثيلاً للشعب وآراء الناخبين، وأقرب للعدالة فالمشروعية، وكلما كان الإسناد الشعبي أكبر لتجاوز الأزمات الكبيرة، ومواجهة التحديات، وحماية الديمقراطية، والإحتفاظ بثقة وتفاعل شعبي أكبر، كما أنه ومع كل هذه المواصفات خطير جداً أن يُترك إنتخاب النظام الإنتخابي، أو حق تعديله للمُشرِّع العادي دون أسس ومعايير محددة مدروسة تضمن الحياة والنمو والبقاء للديمقراطية الناشئة في العراق، والخيارات أكثر مِن الكثير في دائرة الأنظمة الإنتخابية لإختيار الممكن الأفضل الأكثر ديمقراطية وعدالة، ومما يلائم مكونات الشعب العراقي وظروفه.

فلابد مِن إختيار النظام الإنتخابي وبحكمة ليكون أكثر تناسباً مع الوضع الإجتماعي، السياسي، الإقتصادي، الديني و... للبلاد، فإضافة إلى ما تقدم لكلِّ نظام إنتخابي آثاره المالية والإدارية، ومكوِّناته فيما يخص تواتر الإنتخابات، حجم البرلمان، صيغ الإقتراع، وطرق تحويل الأصوات إلى مقاعد برلمانية، والأهم في كل ذلك سبل تعديل النظام الإنتخابية، والخطوات الأولى تكمن في:

- تحديد معايير صياغة النظام الإنتخابي، لدراستها، وتقويمها، والمقارنة بينها.

- إختيار المعايير لتشكِّل قاعدة لصياغة النظام الإنتخابي.

- دراسة الأنظمة الإنتخابية الأقل كلفة، أو الأكثر مردوداً، وديمقراطية فيما يرتبط بتسجيل الناخبين، وتقسيم الدوائر الإنتخابية، وتثقيف الناخبين، وما نحو ذلك.

فلا تؤثر الأنظمة الإنتخابية على المقترعين ومشاركتهم وتفاعلهم فقط، بل يؤثر إنتخاب النظام الإنتخابي بما يترتب عليه مِن قواعد لتحويل أصوات الناخبين في إنتخاب عام إلى مقاعد برلمانية في الشخص الذي سيُنتخب، وفي الحزب الذي سيتولى السلطة، وحتى عندما يفوز حزبان على عدد مماثل مِن الأصوات، فإنَّ نظاماً إنتخابياً معيَّناً قد يعمل لإعطاء الأفضلية في هذه الحالة لحكومة إئتلافية، في الوقت الذي يمكن أن يعمل نظام إنتخابي آخر حزباً واحداً سيطرة أكثرية.

كما أن للأنظمة الإنتخابية آثار محورية أكبر وأكثر أهمية منها:

- التأثير في نظام الأحزاب والمنظمات القائم، وإلى حد تعديل أو تغيير ذلك النظام، أو أنظمتها الداخلية، أو نمو سريع في عدد الأحزاب، أو ضمور بعض الأحزاب.

- التأثير في عدد الأحزاب التي تصل إلى البرلمان، وأهميتها النسبية داخل البرلمان.

- التأثير في التوافق أو التصارع الداخلي للأحزاب، فمِن الأنظمة الإنتخابية ما يدفع إلى تعدد الإجنحة في الحزب الواحد، والخلاف، بينما هناك أنظمة أخرى تدفع الحزب الواحد أو الأحزاب للتحدث بصوت واحد، وإستبعاد الخلاف.

- التأثير في ولادة نخب سياسية جديدة، والتمهيد لدخول الإنتخابات فدخول البرلمان، وبذلك تساعد على تغيير المناخ السياسي، وإنتخاب الكوادر.

- التأثير في تشجيع أو تأخير بروز التحالفات بين القوى والأحزاب أو المنظمات.

- التأثير في خلق حوافز للأحزاب والجماعات على الإنسياق نحو إستحصال قاعدة واسعة، والتقدم ببرامج ومواقف ووجهات نظر وسطية مشتركة، كما يمكن أن يكون النظام الإنتخابي يدفع في الإتجاه المعاكس لذلك.

- التأثير في دفع المعارضة نحو السلبية والمقاطعة، أو الإستعانة بوسائل غير ديمقراطية، وربما عنيفة، وذلك عندما يكون النظام الإنتخابي مفارقاً للعدالة، ولا يسمح بصورة واقعية للمعارضة بالفوز في الإنتخابات القادمة فيقود الخروج مِن العملية السياسية والنظام السياسي، ففي مثل هذه الحالات إما تأخذ المعارضة صورة سلبية، فلا تعود إلى إنتهاج السبل الدستورية المتاحة للتعبير والمشاركة السياسية، لأنها عقيمة عندها، كما لا تقدم على إستخدام القوة في تنفيذ أهدافها، بل تتخذ موقفاً سلبياً فيمتنع أنصارها عن المشاركة في الحياة العامة أو تأييد الحكومة أو معاونتها في تنفيذ قراراتها ومشروعاتها، وكلما زاد عدد المعارضين السلبيين كلما تمكنوا بمواقفهم مِن المساهمة في شلِّ حركة السلطة وتكبيل نشاطها فتتدهور الأحوال العامة في الدولة ويضعف مركزها.

بينما في حالات أخرى يساعد إنعدام العدالة في نفس النظام الإنتخابي (ناهيك عن التطبيق غير العادل) إلى خلق ردات فعل، وهزات قوية جداً تتحول إلى مبررات للوقوع في وحل العنف، ودوامته اللامتناهية لجميع الأطراف.

هذه بعض نتائج وآثار النظام الإنتخابي على شكل ومواصفات ودور البرلمان مِن جهة، وعلى المشاركة الشعبية مِن جهة ثانية، وعلى درجة الديمقراطية، والمدى الذي يعكسه مِن الوقائع القائمة في المجتمع، ويرسمه للمستقبل: فهلْ سيمنح البرلمان قضية نظام الإنتخابات المساحة المطلوبة الكافية في صياغة الدستور الدائم؟

ألا يدعمُ ما تقدم الإعتراضَ على تفويض قانون إدارة الدولة العراقية المؤقت مهمة صياغة مسودة الدستور إلى البرلمان بدلاً مِن إيكاله إلى مجلس تأسيسي مُنتخب لكتابة الدستور؟

لأن ذلك سيقرر الفوز المجدد في الإنتخابات القادمة، فللمصالح آثارها ومستحقاتها أحياناً أو عادة، وإنْ كانت النوايا نبيلة.........!!

للحديث صلة.... .

 

 Siironline.org