متى يكون الخطاب الإعلامي مؤثراً؟

 

أ.د. عبد الرحمن بن سليمان الطريري

 

 

أسأل نفسي كثيرا: هل يوجد خطاب مؤثر وآخر غير مؤثر؟ وإذا كانت الإجابة بنعم فما الخطاب المؤثر وما غير المؤثر؟ أي بعبارة أخرى ما مواصفات وخصائص الخطاب المؤثر؟ وهل التأثير إيجابي أم سلبي؟ الخطاب نجده في مجالات عدة، فالمعلم يمارس الخطاب والخطيب في الجامع يمارسه والإعلامي سواء كان في إذاعة أو تلفزيون يفعل ذلك. الجميع يمارس الخطاب، الوالدان يمارسانه مع أبنائهما وكذلك الناس في تفاعلهم مع بعضهم بعضا. الخطاب قد يكون مكتوبا أو مسموعا ومرئيا كما في البرامج الإذاعية أو التلفزيونية وكل هذه الأنواع من الخطاب يفترض أن تؤثر في المتلقي لأن المرسل لديه هدف أو أهداف يرغب في إيصالها إلى المتلقي الذي قد يكون طالبا أو مستمعا ومشاهدا لوسيلة الإعلام أو قارئا للمقال أو الكتاب والقصة. من مشاهدات الواقع لمست أن بعض المتحدثين من خلال البرامج الإذاعية أو التلفزيونية يغلب عليهم الانفعال والعاطفة الجياشة حتى أنهم يرفعون أصواتهم وتتداخل كلماتهم وجملهم مما يجعل المستمع ينفر من متابعة هذا البرنامج أو ذاك، أما الخطاب المكتوب فتجد اللغة الحادة والكلمات الشديدة الوقع هي البارزة في المقال أو الكتاب. كثيراً ما أجد نفسي مضطراً لتغيير القناة التلفزيونية إلى أخرى بسبب الصراخ والزعيق والحركات التي تخرج المتحدث من عالم الرزانة والهدوء إلى عالم التهور، كما يحدث الشيء نفسه مع بعض المتحدثين في بعض الإذاعات، إذ بصورة عفوية وسريعة أغير الإذاعة نظراً لصعوبة الاستمرار في متابعة المتحدث. لقد لمست وأنا أتابع الإذاعات ومحطات التلفزيون إننا نحن العرب نميل إلى رفع الصوت والإكثار من حركات اليدين والرأس حتى أن البعض يميل شماغه أو غترته من على رأسه، بل ربما توشك على السقوط لشدة انفعاله وهو لا يعلم ذلك.

ترى لماذا يحدث هذا الشيء؟ لتفسير هذا الأمر يلزم الإشارة إلى الثقافة العامة، إذ إن رفع الصوت والمبالغة في ذلك قد تكون بسبب الثقافة التي اعتاد عليها الفرد، فهو يسمع والده ووالدته ومعلمه وخطيب الجامع يمارسون هذا الشيء، وبتكرار مشاهدة هذه الممارسات يبدأ بتقمص هذه الشخصيات، ومن ثم يكتسب هذا السلوك ويكون أشبه بالعادة، أما السبب الآخر فهو الاعتقاد لدى البعض أن رفع الصوت هو السبيل الأقصر للإقناع وإيصال الرسالة المقصود إيصالها للآخرين، وهذا التفسير لا يمكن فصله عن تأثير الثقافة العامة السائدة في المجتمع، ففي بعض المجتمعات يؤكد على الناشئة أن حفظ الحقوق، أو استرداد المسلوب منها يتم من خلال رفع الصوت، والصياح والزعيق. إن شعور الفرد بضعف حجته أمام الآخرين يؤدي به إلى اختيار أسلوب رفع الصوت والانفعال والإثارة ظناً منه أن الإقناع يتم بهذه الصورة.

لاحظت أن الضيوف الأجانب الذين تستضيفهم بعض القنوات الفضائية يبدو عليهم الهدوء والرزانة في الطرح وخفض الصوت، وقلة في الحركات الجسدية مما يبعث على التساؤل: لماذا هم على هذه الشاكلة ونحن بصورة مغايرة، هل بالفعل الثقافة المجتمعية لها الدور الأكبر، أم أن التدريب، والمران على الخطابة والحديث لهما فعلهما وأثرهما لدى هؤلاء؟ كما أن طبيعة الشخصية بسماتها وخصائصها وما تتميز به من هدوء وسكينة لها دورها في الأسلوب الذي يختاره الفرد عند حديثه إلى الآخرين سواء بصورة مباشرة، أو غير مباشرة.

بعض المواضيع التي يتم الحديث عنها إلى الآخرين لا تحتمل في طبيعتها إخضاعها للانفعال ورفع الصوت، ومع ذلك يصر المتحدثون عن هذه المواضيع على ذلك، مما يفقد الموضوع أثره وينفر المشاهد، أو المستمع من مشاهدة هذا البرنامج، أو من سماع هذا المتحدث.

كم تمنيت لو أن بعض مقدمي البرامج - في إحدى إذاعاتنا المحلية - أخذوا دورة تدريبية في الإلقاء وتجنبوا الانفعال، ورفع الصوت في كل الحالات، وقصروا ذلك على الحالات التي تستدعي ذلك، لأن المواضيع التي يتحدثون عنها مهمة وتمثل درراً لا تضاهيها درر أخرى، لكن شدة الانفعال والحماس يضيع على هؤلاء الهدف الذي من أجله تعبوا وأعدوا هذا البرنامج.

ما من شك أن المتلقي قد يتأثر عند سماعه أي خطاب لكن نسبة التأثر مع الاقتناع تزيد وتنقص حسب الحالة التي يقدم فيها الخطاب، فخطاب الهيجان والحماس، قد يكون له أثر وقتي، لا يلبث أن يزول بانتهاء الخطبة، أو البرنامج. حقا لا يمكن الفصل بين العاطفة والعقل، إذ يؤثر أحدهما في الآخر، لكن الأهم أن تكون السيادة في الموقف للعقل فبه توزن الفكرة، ومن خلاله تضبط الجملة، ومن خلاله أيضا يتم انتقاء الكلمات. العاطفة الجياشة قد تضيع الفكرة المراد إيصالها للمتلقي وتثبيتها لديه، والعاطفة قد تؤدي إلى سوء اختيار الجملة أو الكلمة ومن ثم لن يبقى إلا الصوت الثائر الرنان، وهذا للأسف هو الغالب على بعض الأفراد حينما يتحدثون، ومثل هذا الخطاب قد يكون مفيداً في بعض هذه المناسبات، والظروف، لكن إدمانه، والاستمرار عليه يفقد صاحبه ثقة الجمهور ويشعرهم بضعف حجته، ومن ثم يولد عدم الرغبة في المتابعة. إن الإقناع العقلي القائم على مواجهة الحجة بالحجة والدليل بالدليل والرقم بالرقم ودحض الفكرة بالفكرة سيكون أبلغ وأجدى من محاولة رفع الصوت ولا غير. إن طريقة الأداء لها أثر مهم وأساسي في المستمع، ويدخل ضمن طريقة الأداء الإيقاع الجيد، حيث يرفع المتحدث نبرة صوته في موضع ويخفضه في موضع آخر، ويحسن مخارج الحروف، ويعرف أين يتوقف ومتى يستمر، وهذه لا بد لها من تدريب ومران يكسب الفرد مهارات الحديث الجيد والمؤثر. إن تعمد السجع من قبل بعض المتحدثين قد لا يكون مناسباً في موقف أو مع موضوع من المواضيع رغم جاذبيته وإطرابه للمستمع، ولذا فإن تجنبه في بعض المواضيع قد يكون هو الأفضل، وكما يقول المثل العربي الشهير لكل مقام مقال. لا عجب فكبار رؤساء الدول يتدربون على إلقاء الخطب تحت إشراف متخصصين في هذا المجال وأتذكر أن برنامجاً تلفزيونيا أمريكياً عرض في يوم من الأيام الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريجان وهو يتدرب على إلقاء كلمة ويتبع إرشادات المدربين بشأن صوته من حيث الارتفاع والانخفاض، وحركات يديه، وتعبيرات وجهه، وذلك لما لهذه الأشياء من دلالات ومعان يمكن تفسيرها من الأطراف الأخرى ولعله من المناسب أن اقترح من خلال هذا المقال إقامة ورش عمل من قبل محطات الإذاعة والتلفزيون يدرب فيها المشتركون في البرامج التي تقدمها هذه المحطات خاصة ذوي المشاركات الكثيرة إذا أردنا لبرامجهم ومشاركاتهم أكبر أثر وفائدة، وليس في خضوعهم لهذه الدورات منقصة لهم، فالحياة كلها مواقف ومران وتدريب.

وكل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا ودون تعليق.

المصدر: aleqt