الإنفاق في القرأن والحديث

 

الإنفاق تربية للنفس وتزكية للمال *

 

- الحث على الإنفاق .

- الإنفاق والبر .

- ممارسة الصعاب .

- تربية النفس .

- صدقة السر.

- الإنفاق على ذي الرحم .

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين .

قال الله سبحانه :

( لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبّون وما تنفقوا من شيء فإنّ الله به عليم ) (1) .

البرّ أصله من السـعة بحسب اللغة وقال الراغب الاصفهاني في المفردات: أن البر خلاف البحر، وتصور منه التوسع فاشتق منه البر أي التوســـــع في فعل الخير.

والفرق بين البرّ والخير أن البرّ هو النفع الواصل إلى الغير مع القصد إلـــــى ذلك والخير يكون خيراً وإن وقع عن سهو وضدّ البر العقوق وضدّ الخـــــــير الشر.

ويقال للصحراء (البَر) بفتح الباء لســــــــعة الصحراء ولهذه الجهة أيضاً يقال للأعمال الصالحة ذات الآثار الواسعة التي تعم الآخرين وتشملهم (البر) بكسر الباء.

واختلف المفسّـــرون في البر بحسب الاصطلاح فمنهم من قال هو الجنة وقيل هو الطاعة والتقوى وقيل صالحين أتقياء ومنهم من فسره بالأجر الجميل وأما المعنى كما عن الطبرسي في مجمع البيان: أي لن تدركوا بر الله تعالى حتــى تنفقوا المال وإنّما كنّي بهذا اللفظ عن المال لأن جميع الناس يحبّون المـــــــال وقيل معناه ما تحبّون من نفائس أموالكم دون أرذالها كقوله تعالى :

( ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ) (2).

وقيل هو الزكاة الواجبة وما فرضه الله في الأموال عن ابن عباس والحســن .

وقيل هو جميع ما ينفقه المرء في ســـــــبيل الخيرات عن مجاهد وجماعة وقد روي عن أبي الطفيل قال اشترى علي ثوباً فأعجبه فتصدّق به وقال ســــمعت رسول الله(ص) يقول من آثر على نفسه آثره الله يوم القيامة بالجنة ومن أحب شيئاً فجعله لله قال الله تعالى يوم القيامة قد كان العباد يكافئون فيما بينهـــــــــم بالمعروف وأنا اكافيك اليوم بالجنة (3).

وفي تفسير التبيان حمل الشيخ الطوسي الآية على الخصوص إذ قال:

( والأولى أن تحمل الآية على الخصوص بأن يقول :

هي متوجهة إلى من يجب عليه إخراج شيء أوجبه الله عليه دون من لم يجب عليه..)(4).

وبالرغم من اختلاف الأقوال وترجيح بعضها على بعض بحسب التتبع لأغلب التفاسير هناك في نظري مســـــألة أهم منحصرة في قوله تعالى (مما تحبّون) تبدو شديدة الأهمية في الآية الشريفة.

وقد سبقت هذه الآية الشـــــريفة آيات عديدة تحث على الإنفاق ووجوب الزكاة وهذا مما لا ريب فيه ولكن الآية الشـــــــريفة هذه لها ميزة مهمة على كل آية وردت في باب الإنفاق، إذ أنها لم تتحدث عن الإنفاق وحسب وإنما أشــــارت إلى أمور منها :

1ـ نيل الإنسان الدرجات العالية عند الله سبحانه.

2ـ الأقدام على التضحية بأغلى شيء على النفس.

أما الميزة الأولى فهي من الأهداف السامية لدى المؤمن والســـــاعي إلى البر ولا حاجة للتفصيل فيها لوضوحها.

وأما الثانية فهي ما أردنا من نقل الآية الشريفة وإن كنا قد أشرنا بشكل سـريع إلى بعض خصوصيات تربية النفس في موضوعنا الســــــــابق بعنوان طريق الجنة وكان أحد الطرق هو (الإنفاق من اقتار)(5).

أما هنا فنريد أن نقف على مدى صعوبة الإنفاق على النفس .

تربية النفس

الله سبحانه وتعالى خلق الكون والإنسان لهدف وغاية فأرسل الرسـل والأنبياء والأوصياء(ع) لأجل تربية الإنســــان وصلاحه والهداية إلى الغاية من الخلق وكان التركيز على تربية النفس تربية صحيحة حتى يصلح الفرد وبصلاحــــه يصلح المجتمع وقد ركّز الإسلام على جانب التربية إذ قال ســـبحانه في كتابه الكريم :

( هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ) (6)

أي يطهرهم من رجــــس الشـــــرك وعصبية الجاهلية والتزكية هي النمــــــو والتكامل.

يقال: العلم يزكو على الإنفاق، أي أن الإنفاق من العلم ينميه ولا ينقصـــــــه ، والتزكية أيضاً هي تطهير المال، ينميه ويضاعفه، ومنها الزكاة.

والتطهير والتنمية والتكامل عملية تربوية بالأساس ، وكلمة تربية تعني النماء والتكامل ، ربا الشيء يربو، أي زاد ونما وارتفع .

وتربية النفس تكون بواسطة السيطرة والقيادة الصحيحة للنفـــــس لا أن تكون النفس هي القائد للإنسان، وهذه المسألة تحتاج إلى وقت وممارســــــة كبيرين فسيطرة الإنسان على نفسه ومسك زمامها بيده أمر صعب وشـاق رغم أن كل إنسان يبغي الســــــــيطرة عليها ولكن القليل ينجح في المحاولة لأن القليل من الناس بل النادر منهم من لا يريد أن يشـــــار إليه بالصلاح والتربية والأخلاق الرفيعة.

ممارســــة الصعاب

وقد ركّزت التفاسير والأحاديث الشريفة على مســـــــــألة تربية النفس تركيزاً واضحاً.

قال الإمام أمير المؤمنين(ع) :

(من نصّب نفسـه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره ، وليكن تأديبه بسـيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلّم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلّم الناس ومؤدبهم) (7).

وفي قصة تنقل في أحوال الرســــول الاعظم(ص) إذ كان كافلاً لطفل يتيم في معيشــته وكان هذا الطفل كثيراً ما يؤذي النبي(ص) وحينما مات الطفل حزن رســـول الله(ص) حزناً كبيراً ، فأراد جماعة من الأصحاب أن يخففوا الوطأة على النبي(ص) فقالوا له :

أنأتي لك بيتيم غيره ليرتفع حزنك ؟

قال النبي(ص) : إن ذلك الطفل كان يؤذيني وثوابي في تربيته أكثر لذا حزنت لفراقه.

وحسب الظاهر فإن الإنسان يفر ـ في طبعه ـ ممن يؤذيه لذا تعتبر هذه القصـة دليلاً على سمو النفس عند النبي(ص) ولكن السؤال هنا :

هل يحتاج النبي(ص) إلى تربية النفس كما نحتاج نحن ؟

والجواب :

أن هناك فرق بين النبي وبيننا فنفس النبي كاملة ونفوسـنا ناقصة ولكن الكمال أيضا فيه درجات كما في قوله تعالى :

(وقل ربّ زدني علماً) (8).

فالعلم والكمال درجات ورســــــــول الله(ص) يريد الوصول إلى أعلى مراتب الكمال كما دلت عليه سيرته وتصرفاته.

وفي الحديث الشريف أن الإنســـــــــــان إذا قال ( اللهم صلى على محمد وآل محمد(ص) يزيد الله ســـــبحانه درجة النبي محمد(ص) درجة ويثيب المصلّي أيضا.

نعم لو لم نصل عليه ( فلا ينقصه ذلك شـــيئاً ولكن في الصلاة عليه تزكية لنا ورفعاً لدرجاته ) . لذلك كان رسول الله(ص) مع علو درجاته يؤذي نفسـه في تربية اليتيم لنيل الدرجات العليا.

وهنا تأتي الصعوبة في تربية النفس إذ أنّك تختار الأشــــد عليها لأجل الكمال وروي ( ما عرض لعلي (ع) أمران قط كلاهما لله طاعة إلا عمل بأشـــــدهما وأشقهما عليه) (9).

فكلا العملين فيه مرضاة لله سبحانه ولكن أمير المؤمنين(ع) يختار الأشــــد أو الأصعب لأن التربية في ممارسة العمل الأشق تكون أكمل.

والمراد من الأشق والأصعب ليست المشقة البدنية بمقدار ما هي روحية يعني الأشق الروحي، لأن الشيء إذا لم يكن له مشقة على الروح فالجسم يتحمله بل يتشوق إليه على صعوبته.

سهر الإنسان في الليل، أمر شاق وصعب إذا كان ينام مبكراً، أما إذا صـــــار السهر سبباً لعملٍ يحبه الإنسان كرؤية إنسان عزيز عليه فالصعوبة لا يحـــس بها لأن الروح لم تستصعبها، فصعوبة البدن توجد عندما توجد الصعوبة على الروح .

الصعوبة تظهر على البدن إذا كان في العمل صعوبة على الروح وأما لو لـــم تكن هناك صعوبة على الروح فلا تصعب على البدن .

فالمراد إذن من الأشق والأصعب هو المشقة والصعوبة الروحية وهي التــــي تربي النفس لا صعوبة العمل على البدن .

الإنفاق والبر

ومن خلال تتبعي لأغلب التفاسير وجدت أنها تركّز على معنى البر بشــــــكل كبير وفرقه عن الخير كما إنها تبين معنى الإنفاق غالباً أما الشــــــــيء الكبير والمفيد وهو ما يقع على الروح وتغذيتها بالمعاني الشــــــــديدة لم تشر إليه إلا نادراً ومنها أن ينفق الإنسان ما يكون عزيزاً عليه وحريصاً على الاحتفاظ به لذا فإنّ الوصول إلى مرتبة البر الحقيقية والواقعية من شـــــــــروطها أن ينفق الإنسان مما يحب من أمواله وليس مما زاد منها .

ومختلف الأحاديث والآيات الشـــــريفة تركز على هذا المعنى ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) والمهم فيها ( مما تحبون ) فانه العامل الأســـاسي في تربية النفس وبعكسه لا تتربى النفس والإنفاق حينها ليــــــس إلا قلّة للمــــــال والأراضي والملابس وما شابه لا غير..

وكما هو معلوم فإن الله ســــبحانه لا يحتاج إلى الإنفاق ولا إلى المنفق كما أنه قادر على أن يخلق الجميع أغنياء فلا حاجة إلى الإنفاق وانما جعل الغنـــــــي وجعل الفقير لكي يكون هناك منفق ويتربى الإنسان تربية روحية عالية يجتاز بواسطتها المحن العديدة والاختبارات الإلهية للنفس الإنسانية..

وعلى ســـــــــبيل المثال لو كان هناك فقير يحتاج إلى رغيف واحد من الخبز والمنفق لديه مجموعة من الأرغفة وأنفق رغيفاً واحداً يســــمى إنفاق وللمنفق الأجر والثواب ولكن هذا العمل لا يربّي النفس لأن المهم هو التربية وهي لا تتحقق إلا بالإنفاق مما يحب الإنســــــان لأن الحب الواقعي لله، والتعلق بالقيم الأخلاقية والإنســـــــانية إنما يثبت من خلال الولاء ونبذ الأنا والتعلق بالخالق دون المخلوق ومســـتلزمات الحياة. فمن يبذل القليل أو الحقير من ماله أو مما لا يحبه لم يبرهن على تعلقه وولائه الروحي لمنزلة الخالق سبحانه.

فإذا اســـــــتطاع الإنسان أن ينفق مما يحب أو الشيء الذي يكون عزيزاً على نفسه حينها تتربى النفس قال سبحانه وتعالى :

(ويطعمون الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً) (10).

وفي بعض التفاسير أن الضمير في (حبّه) يعود على الطعام فعن الطبرســــي في مجمع البيان قال :

( ويطعمون الطعام على حبّه أي على حب الطعام والمعنى يطعمون الطعـــام اشد ما تكون حاجتهم إليه وصفهم الله سـبحانه بالاثرة على أنفســــــــــهم وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري أن النبي(ص) قال ما من مســـلم أطعم مســلماً على جوع إلا أطعمه الله من ثمار الجنة وما من مسلم كسا اخاه على عري إلا كساه الله من خضر الجنة ومن سقى مســـلماً على ضمأ ســقاه الله من الرحيق قال ابن عباس يطعمون الطعام على شهوتهم له ومحبتهم إياه..) (11).

قد يكون للإنســــــــان طعام فضل من يومه الماضي أو بعد أن تناول ما يكفيه فينفقه على الفقير لأنه زائد عن حاجته هذا العمل فيه ثواب كبير ولكن ليــــس فيه تربية للنفس أما الطعام الذي يحتاج إليه الإنســــــــان وهو جائع فينفقه هنا تتجلى التربية في قوله تعالى (حتى تنفقوا مما تحبون) .

ولو ترقينا أكثر وجعلنا معنى البر هو الجنّة فيصير معنى الآية الشـــــريفة أن الجنة محرمة على من بذل الحقير من ماله وفي منال من بذل ما يحب مــــــن ماله فالقرب من الله سبحانه والحصول على الدرجات العالية والفوز بالجنــــة على اختلاف معاني البر يتمثل في البذل والتضحية بأعز وأغلى ما يملكـــــــه الإنسان .

الحث على الإنفاق

وقد حثت الروايات على الإنفاق وجاء في إرشـــاد القلوب للديلمي أنه قال : أن أمير المؤمنين(ع) بكى يوماً فسألوه عن سبب بكائه، فقال :

مضت لنا ســــبعة ايام لم يأتنا ضيف ، وما كانوا يبنون منزلاً إلا وفيه موضع للضيافة، وضيف الكريم كريم. أربعة أشـــياء لا ينبغي للرجل أن يأنف منهـــا قيام الرجل من مجلسه لأبيه واجلاسه فيه، وخدمة الرجل لضيفه وخدمة العالم لمن يتعلم منه والسؤال عما لا يعلم، وكانوا (عليهم السلام) يخدمون الضيـــف فإذا اراد الرحيل لم يعينوه على رحيله كراهة لرحلته وأعظم الجود الإيثار مع الضرورة الشــــــديدة كما آثر آل محمد (ص) بالقرص عند افطارهم ، وباتوا طاوين فمدحهم الله سبحانه بسورة هل أتى ، قال مصنف هذا الكتاب :

ينبغي للعبد أن يكون الغالب عليه الإيثار والسخاء والرحمة للخلق والإحســان إليهم ، فان هذه أخلاق الأولياء وهو أصل من أصول النجاة والقرب مــــن الله تعالى ، فقد قال النبي (ص) :

(الســـــــــخاء شجرة من اشجار الجنة من تعلق بغصــن منها فقد نجى ، وقال جبرائيل (ع) : قال الله تعالى :

هذا دين ارتضيه لنفسي ولا يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق فالزموهما ما استطعتم..) (12) .

وقال النراقي في جامع السعادات :

(وأن يعطي الاجود والأحب والأبعد عن الـشـــبهة ، لأن الله طيب لا يقبـل إلا طيباً، واخراج غير الجيد سوء أدب بالنسبة إلى الله، إذ إمســـاك الجيد لنفســـه وأهله ، وانفاق الرديء في سبيل الله ، يوجب إيثار غير الله وترجيحه عليه ، ولو فعل هذا لضيف وقدم إليه أردأ طعام في البيت لانكســـــــر قلبه ووغر به صدره . هذا إذا كان نظره إلى الله بأن يتصدق لوجه الله، من غير ملاحظــــة عوض لنفسه في دار الآخرة ، وإن كان نظره إلى نفســـه وثوابه في الآخرة ، فلا ريب أن العاقل لا يؤثر غيره على نفسه، وليـــس له من ماله إلا ما تصدق فابقى ، وأكل فأفنى .

ولعظم فائدة إنفاق الاجود الأحب ، وقبح إنفاق الردئ الأخس ، قال الله تعالى: ( يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَســــَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَســــْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) (13).

أي لا تأخذونه إلا مع كراهية وحياء ، وهو معنى الاغماض ، وهذا شـــــــأنه عندكم فلا تؤثروا به ربكم.  وقال سبحانه :

 ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون)(14)

وقال :

(ويجعلون لله ما يكرهون)(15).

وفي الخبر : ( سبق درهم مائة ألف درهم ) وذلك بأن يخرجه الإنســــان وهو من أحل ماله وأجوده ، فيصدر ذلك عن الرضا والفرح بالبذل ، وقد يخــــرج مائة ألـــف درهم مما يكـــره من ماله، فيدل علـــى أنه ليس يؤثر الله بشـــيء مما يحبه(16).

الإنفاق على ذي الرحم

ذكر علماء الأخلاق في مسألة الإنفاق نماذج لمشقة وصعوبة الإنفاق علـــــــى النفس منها الإنفاق على ذي الرحم وقد ورد في بعض الروايات أنه افضل من الإنفاق على غير ذي الرحم وان الإنفاق على الوالدين أفضل من الإنفاق على ذي الرحم كما ورد عن رسول الله (ص) :

( دينار أنفقته على أهلك ، ودينار أنفقته في سـبيل الله ، ودينار أنفقته في رقبة ، ودينار تصدقت به على مســـــكين ، واعظمها أجراً الدينار الذي أنفقته على أهلك)(17).

ومن الممكن أن تكون هــناك أسباب عديدة لتصوير المشــــــقة فغالباً ما يكون للإنفاق على الأقارب والأرحام صعوبتان :

الأولى :

أن الرحم يعرفون حدود وقدرة المنفق من أرحامهم ولذا لا يســتعظمون انفاقه لو لم يكن مما يحب لأن المنفق لو اعطى مبلغاً من المال إلى غير رحمــــــــه فسيشكره على أي حال لعدم معرفة حدود قدرته على الإنفاق أو كون الشـــيء المنفق من أجود ما يملك..

أما الرحم إذا أعطيته مبلغاً زهيداً أو من أسوأ ما أملك فلا يستعظم تلك المنحة وهذا ما يولد صعوبة على نفس المنفق حين الإعطاء.

الثانية :

توقع الجفاء من قبل الرحم لأن الرحم يشعر بذل واســـــتصغار أمام رحمه إذا أنفق عليه أما الفقير من غير ذي الرحم فانه لا يشعر بذلك الشعور.

وهذان الســـببان من بين أسـباب عديدة تجعل الإنفاق على الرحم أصعب على النفس من غير ذي الرحم وقد تكون قطيعة بين الأرحام لوجود مشــاكل عديدة بينهما ويريد أحدهما الإنفاق عليه فيكون صعباً على النفس تقبل هذا الأمر إلى أسباب أخرى لا مجال لبحثها هنا.

وأما بالنسـبة للوالدين فالأمران اللذان ذكرناهما يكونان أصعب وأعظم عليهما لأن الوالدين يعتبران ولدهما وما يملك لهما فكل ما يعطي لا أثر له عندهمــــا من هنا قال علماء الأخلاق أنه من الصعب على الإنسان أن يعطي شــــــيئاً لا أثر له عند الآخذ .

صدقة السر

قال رسول الله (ص) :

( صدقة السر تطفئ غضب الرب عز وجل )(18).

ومن الصعب على النفس أيضا أن تعطي شيئاً دون أن يعرف بذلك أحد ولكـن الله سبحانه والأحاديث الشريفة قد حثت عليه وفلسفتها أن الآخذ لا يشعر بالذل أما المعطي فيفقد المدح فإذا كان الإعطاء علنياً وهناك مـن يمدحني لا يجعلني استصعب الإعطاء أما في السر فمن ذا الذي يمدحني ؟

فقد قلّ من مالي كمية دون أن يمدحني أحد ولكـــــن هذه العطية تطفئ غضب الرب سبحانه، والله سبحانه ســـريع الرضا وليس بسريع الغضب أي لا يظهر غضبه بسرعة فإذا عصى العبد مرة ومرتين أو اكثر لا ينزل به العذاب أمــــا إذا عمل عملاً صالحاً فانه سريع الرضا والأجر.. بعكس الإنســــــــــان إذا ما غضب فانه سرعان ما يظهر على جوارحه وخصوصاً اللسان فكلما يخطــــر على باله يظهر بلســانه أما الله سبحانه فليس كذلك ولكن لو ظهر غضبه على البشر لا راد لأمره وانتقامه.

لو أراد الإنسان أن يكون سريع الرضا وبطئ الغضب صعب ذلك عليه وفيــه مشقة كبيرة على النفس كما أن الإنفاق في السر دون مدح صعب ولكنه يطفئ غضب الرب الذي لا راد له إلا هو سبحانه.

إذن المهم في الإنسـان هو ممارسة الفضائل والتحلّي بالأخلاق الرفيعة وتربية النفس على ذلك بتحمل المشاق والسيطرة عليها، وان لا يبخل على الناس لكي لا يتأذى المحتاج من ذلك والحمد لله رب العالمين.

* من المحاضرات الأخلاقية لسماحة المرجع السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) .

........................................................

الهوامش :

1 ـ آل عمران/ 92.

2 ـ البقرة/ 267.

3 ـ مجمع البيان، ج1-2، ص473.

4 ـ التبيان في تفسير القرآن، ج2، ص530.

5 ـ راجع العدد رقم 47 من مجلة النبأ.

6 ـ الجمعة/ 2.

7 ـ نهج البلاغة، حكمة 73.

8 ـ طه/ 114.

9 ـ البحار، ج41، ص133، باب 107، ح45.

10 ـ الإنسان/8.

11 ـ جمع البيان، ج9-10، ص407.

12 ـ إرشاد القلوب، ج1، ص137، الأعلمي.

13 ـ البقرة/ 267.

14 ـ آل عمران/ 92.

15 ـ النحل/ 62.

16 ـ جامع السعادات، ج2، ص132.

17 ـ جامع السعادات، ج2، ص141.

18 ـ جامع السعادات، ج2، ص145.